نشر بتاريخ ٣يوليو ٢٠٢٠
هل بمناهضة النيوليبرالية نناهض العنصرية؟
يامحتجي العالم اتحدوا
الإدانة الدولية للعنف العنصري من قبل سلطات إنفاذ القانون الأمريكية ليست جديدة ،لكن النطاق والامتداد الإستثنائيين لرد الفعل علي مقتل جوروج فلويد التي أشعلت أسابيع من الاحتجاجات الجماهيرية في ٦٠مدينة علي الأقل تمثل تغييرا.
في العديد من الأماكن ، حول الحشود انتباههم إلى ممارسات دولهم. في نيوزيلندا ، شدد السكان الأصليون على ضعفهم إزاء التنميط العنصري. في بريستول ، إنجلترا ، أطاح المتظاهرون تمثال إدوارد كولستون ، تاجر الرقيق البارز ، وألقوه في الميناء. في بلجيكا ، أضرم محتجون النار في تمثال للملك ليوبولد الثاني. تجاوز رد الفعل إدانة الظلم العنصري ؛فعندما أطلقت شرطة مينيابوليس النار على الصحفيين الأجانب بأسلحة “غير مميتة” ، مما أدى إلى انتقادات من الحكومات للإعتداء علي حرية الصحافة.
قامت احتجاجات واسعة النطاق في أوروبا ردا على مقتل جورج فلويد بإلقاء أضواء لم يسبق لها مثيل على العلاقة بين الدول الأوروبية وسكانها السود. تحولت الحشود في بلدان متنوعة مثل النمسا وبلجيكا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وهولندا والمملكة المتحدة وهنغاريا وجمهورية التشيك إلى إدانة العنصرية ليس فقط في الولايات المتحدة ، ولكن أيضًا في أوطانهم.
قبل عقدين من السنين تقريبا ؛في٢٠٠٣ تحديدا شهدنا الملايين يتدفقون في ٢٠مدينة علي الأقل لمناهضة الحرب علي العراق ،وتم اختيار يوم مولد مارتن لوثر كينج -ملهم حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة -ليؤكد العمق التاريخي لنضالات الشعوب الممتدة ،ويربط بين حركات السلام في العالم وبين حركة الحقوق المدنية.
هناك تكافل تاريخي بين حركات التحرر الوطني من الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية وبين حركة مناهضة العنصرية في الولايات المتحدة خاصة حركة الحقوق المدنية ١٩٥٥ ،بما يمكن معه القول أن مناهضة الإستعمار تغذت بمناهضة العنصرية ،وتغذت الأولي من الثانية.
العلاقة بين الفصل العنصري في الستينات وأوائل التسعينات جعلت من نيلسون مانديلا وغيره من أبطال المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا أبطالا أمريكيين من أصل أفريقي.
قبل عقد من السنين تقريبا اندلعت الموجة الأولي من الربيع العربي التي انطلقت من تونس لتمتد إلي مصر ومن ثم إلي معظم البلدان العربية؛ وإن تفاوتت قوتها واستمرارها من بلد لآخر ،وقد كان هذا الحراك ملهما لحركة الميادين في أوربا وأمريكا اللاتينية.
من بداية الألفية الثالثة شهدنا نضالات واحتجاجات متنوعة ،أخذت طابع الموجات التي تتصاعد تارة وتخبو أحيانا أخري ، يعرب المتظاهرون فيها عن غضبهم من:وحشية الشرطة ،والفساد ،ورأسمالية المحاسيب ،وغطرسة من هم في السلطة ،والتلاعب بالسياسة ،وضعف المؤسسات السياسية عن تمثيل الناس ،وتهميشهم الجماعي،وتفاقم التفاوتات في الثروة والدخل والفرص …تطول القائمة ولكن ما يجمعها طلب انساني عالمي علي الكرامة والعدالة والحرية.
