بقلم: محمود هدهود
منذ عام 2013 أخذت الثورات العربية التي كانت قد اندلعت قبل ذلك بعامين تتعرض لسلسلة من النكسات والهزائم؛ مما أفضى إلى تردي أغلب تلك البلدان إلى صراعات أهلية يستحيل التكهن بمآلاتها، أو إلى استعادة قوى خرجت من رحم الأنظمة القديمة للسلطة. في كتابه «سردية الربيع العربي ورهانات الواقع» الصادر حديثاً عن دار المرايا للإنتاج الثقافي يرى الأستاذ هشام جعفر، أستاذ العلوم السياسية والمفكر المصري المعروف، أن أغلب القوى الفاعلة في الساحة العربية، على اختلاف معسكراتها، تعاملت مع تلك الحالة بمنطق الحد من الآثار السلبية لتلك التغيرات على استقرار منطقة الشرق الأوسط، دون استيعاب لمنطق تلك التغيرات وتبعاتها.
ينطلق جعفر في كتابه من فرضية أساسية مفادها أن «هناك سردية جديدة لانتفاضات الربيع العربي تعلن نهاية صيغ القرن العشرين، وفي القلب منها دولة ما بعد الاستقلال والحركات السياسية الإسلامية والعلمانية التي استندت إلى أيديولوجيات شمولية، وأننا بصدد صيغ جديدة لما تتمأسس بعد». ويخلص إلى نتيجة مفادها أن غلبة الاحتجاج والافتقاد إلى بلورة قاعدة اجتماعية حاضنة ودافعة أدى إلى عجز الحركات الاجتماعية أو اللاحركات الاجتماعية – مهما كان اتساعها ومهما بلغت مثابرتها، وحتى حين ترفع مطالب محددة – عن تحقيق ما تصبو إليه.
يحدد جعفر سمات تلك المرحلة الانتقالية التي تلت الانتفاضات العربية بأنها مرحلة «تسودها المخاوف والهواجس لا الحقائق والوقائع»، فتنبعث التناقضات المسكوت عنها، وفي ذلك التناقضات الدينية والطائفية والجهوية والإثنية، مما يؤدي إلى طرح سؤال الهوية الوطنية، حيث إن تلك الانتفاضات في حد ذاتها «تساهم في بلورة الهوية الوطنية كما في حالتي لبنان والعراق». نتيجة لذلك تصبح الدولة كذلك محل تساؤل، وهو ما يجعل استمرار الدولة العربية اليوم رهيناً باستمرار النظام السياسي الحاكم لها.
يجمع الكتاب ثلاث عشرة مقالة قدمها الكاتب منذ أبريل 2020، يجمعها ناظم واحد هو «تشغيل النموذج الانتفاضي»، وهو نموذج تفسيري جديد يطرحه المؤلف للتعامل مع المرحلة الانتقالية بما يسمها من لا يقينية وانفتاح على جميع الإمكانات. للنموذج الانتفاضي أربعة معالم، هي:
أولاً: الانطلاق من أن نظرة إنسانية ترى أن الإنسان لا يمكن التنبؤ بسلوكه، كما أن دوافعه معقدة، لا تقتصر على الجانب المادي، ولا تغفله كذلك، وعموماً هي نظرة تؤكد خصوصية الإنسان وتركيبيته. في هذا الإطار، يرى جعفر أن الأطروحات التي حاولت تفسير الربيع العربي بوصفه احتجاجاً ضد النيوليبرالية وتداعياتها، أو أنه أثر لتطورات عمرانية معينة، هي أطروحات جزئية، يجب أن توضع في إطار أوسع يضع في الاعتبار التفاعل بين عوامل مختلفة.
ثانياً: الانتقال من أيديولوجيا الهوية إلى خطاب المعاش، فالأولوية صارت للمطالب الاقتصادية والاجتماعية، لذلك فإن الجمهور كثيراً ما تجاوز الحركات السياسية الأيديولوجية وسبقها في الحركة. وفق ذلك، فإن ما هو مطلوب من تلك الحركات السياسية اليوم ليس طرح «سياسات عامة وبرامج تفصيلية من شأنها أن تعالج مشاكل الناس الواقعية».
