نشر في مدى مصر بتاريخ يوليو 2020
لا يهدف هذا المقال للرد على مقال دكتور عزالدين شكري فشير، الذي نشر-19يونيو- في موقع «مدى مصر» وحمل عنوان :«تصورات لتعايش الإسلاميين والعلمانيين»، إذ إني اتفق مع الدوافع النبيلة والمقاصد الأساسية التي دفعت لمطالبته بالتعايش بينهما في هذا التوقيت، من خلال هدنة تستمر ربع قرن: «فإن استمرار هذا الصراع معناه القبول بدرجة عالية من القمع السياسي والاجتماعي، لا تسمح بقيام ديمقراطية ولا تسمح بممارسة الحرية حتى ولو في حماية الدبابات».
هدف مقالي هذا هو إعادة تفكيك وبناء المشكل بين التيارات السياسية في مصر من منظور مختلف، أزعم أنه تجاوز الثنائيات المتعارضة التي انتمت للقرن العشرين، خاصة النصف الثاني منه أو على حد قول المقال امتدت لقرنين من الزمان. فقناعتي التي استقرت من مراجعاتي العديدة -أثناء فترة السجن- أن صيغ القرن العشرين في منطقتنا قد انتهت لعجزها عن توليد الاستجابات المناسبة لتحديات الدولة والمجتمع، ولا يعني الانتهاء اختفائها، فما نسمعه منها الآن ضجيج المرتحل، وهي لا تريد أن ترحل دون أن ندفع تكلفة وطنية باهظة، أشار فشير إلى بعض جوانبها.
المشكل من وجهة نظري أننا نعيش مرحلة خلو العرش -على حد تعبير زاجموند باومان- فالقديم مرتحل والجديد لم يتبلور أو يتمأسس بعد، ويظل دورنا نحن المثقفون هو دفع الجديد قدمًا من خلال تجديد مناهج النظر، وإعادة صياغة الإشكالات، وتجديد الاقترابات والمفاهيم، والبحث عن الديناميات الجديدة، فقد كنت أقول إن المنطقة بعد الموجة الأولى من الربيع العربي غير المنطقة التي كنا نعرفها قبله، والآن يقولون إن العالم بعد «كورونا» مختلف عن العالم قبله.
المشكل التاريخي
في القرن العشرين، حكمتنا ثنائيات متعارضة من قبيل: نحن والغرب، الحداثة والدين، الوافد والأصيل، الاشتراكية والرأسمالية، والقومية والإسلام.. إلخ، والملاحظ أن مقال فشير قد انطلق من ثنائية الصراع الإسلامي العلماني باعتباره مشكل تاريخي يمتد لقرنين من الزمان، إلا إني أتساءل ألا نواجه مشكلًا جديدًا منذ الألفية الجديدة، يتأسس على إنتهاء أهم صيغ القرن العشرين عندنا، وهي دولة ما بعد الاستقلال، والإسلام السياسي، والايديولوجية العلمانية، وهي صيغ تنطلق من إيديولوجيات شاملة قادرة على أن تنتظم جوانب الحياة جميعًا. نحن الآن بإزاء صيغ جديدة تقوم ببناء شبكتها غير الهرمية واللامركزية على قضايا جزئية محددة مثل حقوق الإنسان والجندر والبيئة.. إلخ، ويصير المشكل من وجهة نظري هو إعادة بناء الدولة الوطنية بتجديد أصولها وإصلاح هياكلها من خلال بناء نظام ديمقراطي تشاركي تعددي قادر على أن يلبي الاحتياجات الأساسية للمواطنين.
المشكل التاريخي يتعلق بالمسألة الديمقراطية بجناحيها السياسي والاجتماعي، والتي لا يمكن تحقيقها إلا في إطار تحرير الإرادة الوطنية من هيمنة الإقليمي والدولي. وقد تجلى ذلك في ثورات الربيع العربي بموجاتها والتي تجاوزت أسئلة الهوية/الأيديولوجيا -رغم استخدامها في الصراع السياسي- إلى ما أطلق عليه خطاب المعاش، الذي يدور حول حياة الناس اليومية.