ولكن لماذا يجب أن نتوقف أمام هذه الموجة العالمية من الاحتجاج ضد العنصرية التي جعلت الصحفي كيم زيتر يكتب أن التأثير العالمي لحركة الحياة السوداء في الأسابيع الأخيرة بدا وكأنه تحول “ضخم مثل سقوط جدار برلين”،ولماذا يجب فهمها في سياق عقدين من الاحتجاجات المتواصلة،أي من بداية الألفية الثالثة؟وما علاقة هذه الاحتجاجات بتفشي فيروس كورونا؟
الدولة وصناعة التمييز الممنهج
في العرق ،كما في الحرب علي الإرهاب ،والحرب علي الهجرة غير المشروعة ، والحرب علي الجريمة المنظمة ،والحرب علي الوباء تستخدم الدولة المعاصرة -في حروبها تلك-آليات متشابهة لتحقيق النصر علي عدو غير واضح المعالم والحدود ،ويتم تعريفه وفق مصالح كل دولة برغم التحالفات بينهم ،وفي الحروب كل شيئ مشروع أو يمكن شرعنته لتحقيق النصر الذي لا يأتي أبدا.
تسير الدولة تجاه المختلف عرقيا أو ثقافيا أو دينيا ،أو الارهابي ،أو المهاجر غير الشرعي ،أو المجرم قانونا في مسارات متعددة تبدأ بنزع الانسانية لتنتهي بنزع المواطنية عن الشخص أو الفئات المستهدفة ،وتستخدم في سبيل ذلك الآليات التالية:
١-نزع الانسانية ؛فالامريكان السود والمهاجر والارهابي مجردون من الانسانية ،ومن ثم لا يجب أن يتم معاملة من نزع انسانيته بالمساواة لأنهم يعتبرون أقل قيمة ،ويتم الاعتداء علي حياة هذه المجموعات تماما عن طريق تحويلهم إلي صور نمطية أو أرقام لا معني لها ،وعندئذ يبدأ العنف الممنهج المبرر أو “المشروع”. أدركت هذه الحقيقة في السجن فتجاوزات مؤسسات إنفاذ القانون لا يمكن لها أن تستمر في عنفها المنظم تجاه المسجونين ،ولا يمكن لتابعيها أن يحافظوا علي درجة هذه التجاوزات واستمرارها دون نزع الانسانية عن الطرف المقابل؛الذي يتحول إلي عدو في حروب غير واضحة المعالم والاهداف.
٢-التجريم/المجرم مخلوق من الخيال القانوني بإستخدام أدوات الدولة ،ويأتي احتكارها للعنف من خلال مؤسسات إنفاذ القانون ليضمن تنفيذ وتطبيق التجريم علي فئات محددة ،وتتطور من خلال استخدام التقنيات التشريعية والاجراءات البيروقراطية لتصنيع الجماعات المجرمة ،وتكون الدعايات والايديولوجيات والأفكار لإضفاء الشرعية المعنوية علي التجريم القانوني. ثنائية المجرم /غير المجرم تخلق المعيارية المعنوية والتشغيلية للمجالين العام والخاص معا. وتستخدم الدولة مفاهيم الحرب /الأمن القومي والسيادة لتعزيز نطاق المشروعية الموضوعي والمجالي ،وتحديد الفئات / الأفراد المشمولين بها والخارجين عنها ،وكثير من الاجراءات القانونية في الحروب المتعددة التي تشنها الدولة تستند إلي الاجراءات الاستثنائية من عدم إفتراض للبراءة (المهاجر غير الشرعي)،أو الحق في محاكمة عادلة (جوانتانامو)، أو عدم إدانة أفراد الشرطة في الأحداث العنصرية لأنهم في حالة دفاع مشروع عن أنفسهم.
من الملاحظات الهامة التي إلتقطها بخبرة السجن؛ أن من يمتلك القوة في الدولة المعاصرة ينتج اللاشرعية القانونية وهي تتضمن تهميش إجتماعي وفكري وسياسي وعرقي ،وبرغم قدرة من يملك القوة في تحديد اللاشرعية إلا أن ذلك ينتهي عادة إلي نزع المشروعية عن الفئات التي تحاربها. نظام ٧/٣ في مصر أتخذ التدابير القانونية كافة التي تضمن تصحير المجال العام ،إلا أن إلتزامه بالشرعية التي أنتجها تظل معدومة. [ففي حالتي استمر حبسي الاحتياطي لمدة ثلاث سنوات ونصف برغم أن أقصي مدة للحبس الاحتياطي وفق القانون الذي تم تعديله من قبل نفس النظام سنتين فقط-هل يمكن أن يتم ذلك إلا بنزع الشرعية القانونية عنك بعد نزع الانسانية].