ثالثاً: الحرية التي تتجلى في حرية المعلومات وإنتاج المحتوى والتي تتجلى في السوشيال ميديا، وما يستتبع ذلك من غياب السلطة/المركز في مشهد يمكن وصفه بأنه مشهد دريدي، فلم يعد المهم هو القول السديد أو النهائي، وإنما القول المناسب لظرف محدد. يصاحب تلك الحرية بالضرورة بروز التعددية كقيمة مركزية وظهور نزعة فردية، ويفضي ذلك الثالوث أخيراً إلى إعادة تعريف السياسة ديمقراطياً، حيث إنه يؤكد حق الناس في إدارة شئونهم بأنفسهم.
رابعاً: الحضور النسائي الطاغي الذي يأتي من مدخل المواطنة، فلم تعد المرأة تلعب فقط دور الدعم، وإنما تبدو فاعلة نشطة كمواطنة كاملة المواطنة.
الظاهرة الاحتجاجية
يناقش الفصل الأول من الكتاب الظاهرة الاحتجاجية بوصفها تجسيداً لهذا النموذج على صعيد عالمي، وهو ظاهرة الحركات الاحتجاجية التي تجتمع حول مطالب لا شعارات أيديولوجية، فهي ليست انتفاضات يسارية أو يمينية بقدر ما هي انتفاضات يجتمع فيها جمهور واسع مؤدلج وغير مؤدلج على مجموعة مطالب تمس الحياة اليومية، كوحشية الشرطة وتردي الأحوال الاجتماعية والفساد السياسي والاقتصادي.
في المقال الأول بعنوان «هل بمناهضة النيوليبرالية نناهض العنصرية؟» يناقش المؤلف التآزر بين الحركات الاحتجاجية وتداخل مطالبها حول العالم، حيث إن مكافحة العنصرية لا تنفك عن مكافحة النيوليبرالية، أي أن النضال ضد التمييز الثقافي والسياسي يلتقي بمناهضة التمييز الاجتماعي والاقتصادي، ويلتقي كلاهما بقضايا عادلة أخرى كقضايا التحرر الوطني.
وإذا كانت تلك النضالات تلتقي، فإن ذلك إنما يعكس أن الدولة تستخدم نفس الآليات ضد كل مختلف، سواء دينياً أو عرقياً أو ثقافياً، كالمهاجر غير الشرعي، بهدف نزع الإنسانية والمواطنية عنه، وبالتالي حرمانه من أي حقوق له. هنا، تستخدم الدولة آلة القانون التي تحتكرها لوصم المختلفين بالجريمة، وإذا كان مجرماً فإنه مجرد من الحقوق القانونية. بعد ذلك يجري تعميم تلك الصفة على جماعة تصنف كجماعة غير وطنية (آلية «الاستبعاد الوطني» كما يسميها ا هشام جعفر) تمثل تهديداً للمواطنين، وكلها مقدمات لاستخدام العنف الممنهج ضد جماعة بشرية بعينها. إن خطورة تلك الآليات لا تتوقف عند الجماعات المستبعدة، فانتهاك حقوق تلك الجماعات يكون مقدمة لانتهاك حقوق جماعات أخرى، بل سائر المواطنين.
في المقالة الثانية بعنوان «تطلعات المصريين.. نظرة مختلفة»، يدحض جعفر موقف القوى التقليدية المعادية للديمقراطية، سواء قوى الدولة في مؤسسات القانون وإنفاذه، أو قطاعاً من الإسلاميين يرى أن الشعب غير مؤهل للحرية والديمقراطية، وأن التغيير الديمقراطي إذن لا بد أن يكون وخيم العواقب. يعتمد هذا الدحض على تقرير الباروميتر العربي 2018/2019، وبذلك فهو يقدم حجة كمية قابلة للقياس ضد هذا الموقف الانطباعي الذي لا تكف بعض القوى التقليدية عن تبنيه وترديده. ويخلص جعفر في قراءته إلى مجموعة من النتائج:
1. إن المواطنين في مصر يرون في الاقتصاد أولوية على الإرهاب.
2. إن 87% من المواطنين العرب الذين استجابوا للاستطلاع تمكنوا من تقديم تعريف واضح لمفهوم الديمقراطية لديهم. وفي مصر، رفضت الأغلبية ادعاء أن الديمقراطية تتعارض مع الإسلام، كما أن أغلبيتهم رفض استبعاد التيارات والأحزاب الدينية من النظام الديمقراطي. في المقابل، رفض أغلبية المستجيبين مقولة أن الديمقراطية تؤدي إلى أداء اقتصادي سيئ.