أما المشكل التنظيمي فهو وجود حركة وطنية ديمقراطية ذات مرجعيات فكرية متعددة، وهنا يعاد صياغة سؤال المرجعية -التي هي عند المؤمنين بها مطلقات لا يجوز الحوار بشأنها إلا في جدالات الفكري؛ لنصير أمام تشغيل المرجعية في الواقع فتجيب عن أسئلة الناس الصغرى لا أسئلة الوجود الإنساني في تجلياته الكبري. ففي السياسة لا يجوز النظر للمرجعية منفصلة عن الواقع أبدًا، وإنما يجب النظر إليها من خلال مؤداها الواقعي في ظروف الزمان والمكان الذي نعيش فيه أو مورست فيه أو ستمارس فيه، لا النظر إليها مجردة من الواقع التطبيقي، بل من خلال المؤدي العملي للأفكار.
من الدعوي- الفكري إلى السياسي
أحد مظاهر ضعف العمل السياسي في مصر هو غلبة الدعوي عند الإسلاميين والفكري عند العلمانيين، والخلط بينهما، لذا فمن الضروري الفصل بين الدعوي/الفكري وبين السياسي، فالأول يدور حول المرجعيات والمبادئ العامة، أما السياسة فحديث في البرامج والسياسات العامة، في الحياتي اليومي والمعيشي، وهي متعددة وإن صدرت عن مرجعية واحدة،و يمكن أن ينشأ وجوه تعاون وتقارب بين بعض تنظيماتها وإن اختلفت في المرجعيات.
وهنا يحسن الإشارة إلى أن ما يجري من صراع في مصر بين الإسلاميين والعلمانيين بعد يناير 2011 كان مبعثه الأساسي هو تقاسم السلطة Power Sharing، واستخدم فيه الخطابات الأيديولوجية للحشد والتعبئة وزيادة الحصة لكل طرف، بل أزعم أن الانقسامات والنزاعات داخل كل فصيل كانت ولا تزال أعمق وأشد ضراوة منها بين بعض المكونات في كل طرف على حدة.
يتعامل فشير مع فشل تحويل التنسيق بين التيارين قبل يناير إلى مشروع يتعامل مع تحديات الفترة الانتقالية بما يسمح ببناء ديمقراطية مستقرة كأنه مسلمة أو معطى، ولا يقدم لنا أسباب هذا الفشل ومبرراته واسمحوا لي بالتساؤل عن هذا الفشل، فقد سألت أحد قيادات حركة كفاية عن السبب الذي دفع قيادات حراك يناير أن تقود التنسيق بين القوى السياسية قبلها، وهي نفسها التي قادت الاستقطابات بعدها فأجاب: «كنا نعرف ما لا نريد، ولم نكن نعرف ما نريد». هل هو غياب للزعامة -التي لا اتخيلها فردًا- أم عدم امتلاك مشروع سياسي، أم عدم إدراك لطبيعة الفترات الانتقالية؟ أم هي الرهانات الخاطئة التي وقعت فيها مصر جميعًا فبتنا هنا والآن؟ أم كل ذلك وأكثر؟
إعادة الفرز والتصنيف
ينطلق مقالي هذا من ضرورة التخلي عن الصناديق المغلقة والتصنيفات الجاهزة والصور النمطية، ويطرح ضرورة البحث في التفاصيل ورسم الخرائط التفصيلية، فلا الإسلاميون طرفًا واحدًا، ولا العلمانيون كذلك، وإنما هم جماعات شتي تضم الاستبدادي والديمقراطي، وهم ليسوا ظواهر استثنائية، بل يجري عليهم ما يجري على البشر جميعًا من تطورات وتغيرات، وانتكاسات وتجديدات ،وتعدد.. إلخ. التنميط /الصندوق المغلق يصادر التنوع والتطور والاختلاف ولا يبني في السياسة التحالفات والائتلافات.
ويطرح المقال فوزًا جديدًا للتيارات السياسية الأربعة -قومية وإسلامية وليبرالية ويسارية- يقوم على موقفها من المسألة الديمقراطية، خاصة إذا علمنا أنها جميعا تعاني من أزمات بالغة قد تودي بها أو تعيد تجديد ذاتها فنكون بإزاء تصنيفات جديدة واختفاء للمسميات القديمة.
لماذا المسألة الديمقراطية؟ لأني أعدها المشكل التاريخي الذي يواجهنا الآن، وباستقراء تاريخنا المعاصر أقول وأنا مطمئن إن :«الديمقراطية هي الحل»، فلا وطنية من غير ديمقراطية (تجربة عبدالناصر)، ولا إسلام من غير ديمقراطية (تجربة عمر البشير)، ولا توزيع عادل لعوائد التنمية من غير ديمقراطية (تجربة مبارك)، ولا حفاظًا على مكاسب الحرب من غير ديمقراطية (تجربة السادات)، ولا استقلال وطني من غير ديمقراطية (تجربة سعد زغلول).
