ملاحظات ست تطرحها انتفاضة القدس الجارية، تُضاف إلى بعض ما طرحه بعض الكُتّاب العرب، وافتقدته حتى الآن النخبة المصرية.
أولًا: الموجة الثالثة من الربيع العربي
كان الربيع العربي -بموجتيه- ولا يزال تغييرًا في قواعد اللعبة الداخلية لصالح شعوب المنطقة، تمهيدًا لإحداث تحوّل على المستوى الإقليمي وفي علاقتها بالنظام الدولي. في مقابل ذلك، كانت هناك قوة مضادة تستثمر فائض قوتها وثروتها في الديناميكيات التي كشف سترها وفضحها هذا الربيع لتعيد تشكيل المنطقة وتغيّر قواعدها لصالح رؤية مناهضة لجوهر الانتفاضات العربية المتمثل في البحث عن عقد اجتماعي جديد يُعاد به بناء الدولة الوطنية بنخب جديدة، ويستند هذا العقد إلى مقومات ثلاثة: الحرية/ الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية/ التوزيع العادل للموارد، وتحرير الإرادة الوطنية من الهيمنة الإقليمية والدولية.
لعلاقة انتفاضة القدس بالربيع العربي وجوه كثيرة تحتاج إلى تفصيل -ربما نخصص له مقالًا مستقلًا، ولكننا نشير هنا إلى بعض وجوه الالتقاء التي تستكمل الضلع الرابع بالعقد الاجتماعي العربي في جوهرها. فرغم أن التجاوب الشعبي العربي المتصاعد مع الانتفاضات الفلسطينية في العقد الأول من الألفية الجديدة كان أحد المقدمات الأساسية للربيع العربي، إلا أن القضية الفلسطينية لأسباب -لا مجال لتفصيلها- قد شهدت تراجعًا على مدار العقد الماضي، عُمر هذا الربيع.
الانتفاضة الجارية الآن هي استعادة للاهتمام الشعبي بالقضية من جديد، كما تستعيد أحد مكونات الشرعية في النُظم السياسية العربية، ولكن بوعي جديد يتجاوز خبرة النُظم القومية في الستينيات وما تلاها، والتي وظفت القضية لتصادر بها على مطالب الشعوب بالحرية والمشاركة السياسية حيث «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة».
أوجه شبه عديدة بين ما يجري في فلسطين وبين موجتي الربيع العربي: المحرك الأول، أجيال شابة وحضور نسائي طاغ سبق التنظيمات في حركتها، مع تجاوز آليات العمل القديمة والثنائيات المتعارضة (سلمي/ مسلح)، وللخلافات السياسية والتنظيمية نحو هدف وطني مشترك ضد الاحتلال الصهيوني في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، والتمييز العنصري في الخط الأخضر، استخدام السوشِال ميديا (جيل التوكتوك) باعتبارها أدوات للحشد والتعبئة وتوثيق الانتهاكات وتقديم القضية للعالم، وأيضًا كنموذج معرفي وقيمي يتسم بالشبكية واللامركزية والإبداع في الفعل مع سرعة المبادرة.
وهنا تحسن الإشارة إلى نقطة الضعف الأساسية في النموذج الانتفاضي العربي كما جسدتها موجتاه السابقتان وهو العجز عن التمأسس. فهو يعلن نهاية القديم المرتحل لعجزه عن توليد الاستجابات المناسبة للتحديات المستجدة، لكنه في نفس الوقت لم يستطع -حتى الآن- أن يتبلور في مشروع وطني عريض يحشد قاعدته الاجتماعية وراءه، وهو ما يمثل تحديًا أساسيًا لهذه الانتفاضة، وهو قدرتها على تجديد المشروع الوطني الفلسطيني.
ثانيًا: حياة الفلسطينيين مهمة
من بداية الألفية الثالثة شهدنا نضالات واحتجاجات متنوعة، أخذت طابع الموجات التي تتصاعد تارة وتخبو تارة أخرى، يعرب المتظاهرون فيها عن غضبهم من وحشية الشرطة والفساد ورأسمالية المحاسيب وغطرسة مَن هم في السلطة والتلاعب بالسياسة وضعف المؤسسات السياسية عن تمثيل الناس وتهميشهم الجماعي وتفاقم التفاوتات في الثروة والدخل والفرص.. وهي قائمة تطول، ولكن ما يجمع مكونات هذه القائمة طلب إنساني عالمي على الكرامة والعدالة والحرية.