3. خلافاً لما يجري ترديده باستمرار، رأى 33% من المصريين أن الربيع العربي كان إيجابياً بشدة، ورأى 46% منهم أنه إيجابي إلى حد ما. ورأى 64% منهم أن الربيع العربي يمر بمرحلة تعثر فحسب، لكنه سيحقق أهدافه بعدها في نهاية المطاف.
تطبيع الإسلاميين
يناقش الفصل الثاني تفاعل الإسلام السياسي مع الربيع العربي، سواء في إخفاقه أو في محاولاته للتكيف والإنجاز. في الفصل الأول بعنوان «الإسلاميون والموجة الثانية من الربيع العربي.. نهاية الاستثنائية»، يقرأ المؤلف ست أوراق بحثية صدرت عن منتدى الشرق في يونيو 2020 حول الإسلام السياسي في الموجة الثانية من الربيع العربي. ما تنتهي إليه تلك الأوراق هو أنه قد جرى «تطبيع الحركات الإسلامية مع الواقع العربي بكل ما تحمله تلك الكلمة من دلالات سلبية أو إيجابية». فقد انتهت الاستثنائية التي يمنحها المؤيدون والمعارضون للإسلام السياسي سواءً بسواء؛ فـ «الإسلاميون في السلطة – كما في المعارضة – يتصرفون مثل الفواعل السياسية الأخرى حين تحركهم إدراكاتهم لمصالحهم الذاتية التي يبغون تحقيقها».
«استندت سردية الحركات الإسلامية إلى مرتكزات ثلاثة: شمولية الإسلام؛ أي تعلق المرجعية الإسلامية بشئون الحياة جميعاً، ومحورية السلطة كأداة أساسية لتطبيق الشريعة، ورفض الدولة الوطنية والسمو فوقها». وهكذا ارتبط مشروع الإسلام السياسي بالوصول للسلطة واستخدام منطق الدولة. في المقابل، يرى المؤلف أن على الإسلام السياسي أن يتفاعل مع السردية الجديدة للربيع العربي كالتالي:
1. التأكيد على مركزية الحرية كمنظور شامل، وما يلزم عن ذلك من مراجعة مكانة الدولة والسلطة في المشروع.
2. الانتقال من ضيق الطأفنة إلى سعة التيار الوطني العام، ويعني ذلك القدرة على إقامة تحالفات وطنية تتجاوز المنطق الأيديولوجي، والقبول بالدولة الوطنية والسعي لإصلاح مؤسساتها عوضاً عن هدمها لإحلال دولة إسلامية عابرة للوطنيات محلها.
3. تمكين المجتمع بدل تمكين التنظيم، فعوضاً عن الطموح لأسلمة المؤسسات بمنطق سلطوي يجعل تلك الأسلمة هشة وسهلة الإحلال، يجب تمكين المجتمع بالديمقراطية ما يجعله قادراً على مواجهة السلطة.
4. الانتقال من أيديولوجيا الهوية إلى خطابات المعاش، كما سبقت الإشارة.
5. الاعتراف بحضور النساء الطاغي.
في المقالة الثانية بعنوان «الإخوان المسلمون والمسألة الاجتماعية في مصر»، يرى جعفر أن النموذج الإخواني في التعامل مع المسألة الاجتماعية مثَّل قصوراً شديداً لدى الجماعة، وكان أحد أسباب فشل تجربتها في مصر بعد ثورة يناير التي أظهرت تقدم الاجتماعي على الهوياتي. ويحدد جعفر خمسة محددات لفهم ذلك النموذج الإخواني:
1. خطاب دعوي لا يدرك التناقضات الطبقية؛ لأنه يحاول أن يخترق ويمثل كل الطبقات في آن.
2. خطاب أخلاقوي لا يلتفت إلى البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل الثقافية، وإلى علاقات القوة، ويكتفي بالتركيز على العمل الخيري.
3. تحول الحفاظ على التنظيم منذ السبعينيات إلى هدف في حد ذاته، مما أدى إلى تعالي التنظيم على أعضائه وتعدديتهم الطبقية (يتفق ا هشام جعفر هنا مع التحليلات التي تقول إن قيادات برجوازية في الجماعة دفعتها لتبني سياسات نيوليبرالية).