ضرورة النظر التاريخي
غياب النظر التاريخي يمنعنا من إدراك التداخل والتفاعل بين الإسلامية والعلمانية والذي جرى على مدار القرنين بما يسمح بالحديث عن تجربة مصرية في هذا الصدد، كما شهدت العلاقة بينهما في المؤسسات والتشريعات وفي الاقتصاد والاجتماع والسياسة تطورات متعددة بما يسمح لنا بالقول بعدم وجود التمايز الذي أسسه المقال على الموقف من علاقة الدين بالدولة بما يسمح بالتمييز بين الإسلامي والعلماني، بل أزعم أن العلمانية قد تسربت للإسلاميين، كما تسرب الدين إلى العلمانيين المصريين. ويمكن أن نضرب أمثلة متعددة على مساحات التداخل لكننا نشير فقط إلى قانون الأحوال الشخصية للمسلمين الذي يلتزم بالشريعة ويشارك علماء فقه في اختياراته الفقهية، ويصدره البرلمان وهو هيئة منتخبة، وتفسره المحكمة الدستورية وهي سلطة مدنية قضائية مستقلة.
ففي الفكر فقط يمكن الحديث عن الأنماط المثالية التي تتمايز فيما بينها، لكن في التاريخ والواقع والسياسة تتداخل الظواهر، بل أزعم أن تجربتنا التاريخية تجمع بين الحداثة والتقليد، والاسلامية والعلمانية، والاقتصاد العام والخاص… إلخ.
النظر التاريخي يسمح لنا بالتقاط بعض الدروس، فمن وجهة نظري أن أهم ما جرى في 30 يونيو 2013 من احتجاج المصريين كان ضد الإخوان باعتبارهم حركة سياسية وليس اعتراضًا على المكون الديني في حركتهم، وأضيف متسائلًا: ماذا تبقي من الإسلامية في الأحزاب الإسلامية العربية الآن؟
النظر التاريخي لا يقف عند الخبرة المصرية فقط بل يمتد إلى تطورات الخبرات العالمية؛ ففكرة ضرورة أن يكون للدين دورًا في الحياة العامة مألوفة حتى عندما لا تحظى بالقبول على نطاق واسع، وجميع أنواع الدول لديها وضع رسمي بالنسبة إلى دين معيّن.
بالمجمل فإن العلمانية كمحاولة للحصول على مجال سياسي خالٍ من المنطق الديني، أو مؤسسة دولة متحررة من المرجعية والهوية الدينيةتمامًا لم تتحقق، بل انتهت المجتمعات الأوروبية إلى ما وصفه عالم الاجتماع يورجن هابرماس بـ «المجتمع الما بعد علماني»، وهو المجتمع الذي يتداخل فيه الموروث الديني التقليدي مع الموروث العقلاني التنويري، وتتفاعل فيه المؤسسات الدينية مع غيرها من المؤسسات المجتمعية والسياسية والثقافية والتعليمية، ومن ثم فالدين ما زال يلعب أدوارًا اجتماعية داخل هذه المجتمعات.
ضرورة النقد الذاتي
قدر لي بعد 2013 أن أتبنى وفريق عمل مشروعًا للنقد الذاتي للقوى السياسية المصرية، وقد صدر عن المشروع بعض الدراسات والأدلة التدريبية لتصميم عملية حوارية تقوم على النقد الذاتي، لكن تظل هذه العملية ترتبط بخصائص الفترات الانتقالية، والتي لم يدركها الطرفان.
فمن خصائص الفترات الانتقالية:
1- الديمقراطية نظام لا خاسر فيه. ومن أجل تحقيق هذه الغاية لابد من توفر قدر كاف من الوضوح والثبات في هويات الجماعات المتنافسة ومصالحها وأهدافها ليسهل التوافق والمساومات والطمأنة المتبادلة. المشكل أن الهويات السياسية في الفترات الانتقالية تتسم بالسيولة، كما أن نتائج العملية السياسية غير واضحة خارجة عن تحكم جميع المشاركين.