٣-تطور التمييز ليكون ثقافيا ؛فأوضاع الفقراء والفئات الضعيفة والسود في الولايات المتحدة والارهاب هو نتاج لطباعهم وليس نتاج لتخلي الدولة النيوليبرالية في الولايات المتحدة والعالم عن سياسات الدعم الاقتصادي والاجتماعي للفئات الأكثر ضعفا في المجتمع ،والمسلمون جميعا -في سياسات الحرب علي الإرهاب -تهديد للحضارة بحكم ثقافتهم/دينهم،والفقراء باتوا كذلك لأنهم لا يريدون أن يعملوا ،وليس بسبب سياسات إعادة التكيف الهيكلي التي جعلتهم أكثر ضعفا.
٤-صناعة التهديد:المهاجرون تهديد للوظائف ومستوي معيشتنا ،والمسلمون تهديد للحضارة الغربية بقيمها ،والسود تهديد للهياكل المنظمة ،والفيروس تهديد للاقتصاد والعولمة قبل البشر وصحتهم ،والارهاب تهديد للدولة الوطنية، والفقراء تهديد للنمو الاقتصادي والاستقرار السياسي …إلخ ،وهكذا يعيش الانسان المعاصر في تفزيع وتخويف مستمر ليبقي الحال كما هو عليه حين يتم إلقاء اللوم علي الأقليات ،والفقراء ،والجماعات الارهابية ،والعمال المهاجرين برغم أنهم جاءوا لملء فجوة توفر عمالة رخيصة في ظل تحولات إقتصادية.
في سياسات التفزيع دائما يتم استبدال شيئ بآخر عبر ثنائيات متعددة يتم إبراز التناقض بينها:الحماية من الفيروس في مقابل انتهاك الخصوصية والتنازل عن بعض حقوق الانسان ،وفي الحرب علي الإرهاب ؛الحفاظ علي الدولة في مقابل غلق المجال العام ،وفي الهجرة ؛الرفاهية الاقتصادية في مقابل منع الهجرة …إلخ. المشكل أن الحروب لا تنتهي ولا يتم تحقيق الهدف الذي تم التنازل له: القضاء علي الفيروس أو الاستقرار أو زيادة الوظائف أو الرفاهية الاقتصادية.
٥-التصنيف /الإزالة ؛فالدولة تستثمر قوتها في تحديد المشمولين بمواطنيتها ،وتخلق الاستبعاد الوطني وتحوله إلي مؤسسات. الدولة تخلق عملية إزالة موحدة من خلال توسعة الجرائم التي تؤدي إلي الازالة هي تستخدم علي سبيل المثال آليات إثبات قانونية أقل للفئات التي تشن عليها الحرب ،وتوفر حماية إجرائية أقل من القانون العادي لهذه الفئات ؛ففي مكافحة الارهاب ومناهضة الهجرة غير الشرعية ومواجهة عنف الاقليات ؛هناك اتساع دائم للسلطة التقديرية لمؤسسات إنفاذ القانون أو زيادة للعقوبة.
ماذا تعلمنا هذه الآليات ؟
١-إذا تم محو المختلف دينيا ولغويا وعرقيا واجتماعيا ،فلن يبقي أي شخص أكثر أمانا ،وسيكون هو الهدف التالي فقط.
مأزق الدولة المعاصرة عجزها عن إدارة التنوع علي المستويين الوطني والدولي برغم أنه بات التحدي الأساسي للدول جميعا ؛ديموقراطية وتسلطية.
٢-يجب التنبه إلي أنه في كل مرحلة من مراحل صراع الدولة المعاصرة مع قضية ما ؛يترك لهذه القضية أن تقود المجالات الأخري وتعيد تشكيلها ؛ففي الولايات المتحدة لم يتم صياغة سياسات جديدة للهجرة بعيدا عن سياسات الحرب علي الإرهاب بعد ١١سبتمبر ،كما جري تصحير المجال العام في مصر منذ ٢٠١٣ في إطار الحرب علي الارهاب.سياسات الهجرة للاتحاد الأوربي تقود علاقاته الخارجية وهي أحد المحددات الاساسية في دعم الانظمة-جنوب المتوسط- وإن اتسمت بالتسلطية.
٣-انتقاص حقوق الفئات التي يتم شن الحرب عليها بتحويلهم إلي غير مواطنين ؛هي المقدمة الضرورية لانتهاك حقوق المواطنين أنفسهم ،فقد أثبتت الدراسات أن الحقوق التي يتم انتقاصها في هذه الأوقات ؛أوقات الحروب والأزمات لا يتم استردادها خاصة أننا ننتقل من حرب لأخري علي مدار العقدين الماضيين.
