نُشر في مجلة المجتمع – أبريل 2021
بقلم: حسن محمود
المفكر السياسي د. هشام جعفر، خبير في العلوم السياسية والاجتماعية، وهو اسم لامع في سماء الفكر الإسلامي الحضاري بمصر، وهو مقرب من مدرسة الراحل المستشار طارق البشري، المفكر الإسلامي المعروف، وحاصل على الماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، ويعمل كمستشار في عدد من مراكز الفكر والحوار والوساطة.
صدر له مؤخراً عن دار المرايا للإنتاج الثقافي كتاب “سردية الربيع العربي ورهانات الواقع”، الذي يراه مراقبون أنه تأسيس لمفردات فكرية مستقبلية جديدة تفيد أبناء الفكر الإسلامي خاصة وأنصار التغيير والإصلاح عامة في المشرق العربي، وقد حرص جعفر على إهداء نسخة منه لـ”المجتمع”، تثميناً لها كنافذة إعلامية إسلامية حضارية في هذا الوقت الانتقالي، كما يصفه.
رهانات الواقع
وفي الكتاب، يؤسس جعفر لفرضية مركزية للفكر المستقبلي للحريصين على التغيير تقول: “هناك سردية جديدة لانتفاضات “الربيع العربي” تعلن نهاية صيغ القرن العشرين، وفي القلب منها دولة ما بعد الاستقلال والحركات السياسية الإسلامية والعلمانية التي استندت إلى أيديولوجيات شمولية، وإننا بصدد صيغ جديدة لما تتمأسس بعد”.
وفي الكتاب إهداء لافت إلى زوجته الأكاديمية منار الطنطاوي الذي يلخص كثيراً من أفكار جعفر التي يرى فيها المرأة عنصر أساسي وركين لتأسيس المراحل المقبلة بعدما قدمت الكثير في مراحل “الربيع العربي”، مؤكداً أن التاريخ منصف من شارك في قاطرة التغيير لا محالة خاصة المرأة، موضحاً أن الحضور النسائي الطاغي في مشاهد “الربيع العربي” يأتي من مدخل المواطنة، فلم تعد المرأة تؤدي فقط دور الدعم، وإنما تبدو فاعلة نشطة كمواطنة كاملة المواطنة بحسب تأكيده.
وفي الكتاب الذي حمل أربع فصول تجمع في طياتها 13 مقالة تأسيسة، أيقونة فكرية مركزية تعتمد على ما أسماه “تشغيل النموذج الانتفاضي”، وهو نموذج تفسيري جديد يطرحه جعفر للتعامل مع المرحلة الانتقالية بما يسمها من “لا يقينية” وانفتاح على جميع الإمكانات.
وفي هذا النموذج يرى جعفر أن النموذج الانتفاضي يتركز على الانطلاق من أن نظرة إنسانية ترى أن الإنسان لا يمكن التنبؤ بسلوكه، كما أن دوافعه معقدة، لا تقتصر على الجانب المادي، ولا تغفله كذلك، وعموماً هي نظرة تؤكد خصوصية الإنسان وتركيبته.
ويضيف جعفر أن الانتقال من أيديولوجيا الهوية إلى خطاب المعاش، كان سمة من سمات النموذج الانتفاضي، فالأولوية صارت للمطالب الاقتصادية والاجتماعية، لذلك فإن الجمهور كثيراً ما تجاوز الحركات السياسية الأيديولوجية وسبقها في الحركة، داعياً الحركات السياسية اليوم إلى طرح “سياسات عامة وبرامج تفصيلية من شأنها أن تعالج مشاكل الناس الواقعية”.
ويؤكد جعفر أن الحرية التي تتجلى في حرية المعلومات وإنتاج المحتوى التي تتجلى في “السوشيال ميديا”، وما يستتبع ذلك من غياب السلطة المركزية ساهمت في بروز التعددية كقيمة مركزية وظهور نزعة فردية، ما أدى إلى إعادة تعريف السياسة ديمقراطياً، حيث إنها “حق الناس في إدارة شؤونهم بأنفسهم”.
ويرى جعفر أن غلبة الاحتجاج والافتقاد إلى بلورة قاعدة اجتماعية حاضنة ودافعة أدى إلى عجز الحركات الاجتماعية أو ما يسميها “اللا حركات الاجتماعية “– مهما كان اتساعها ومهما بلغت مثابرتها، عن تحقيق ما تصبو إليه.