الانتفاضة الجارية جزء من هذا الطلب العالمي، لذا تصاعد التأييد العالمي لها، وإن تعددت وجوهه بين الحقوقي المُنطلق من مناهضة التمييز العنصري كما برز في تقرير هيومن رايتس ووتش، والعِرقي على أسس أمريكية بحتة كما ظهر لدى التقدميين من الديمقراطيين [الحزب الذي ينتمي إليه الرئيس جو بايدن]. الإسرائيليون هم المضطهدون البيض، والفلسطينيون هم الضحايا السود.
ظهرت هذه السمات على مدى السنوات القليلة الماضية، لا سيما بين حركة المقاطعة BDS التي بدأت في إجراء المقارنات بصوت عالٍ بعد أعمال التمرد التي أعقبت قتل الشرطة للمواطن مايكل براون في فيرغسون 2014، وأصبحت سمة من سمات خطاب منظمة «أمة الإسلام» وحراك «حياة السود مهمة». ولكن تم التعبير عن هذا الآن بشكل كامل كقضية ثقافية وسياسية، ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى تصاعد الاهتمام الأمريكي حول «العِرق» بعد مقتل جورج فلويد، وعدم كفاءة إدارة جو بايدن الجديدة في التعامل مع هذا الملف حتى الآن.
ذهبت النائبة الديمقراطية في الكونجرس إلهان عمر إلى أبعد من ذلك، معتبرة إسرائيل «حكومة فصل عنصري»، بينما صرحت النائبة إيانا بريسلي: «بصفتي امرأة سوداء في أمريكا، لست غريبة عن وحشية الشرطة وعنف الدولة. لقد جُرمنا بسبب الطريقة التي نظهر بها في العالم… يُخبر الفلسطينيون بنفس الشيء مثل السود في أمريكا: لا يوجد شكل مقبول من المقاومة». وغردت النائبة كوري بوش على تويتر أن «الكفاح من أجل حياة السود والكفاح من أجل تحرير الفلسطينيين مترابطان. نحن نعارض ذهاب أموالنا لتمويل الشرطة العسكرية والاحتلال وأنظمة القمع والصدمات العنيفة. نحن ضد الحرب. نحن ضد الاحتلال. ونحن ضد الفصل العنصري».
ثالثًا: حضور الرموز الدينية / الثقافية
وهي لم تغب في أية لحظة عن الصراع، لكن طغى توظيفها في السنوات الأخيرة. فاتفاقيات التطبيع تُسمى بـ«أبراهام» نسبةً إلى إبراهيم عليه السلام بهدف تسويقها -جزئيًا- على أنها تقارب ديني متجدد بين المسلمين واليهود والمسيحيين. ويهودية دولة إسرائيل أصبحت حقيقة واقعة في القوانين والسياسات: يعرّف «قانون الدولة القومية» (المعروف رسميًا باسم القانون الأساسي، والذي دخل حيز التنفيذ في 2018) إسرائيل بأنها الدولة القومية للشعب اليهودي، مما يرسخ دستوريًا عدم المساواة والتمييز ضد غير اليهود. وفي المقابل سُميت عملية المقاومة المُسلحة ضمن الانتفاضة الجاربة بـ«سيف القدس»، بالتزامن مع استفزاز الاعتداء الإسرائيلي على «الأقصى» للمرجعيات الدينية الإسلامية وجموع المسلمين في أيام رمضان وليلة القدر.
استخدام الرموز الدينية في الحشد والتعبئة أمر مفهوم، لكنه بالنسبة للفلسطينيين يطرح ضرورة تكوين مزيج وطني متسع يسمح بصياغة مبدعة لمكونات القضية تجمع بين الديني والوطني والحقوقي والفصل العنصري في نسيج واحد، بما يضمن الإجماع الوطني الواسع والتأييد العربي والإسلامي والدولي.
رابعًا: تآكل صفقة القرن
قامت هذه الصفقة على ثلاثة أسس: اتفاقيات تطبيع، والاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، وإمكانية السلام مع العرب دون الاعتراف بحقوق الفلسطينيين. الاتفاقيات تجعل فرصة تحقيق سلام عادل ومنصف ومستدام شبه مستحيلة؛ لكنها في نفس الوقت نزعت ورقة التطبيع من الفلسطينيين كورقة مساومة ضد إسرائيل، وطرحت مفهومًا جديدًا للسلام في المنطقة.