عقدين من النضال ضد النيوليبرالية
نحن ندرك أن هياكل السلطة تختلف من بلد لآخر ،وكذا المظالم التي تتحرك عليها الاحتجاجات ،ولكن إدراك المشترك مسألة هامة:
١-التغييرات الرئيسية التي تقودها القاعدة الشعبية متباعدة وموجهة تجاه قضايا متعددة وفي مجلات شتي ،ولذا فهي تأخذ شكل جبهات ايديولوجية وسياسية واسعة ،وهي سمة للاحتجاج علي النيوليبرالية التي هي ليست مشروعا سياسيا فقط بل هي مشروع شامل يعيد صياغة هياكل السلطة والثروة العالمية داخل الدولة ليكون علي مثاله ،وهي تستخدم في سبيل ذلك أدوات متعددة وتوظف مؤسسات شتي جوهرها خلق المعيارية العالمية؛قيميا ومؤسسيا وقانونيا واجرائيا من خلال آليات السوق.
الحركات الاحتجاجية علي مدار العقدين الماضيين في جوهرها مطالبات بأن يحكمنا سلطة معيارية أفضل وأكثر وعدا بالكرامة والتحرر الانسانيين. هناك رفض معياري للعبودية والعنصرية ،واللامساوة والتفاوتات بين البشر ،والتمييز أيا كان نوعه ،وللحرب …إلخ.
النيوليبرالية تظهر تبدياتها في كل ركن من العالم لأنها ممارسات صغري للحكم والثروة وليست أيديولوجية ،ويكون الاحتجاج عليها مثيلا لها حين يظهر في أركان عدة يبدو أنه لا رابط بينها.
ويعمق من هذا تحول الاحتجاج من اعتماد علي المؤسسات الكبري كالنقابات العمالية فيما مضي إلي الاستناد إلي شبكات واسعة غير هرمية ولا مركزية من الفاعلين المؤقتين.
لكن الدرس الهام في هذه النضالات أنه عندما تدافع مجموعة من البشر بنجاح عن حقوقهم كبشر ؛فإن ذلك يعطي الإلهام والثقة للآخرين ،حدث هذا في الربيع العربي ويحدث الآن في مناهضة العنصرية ،وسيحدث دائما في المستقبل.
٢-هناك عجز حتي الآن عن مواجهة القمع الهيكلي لمعظم المواطنين من تحالفات نخب أصبحت ثرية تماما ولكنها منفصلة عن شعوبها.
لذا فكثير من خبراء مناهضة العنصرية يرون أنه لا يمكن حل معضلتها دون تغيير جذري في الولايات المتحدة وهو ما لم يتحقق علي مدار قرن ونصف حتي الآن. العنصرية في الولايات المتحدة نظامية وممنهجة وتتحرك علي الهياكل الأعمق لعدم المساواة ،وهي سمة أمريكية مركزية ودائمة كما أكد أحد منظري العرق.
خبرة العقدين تقول أن المحتجين يعرفون ما يحتجون عليه ، لكنهم غير قادرين حتي الآن علي تقديم مشروع بديل يفكك بني السلطة والثروة ، وهنا يكون السؤال هل يتحول الاحتجاج إلي معارك تتراكم فيها الانتصارات في سلسلة متعاقبة ،أم أن النيوليبرالية -وكما فعلت الرأسمالية دائما -قادرة علي تجديد نفسها وإصلاح اخطائها؟وهل سيتطور إدراك المحتجين بأن نضالتهم اليوم التي تتعلق بسياسات الحياة اليومية هي جزء من عقد منتظم من حرب دائمة علي تبديات النيوليبرالية الضارة ؟
الجائحة:إعادة إختراع الحكومة مع تعميق التفاوتات
تتسم الأوضاع في ظل الفيروس بعدم اليقين مع عجز عن ادراك ملامح المستقبل ،ويسرع الوباء من الديناميكيات الكامنة ؛فهو يبرز التطرف في كل أمر ، كما يعمق من خطوط الفصل التي تتجمع حول العرق والطبقة لإنه يزيد التفاوتات في الدخل والثروة والفرص.
وبينما فشل الوباء في وقف العنف بين الدول ، فقد أوجد وفاقم المخاطر على المدى القصير والمتوسط للعنف وعدم الاستقرار داخل الدول.