إن صعوبة التحكم في العملية السياسية والتنبؤ بنتائجها يجعل الخوف والهواجس سيدا الموقف وهذا بدوره يعيق التوافق حول مسار ديمقراطي، إذ إن قبول تداول السلطة من أطراف لا يثق بعضهم ببعض ليس منطقيًا، لذا لابد من التغلب على الهواجس عبر التوصل إلى صيغة طمأنة متبادلة ونحن نعد النقد الذاتي أحد مداخل هذه الطمأنة.
2- في الفترات الانتقالية تسود غرائز الخوف والتخويف، لأن النهايات غير واضحة كما أن المصالح القديمة، تحالفاتها وامتداداتها الإقليمية والدولية، مهددة، والجديدة لم تتبلور بعد، كما يتصاعد التخويف المتبادل كإحدى أدوات إدارة الصراع السياسي، هذا التخويف بين القوي السياسية أو من بعضها، أو من الفوضى وعدم الاستقرار، وتظل هناك فئات بحكم طبيعتها تخاف من الفترات الانتقالية مثل الأقليات.
عدم اليقين في نتائج العملية السياسية ،وحجم المخاوف والتخويف هي أساسً معضلة الاستقطاب:
خوف من الديمقراطية لأنها تؤدي إلى حكم الغوغاء.
خوف من صعود قوى سياسية معينة على حساب مصالح القوى الأخرى ووزنها السياسي.
خوف من الفوضى وعدم الاستقرار.
الخوف من الخريف الإسلامي بدلًا من الربيع العربي/الخطر الإسلامي.
خوف من الراديكالية السياسية والتطرف العنيف.
خوف من الانهيار الاقتصادي.
خوف الأقليات الدينية والعرقية.
الخلاصة: المجتمعات المسكونة بالهواجس والمخاوف أيًا كان مصدرها لا يمكن أن تشكل بنية مواتية للتحول الديمقراطي.
3- جماعية ترتيب الطور الانتقالي، فبرنامج الفترات الانتقالية لا يمكن إلا أن يكون جماعيًا، فهو يخص المجتمع كله في لحظة سعيه لتخطي آثار ما بعد الانفجارات، كما أن أزمنة ما بعد الثورات أو الانتفاضات الشعبية هي أزمنة التوافقات المرحلية المؤقتة.
4- ضرورة أن يتضمن الطور الانتقالي القطع مع الممارسات السياسية السابقة، إلا أن الخبرة المصرية قد شهدت استمرارًا لنفس الممارسات السابقة، عانت الانتفاضات الشعبية من الإقصاء، ومصادرة الحقوق، وتبادل الاتهامات في جو مشحون بالاستقطاب، مع العجز عن تقديم بدائل سياسية للحكم أي غلبة الاحتجاجي.
وتقاطع ذلك مع تعدد أشكال الاستقطاب: بين الإسلاميين أنفسهم، بين الإسلاميين والعلمانيين، وبين الإصلاحي والثوري، وبين سياسة الشارع وعمل المؤسسات، بين المطلبي والثوري، استقطابات جيلية وحول النوع الاجتماعي (الجندر).. إلخ.
ألخص فأقول:
1- مشكلنا التاريخي الآن هو الديمقراطية في مواجهة الاستبداد. تجربتنا التاريخية تقول إن: الديمقراطية هي الحل، ولا مقايضة عليها.
2- ضرورة الفصل بين العمل السياسي، والدعوة عند الإسلاميين والثقافي والفكري عند العلمانيين.
3- دعنا نبحث فيما تحويه الصناديق المغلقة ونفكك الصور النمطية لكل طرف، ونبحث عن البرامج والسياسات؛ فبها نتقارب أو نتباعد.
4- لا يمكن البحث في تعايش بين الإسلاميين والعلمانيين من دون إدراك السياقات الإقليمية والدولية التي نتحرك فيها.
5- النظر التاريخي المدرك لجوهر الخبرة المصرية محدد أساسي لنجاح أية تجربة سياسية.
6- لا بناء للثقة، أو طمأنة متبادلة، ولا معالجة للهواجس إلا بالنقد الذاتي.
وأتساءل في النهاية: هل يمكن أن نشهد حركة وطنية ديمقراطية يتم إعادة تفسير وتشغيل المرجعيات لصالحها؟ وبصراحة يجب ألا نبحث عنها عند القديم المرتحل وإنما يجب أن تبني بلبنات جديدة من مفاهيم واقترابات وأشخاص وممارسات.
Leave a Comment