4. أدت الطبيعة الدينية للأيديولوجية الإخوانية مع خلوها من مضامين اجتماعية إلى أن صارت الأيديولوجية وعاءً فارغاً نتيجة لقابلية النص الديني للتأويل، وأدى هذا إلى مفارقة أن تسبق الممارسة النظرية وأن تكون البرجماتية وجهاً آخر للأيديولوجية، فاندفع الإخوان في الأخير إلى تبني النيوليبرالية لأسباب مصلحية.
5. عاب الإخوان ما عاب المعارضة المصرية بأسرها من غلبة الاحتجاجي على البرامجي، أي عدم وجود برامج لسياسات عامة تفصيلية لمواجهة المشكلات الاجتماعية القائمة.
تقدم المقالة الثالثة في هذا الفصل نموذجاً لتشغيل النموذج الانتفاضي وفرضية تجاوز أيديولوجيات القرن العشرين عبر إعادة النظر في ثنائية الإسلامي العلماني، حيث يقترح المؤلف إعادة تصنيف التيارات السياسية في مصر وفق موقفها من الديمقراطية، بجانبيها السياسي والاجتماعي، وليس وفق موقفها من المرجعية الإسلامية أو العلمانية. ويشير المؤلف إلى أن ثنائية الإسلامي/العلماني تنبع من مشكلة تسم التيارات السياسية المصرية، سواء كانت إسلامية أو علمانية، وهي تغليب الثقافي (الأيديولوجي) على السياسي (الاجتماعي والبرامجي).
بين أجواء الحرب الباردة ونظام القطب الواحد
خصص ا هشام جعفر الفصل الثالث لدراسة البيئة الدولية المتغيرة التي جرت فيها الانتفاضات. وعبر قراءة استراتيجية للأمن القومي الأمريكي أصدرها عدد من نواب الكونجرس المحافظين، يلاحظ جعفر أن المحافظين الأمريكيين ما زال لديهم حلم استعادة الهيمنة الأمريكية على نظام دولي مشترك، وليس العودة إلى الانعزالية بخلاف ما قد يوحي به شعار «أمريكا أولاً». في هذا الإطار، تتجلى أكثر فأكثر السيولة التي تسم تلك الحقبة من تاريخ العالم.
في تلك الوثيقة تبدو منطقة الشرق الأوسط ليس كمنطقة مصالح استراتيجية للولايات المتحدة، وإنما كمنطقة تهديد لأمنها لقومي فحسب. ذلك أن مصالح كتأمين الطاقة وتسهيل عبور الممرات المائية تتراجع، بينما ينتقل التركيز إلى أمن إسرائيل الذي يتجلى في إطار الصراع مع إيران من جهة، ومع الجماعات المتطرفة من جهة أخرى. في هذا الإطار، يتراجع الاهتمام بالديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة رغم أن الوثيقة تقدمهما كأولوية تعبر عن الرؤية الأمريكية في مواجهة الرؤية الصينية وكذلك الروسية.
يعود المؤلف في المقالة الثانية المخصصة للدور الروسي، فيؤكد ملاحظته تفكك النظام الدولي الذي كانت تهيمن عليه الولايات المتحدة. ويرى جعفر أنه على الرغم من مبادرة روسيا للتدخل عسكرياً تظل قدرتها على الاستفادة سياسياً واقتصادياً محدودة؛ نظراً لضعف قدرتها الاقتصادية على التدخل بعيداً عن الحدود الروسية، وصعوبة تكوين نظام أمني مستقر في الشرق الأوسط يمثل حاملاً لسياساتها في المنطقة. مرة أخرى، تجتمع التناقضات التي تحفز السيولة، فروسيا المبادرة والبرجماتية تفتقد القدرة اللازمة، أما أمريكا القادرة فتميل إلى الانسحاب وفرض شروط أيديولوجية عند تدخلها.