بالفعل ، فقد عززت COVID-19 الاتجاهات التي تعمق من خطر العنف وعدم الاستقرار داخل الدول ،والتراجع الديمقراطي ، والانهيار الاقتصادي ، واستهداف الأقليات.
لقد أتاح تفشي الوباء فرصاً جديدة لاستهداف الأقليات والقمع الحكومي. وقد وجد أولئك الذين كانوا كبش فداء أو يستهدفون بالعنف من الفئات المهمشة ؛غطاء وحتى وقودا جديدا في الجائحة والأزمة الاقتصادية المصاحبة. ازداد التمييز الديني الذي ترعاه الدولة ، وكذلك خطاب الكراهية والعنف ضد الفئات المهمشة والمختلف دينيا أو عرقيا.
في الوقت نفسه ، وفرت تدابير احتواء الفيروس التاجي وإنفاذها العنيف غطاءً للقمع الذي تقوده الدولة ، والذي من المرجح أيضًا أن يزيد من مظالم بعض المجموعات ، ويضعف الثقة المدنية ، ويزيد من الاضطرابات.
النيوليبرالية مجموعة معقدة من أدوات السياسة والترتيبات المؤسسية والتدخلات التقنية التي تنطوي علي إعادة إختراع الحكومة بشكل يضمن سيطرتها وقوتها في مجالات وانسحابها من أخري. عري الفيروس هذه الحقيقة فبرغم الانفاق العسكري الباهظ علي مدار السنوات الماضية والحضور المتزايد لقوات إنفاذ القانون في عديد المجالات ،إلا أن ترسانة الأسلحة هذه وسيطرة الشرطة لم تستطع أن تتعامل مع تفشي الفيروس.
وقد إلتقط أحد الباحثين بذكاء أن :الفيروس التاجي أثار اضطرابًا كبيرًا من خلال الكشف عن عجز الدولة الحديثة في مواجهة حدث واسع النطاق وكارثي. ” نحن مضطرون لرؤية أن هناك فجوة لا يمكن تجاوزها بين معايير واتفاقيات إدارة الدولة المناسبة خلال الأوقات الروتينية ومنطق التعامل مع حالة الطوارئ “،وهنا تكمن مشكلة الدولة الحديثة ، التي تقوم في المقام الأول على منطق الروتين وتنكر التمايز النوعي لمنطق الطوارئ. كلما زاد تفوق النظام في الإدارة السليمة في ظل الظروف الروتينية ، قل استعداده للتعامل مع سيناريو الطوارئ غير المسبوق.
وبالتالي ، فإن أزمة الفيروس التاجي تستدعي دراسة جديدة لما يمكن توقعه من الدولة الحديثة. لأن الطلب على المساعدة من مؤسسات الدولة كبير بشكل خاص في أوقات الطوارئ ، هناك حاجة لإعادة النظر في البني والهياكل التي تحتفظ بها الدولة في الأوقات الروتينية وخلق التوازن الضروري بين منطق الروتين ومنطق الطوارئ.
ملمح آخر ؛من المقرر أن يؤدي الوباء في المدي القريب إلي عهد جديد من حكومة أكبر وأكثر تدخلا. إدارة الوباء سوف تتطلب حكومات أكبر ،حيث تسارع الدول إلي إنشاء أدوات جديدة موسعة للسيطرة علي الأمراض ،وإدارة المجال العام ،والمراقبة الاجتماعية علي أمل الحد من تفشي الأمراض في المستقبل. عصر الحكومات الكبيرة يعود لكنه سيظهر بطرق مختلفة تماما عن حقبة الستينات والسبعينات.
فبعد عقود من زخم السوق الحرة ، تتبنى الحكومات في الدول المتقدمة والأسواق الناشئة على حد سواء أدوارًا مؤثرة وطويلة الأمد لها في الأعمال الأساسية.
ومع تعثر منظمة التجارة العالمية ،من المحتمل أن يكون هذا مجرد بداية لمجموعة من الإعانات العامة ، والإعفاءات الضريبية ، والمشتريات الحكومية والتخزين ، ومتطلبات الشراء المحلية ، وغيرها من الخطط التي ستضعها العديد من الدول لتشكيل الإنتاج والوصول إلى مجموعة أكبر بكثير من السلع والخدمات التي تعتبر ضرورية لأسباب تتعلق بالأمن القومي – يتم تعريفها الآن على نطاق أوسع من أي وقت مضى لتشمل خطر الانقطاع أو الاعتماد المفرط على الصين أو توفير الوظائف. من المؤكد أن جهود الحفاظ على التجارة الحرة وربما توسيعها لن تنتهي. لكن العديد من هذه المفاوضات سوف تفترض ، وتتغاضى عن ، وأحيانًا تبرز ، تدخلًا حكوميًا مباشرًا أكثر وليس أقل في الأسواق.