هشام جعفر
روح الإسلام
لم يكتف جعفر في منظومته الفكرية الجديدة أن يتوقف عند رهانات الواقع، ولكن تطرق إلى سردية الربيع العربي وعلاقتها بـ”روح الإسلام”، مؤكداً في دراسة موجزة حصلت عليها “المجتمع” أن “الربيع العربي” في موجتيه أظهر ظاهرتين بالغتي الأهمية؛ إحداهما تخص الحركات السياسية الإسلامية، والثانية هي وضعية الإسلام في صراع المحاور الإقليمية والتي زادها “الربيع العربي” بروزاً.
ويرى جعفر أن الانطباع الرئيس الذي خرج به بعد الانتهاء من متابعة أداء الإسلاميين في الموجة الثانية من “الربيع العربي”، وقد بات بعض أطرافه في الحكم أو مساندين له، هو تطبيع هذه الحركات مع الواقع العربي بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات سلبية وإيجابية، بما يمكن معه القول بانتهاء “الاستثنائية الإسلامية” التي حاول أن يصمها بها تابعيها ومعارضيها على حد سواء، وإن اختلفت الدوافع بينهما.
وأوضح في هذا الإطار مفسراً “الاستثنائية الإسلامية” أن الأتباع يريدون أن يضفوا عليها نوعاً من القداسة، في خلط واضح بين النص المُنزل والتعبير عنه، خطاباً وممارسة، أما المعارضون فقد أرادوا التشكيك في قدرتها على الاندماج في النظام السياسي سبيلًا لحرمانها من الوجود.
ويرى جعفر أن الإسلاميين في السلطة -كما في المعارضة- يتصرفون مثل الفواعل السياسية الأخرى حين يحركهم إدراكهم لمصالحهم الذاتية التي يبغون تحقيقها، ويبنون تحالفاتهم ليس وفق أسس أيديولوجية، بل كان التنافس فيما بينهم أشد من تنافسهم مع الآخرين، وفق ما يرى.
ويشير جعفر إلى أن القراءة التاريخية لانتفاضات “الربيع العربي” هي أننا أمام إعادة تشكل للتاريخ كله في المنطقة، قائلاً: “نحن أمام محطة تاريخية فاصلة: فالقديم قاد إلى الانفجار، ولم يعد قادراً على تقديم استجابات لتحديات المجتمع والدولة، ولكن الجديد لم يتبلور بعد وهذه هي مهمتنا التاريخية كما اعتقد، واللحظة ليست خواء، بل تمتلئ بالكثير والكثير مما يصب في المستقبل، وبمقدار قدرة الإسلاميين أو غيرهم على التقاط مقومات هذه اللحظة بمقدار ما سيستردون حضورهم وزخمهم الذي تراجع إلى حد كبير، والأهم أنه سيتم “خلق” ثقة الجماهير في السياسة”.
ويضيف جعفر أن مشاريع الماضي المرتحل لم تكن مجرد صياغات وعبارات عابرة تحملها قوة السلطة بالمعنى المتسع للسلطة والسيطرة، بل إنها شكل أو مقترح للحياة، ولطبيعة المجتمع بشبكة علاقاته، وهي خطاب وممارسة لتصورات وخيال سياسي واجتماعي واقتصادي، وتصور معرفي للحياة والدولة، تنبثق عنهما أعراف وتقاليد ومؤسسات ولغة وتصور للمجتمع ولأفراده، تصور للذات والآخر يكشف عن نفسه في قوانين وتشريعات ودستور وعلاقات إنتاج.
ويخلص جعفر في خاتمة منظومته الفكرية التأسيسية إلى التأكيد أن سردية الانتفاضات العربية هي بحث عن عقد اجتماعي جديد يتم به إعادة بناء الدولة الوطنية بنخب جديدة، موضحاً أن هذا العقد يستند إلى مقومات ثلاثة، هي: الحرية/ الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية/ التوزيع العادل للموارد، وتحرير الإرادة الوطنية من الهيمنة الإقليمية والدولية.
ويؤكد أن العقد الذي يسميه بـ”الحلم” يكاد يكون عليه توافق من الطبقة الوسطى والطبقات الدنيا وبعض شرائح من الطبقة الوسطى العليا، لكن قوته المحركة أجيال جديدة.