في المقالة الثالثة، يتناول المؤلف الصعود الصيني من خلال تقرير «الاتجاهات الاستراتيجية 2020: التطورات الرئيسية في الشئون الدولية» الصادر عن مركز الدراسات الأمنية في زيوريخ، ويشير إلى الصراع بين الرؤيتين، الأمريكية التي تتمركز حول الديمقراطية من جهة، والصينية والروسية التي تتمركز حول قوة الدولة من جهة أخرى. ويطرح جعفر ذلك التنافس بين القوى الكبرى كفرصة لقوى التغيير الديمقراطي للاستفادة.
معضلات الانتفاضات العربية
يعيد الأستاذ هشام جعفر تأكيد أطروحته أن الانتفاضات ليست في حد ذاتها سبب غياب الاستقرار، وأن التعامل مع الربيع العربي بهذا المنطق سيضاعف الاضطراب المترتب على المرحلة الانتقالية التي أطلقها. ويقترح جعفر في المقابل ثلاثة مكونات لتعميق الاستقرار في المنطقة، هي: إدراك مقتضيات المرحلة الانتقالية وإدارتها على نحو توافقي لتحقيق هدف إعادة بناء الدولة، والوعي بالمطالب الاقتصادية ومركزية النمو الاقتصادي وليس فقط الصرامة الأمنية؛ لتحقيق الاستقرار على المدى الطويل، وأخيراً، الديمقراطية هي شرط للاستقرار بينما الفوضى هي خصم للديمقراطية.
يتناول المؤلف بعد ذلك عدداً من الأزمات التي تعيشها المنطقة، بداية بالأزمة الليبية حيث يرى أن الدولة المصرية عليها أن تغير مقاربتها فيها عبر التحرر من منطلقات ثلاث لديها، هي: التوجس من الفاعلين دون مستوى الدولة، العداء للربيع العربي، والعداء للإسلام السياسي.
تتناول المقالة الثالثة اتجاه دول خليجية للتطبيع مع إسرائيل، وتناقش دلالاته الاستراتيجية التي تشمل تراجع مكانة مصر والأردن الإقليمية، والتي كانت تعتمد على دورهما في القضية الفلسطينية، لصالح الإمارات، واندفاع بعض الفاعلين في المنطقة نحو تطبيق رؤية شمعون بيريز حول شرق أوسط جديد تقوده إسرائيل.
يرى المؤلف في المقالة الرابعة أن القبول بتعددية الخطابات الدينية والاعتراف بذلك هو الطريق لاستبعاد التطرف وتقليل جاذبيته، لا محاولة الدولة احتكار المجال الديني عبر المؤسسات الدينية الرسمية، وهو طريق لتنظيم علاقة الديني بالسياسي، لا يسمح لأي من الطرفين بإلغاء الآخر أو استغلاله.
دروس
في الخاتمة يقدم المؤلف مقترحين ويستخلص دروساً سبعة. أما المقترحان فهما تكوين مرصد عربي لدعم أصحاب المصلحة والفاعلين للتعامل مع تحديات المرحلة الانتقالية، وإصدار دليل للأمر نفسه على غرار دليل النقد الذاتي الذي أسهم المؤلف في إصداره من قبل مع المركز الإقليمي للوساطة والحوار ومركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية.
وأما الدروس السبعة للفترة الانتقالية فهي الحاجة إلى مراجعات ثقافية وسياسية، إعادة تأهيل النخب، التوافق على الهوية الوطنية، ومن ثم إعادة التفكير في الدولة، وبناؤها، والحاجة إلى تفكيك الدولة العميقة وتأسيس منظومة العدالة الانتقالية، ووضع البعدين الإقليمي والدولي في الاعتبار الاستراتيجي عند إدارة التغيير.
أما بعد
فإن هذا الكتاب يقدم خطاباً هو في معالمه العامة ما تاق إليه جيل من المثقفين العرب الشباب، خاصة الإسلاميين منهم، بعد سنوات من الجمود النظري والتردي السياسي. ولا أبالغ حين أقول إن جعفر هو اسم من بين أسماء قليلة من جيل الأساتذة تمكنوا من التعاطي مع ما بعد الثورات العربية وإدراك النموذج المعرفي الكامن وراءها.
وفق ذلك، فإن هذا الكتاب صالح لكي يكون أرضية – أو ما يشبه المانفستو – لإعادة تشكيل الخطاب الوطني عامة، والإسلامي خاصة، والانطلاق منه لرسم ملامح واستراتيجيات جديدة لهذا الخطاب.