بعد ثلاثة عقود من تكوين الثروة على نطاق لم يسبق له مثيل تاريخيا ، فهل نكون الآن -بتدخل الحكومات-على أعتاب فترة غير مسبوقة من إعادة توزيع الثروة في شكل ضرائب أعلى لتمويل التوسع في الرعاية والخدمات الأخري؟
بعض الدراسات تشي بغير ذلك: -السمات التوزيعية للخسائر في الوظائف والدخل أكثر إثارة للقلق. ووفقًا لمسح أجراه بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي مؤخرًا ، فقد تم تسريح 39 بالمائة من العاملين في الأسر التي يقل دخلها السنوي عن 40000 دولار أمريكي.
تضررت النساء بشدة ، وكذلك الأقليات: من بين 20.5 مليون وظيفة اختفت في أبريل ، كانت 55 في المائة من النساء ، مما رفع معدل البطالة للنساء إلى 15 في المائة ومعدل النساء الأمريكيات من أصل أفريقي والنساء من أصل إسباني إلى 16.4 في المائة و 20.2 في المائة على التوالي. ليس هناك شك في أن الوباء كان محفزا لعدم التكافؤ في الفرص.
-أولئك الذين صمدت وظائفهم أثناء صدمة COVID-19 هم بشكل غير متناسب في المهن ذات الأجور المرتفعة نسبيًا والتي يمكن أن تستوعب ترتيبات العمل من المنزل
-كلما كان التعافي الاقتصادي أبطأ ، كلما شعرت بفقدان الوظائف والدخل لفترة أطول وكلما زادت من عدم الاستقرار المالي والمؤسسي والاجتماعي والسياسي
-سيؤدي الاعتماد المتزايد للأتمتة والرقمنة إلى زيادة مشكلة التوظيف. حتى أطفال العاطلين عن العمل قد يعانون: من المحتمل أن يكونوا أقل قدرة على التكيف مع التعليم عبر الإنترنت خلال الوباء وأقل احتمالية أن يكون لديهم المعدات والظروف للقيام بذلك. وستستمر الفجوات التعليمية في الاتساع ، الأمر الذي يديم دورة انعدام الأمن.
– تتراكم الأضرار طويلة المدى على الناس والاقتصاد مع مرور الوقت ، ويصبح عكس ذلك أكثر بدون تدابير الإغاثة والتحفيز.
حتى في أفضل سيناريو ، لن تتعافى خسائر الدخل والناتج القومي على الفور. سيضطر العديد من الأفراد والشركات إلى تحمل ديون من شأنها على المدى الطويل أن تمنع الإنفاق والاستثمار. ولكن لن يتأثر الجميع بالتساوي. سيقع الضرر بشكل غير متناسب على الأسر الأكثر فقراً ، والتي بدورها ستستهلك أقل وستبطئ إحياء الطلب وبالتالي سرعة التعافي.
-إن جزءًا غير متناسب من العبء الصحي والاقتصادي يقع على من هم أقل قدرة على تحمله. يجب على الإدارات المختلفة دعم وتعزيز تدخلات الطوارئ الكبري لتخفيف بعض هذا العبء وتعزيز النمو. وبخلاف ذلك ، ستتفاقم المشاكل الاقتصادية بمرور الوقت وستتعمق التفاوتات ، مما يزيد من خطر عدم الاستقرار الاقتصادي والمؤسسي والاجتماعي.
بعد كل هذا هل يتم الاعتراف بأن تقييم الاقتصادات على أساس الناتج المحلي الإجمالي المحض هو فشل يجب معالجته إذا أردنا الحصول على فرصة لخلق عالم أكثر إنصافًا؟
توفر أزمة الفيروس التاجي ، التي أدت إلى توقف التفاعل البشري بشكل مفاجئ في جميع أنحاء العالم ، فرصة لإعادة النظر في الجوانب العلنية والسرية للطرق التي تدار بها حياة الإنسان – أولاً ،وقبل كل شيء أدوار الدولة والتزاماتها تجاه مواطنيها.
Leave a Comment