في يناير 2020، قدم الرئيس دونالد ترامب «صفقة القرن» لحل الصراع «الإسرائيلي – الفلسطيني». قُدم إطار عمل الخطة كنموذج جديد لحل الصراع وتصميم معماري جديد في الشرق الأوسط، على أساس تحالف عربي أمريكي إسرائيلي. الخطة تقلب مبادئ العملية السياسية بين إسرائيل والفلسطينيين على مدى العقود الثلاثة الماضية. إنها تتحدى الافتراض القائل بأن الوقت في صالح المسعى الوطني الفلسطيني، وأن المجتمع الدولي مع مرور الوقت سيجبر إسرائيل على قبول الشروط الفلسطينية للتوصل إلى اتفاق، وتُقدم المصالح الاقتصادية كسبيل لإعادة صياغة والتغاضي عن الحقوق الفلسطينية. أما نتنياهو وحكوماته، التي تجنبت دفع مفاوضات السلام مع الفلسطينيين، فقد بدأت في الادعاء بإمكانية التحرك نحو التطبيع مع الدول العربية دون المضي قُدُمًا في العملية السياسية مع الفلسطينيين.
تشير دراسات إسرائيلية عديدة إلي هذه الحقيقة «على مدى سنوات، تجاهل صُنّاع السلام التابعين للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، التطورات الإقليمية واستمروا في نشر أكاذيب مفادها أن إنشاء دولة فلسطينية فقط على خطوط 1967 يمكن أن يحقق الاستقرار في الشرق الأوسط وقبول حق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية».
وتنتهي دراسة أخرى إلي «أنهم ما زالوا يشيرون خطأً [يقصد الأوربيين] إلى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على أنه [صراع الشرق الأوسط] وينظرون إلى السلام بين إسرائيل والفلسطينيين على أنه مفتاح الاستقرار للمنطقة بأسرها».
ونتساءل: هل الاتفاقيات كانت محاولة لاستعادة مفهوم شمعون بيريز عن الشرق الأوسط الجديد الذي طرحه في التسعينيات، مستهدفًا به قيادة إسرائيلية للمنطقة تستند إلي صيغ اقتصادية تستفيد من التكنولوجيا الاسرائيلية والمال الخليجي والعمالة العربية الرخيصة؟
أعادت انتفاضة 2021 مسألة القدس للواجهة باعتبارها أحد أهم مكونات الصراع، وأسقطت الفلسفة التي قامت عليها اتفاقيات «أبراهام»، وأكدت على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع في مواجهة الاحتلال، كما أبرزت ما يتعرّض له عرب 48 من سياسات تمييز وفصل عنصري، والأهم أنها ألقت بظلال كثيفة على إمكانية أن يكون الكيان الصهيوني جزءًا من ترتيبات الأمن الجماعي في الإقليم، وأكدت ما انتهت إليه استطلاعات الرأي العربي المتعددة من أن إسرائيل هي التهديد الأول للمنطقة كما تدركه شعوبها.
خامسًا: الصراع على روح الإسلام
أنتج الربيع العربي -في موجتيه- ظاهرتين بالغتي الأهمية؛ إحداهما تخص وضعية الإسلام في صراع المحاور الإقليمية التي يُعاد تشكلها من جديد الآن، فأطراف هذه المحاور من دول وجماعات ينخرطون في صراع ديني عميق على القوة الناعمة من أجل التأثير والهيمنة الجيوسياسية: قطر، بنسختها الأقل صرامة من الوهابية وميلها للإسلام السياسي. سعودية ابن سلمان المرتبكة التي تحاول خلع عباءة الوهابية نحو مفهوم غامض للإسلام المعتدل تحافظ فيه على المكون الوهابي في الطاعة المطلقة لولي الأمر. والإمارات التي تستعير من الوهابية نفس المكون مع معالجة حوافها الخشنة لكن جوهر مشروعها ضد الثورة / التغيير مع معاداة صارمة للإسلام السياسي باعتباره قوة تغيير للأنظمة السياسية العربية. وإيران التي وظفت التشيع واستخدمت الوكلاء لتقرن القوة الصلبة بالناعمة لفرض هيمنتها الإقليمية. ومصر المُعادية للحركات السياسية الإسلامية وعلى رأسها «الإخوان المسلمين»، والأزهر الذي يحاول أن يجد له طريقًا وسط هذه الأشواك والاستقطابات. وتركيا التي تقدم نفسها زعيمة للعالم السني رغم امتزاج هذه الزعامة بالقومية التركية.
أما الظاهرة الثانية فتتعلق بالحركات السياسية الإسلامية. الانطباع الرئيس الذي تخرج به بعد الإنتهاء من متابعة أداء الإسلاميين في الموجة الثانية من الربيع العربي، وقد بات بعض أطرافه في الحكم أو مساندين له هو تطبيع هذه الحركات مع الواقع العربي بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات سلبية وإيجابية، بما يمكن معه القول بإنتهاء «الاستثنائية الإسلامية» التي حاول أن يصمها بها تابعوها ومعارضوها على حد سواء، وإن اختلفت الدوافع بينهم: فالأتباع يريدون أن يضفوا عليها نوعًا من القداسة، في خلط واضح بين النص المُنزل والتعبير عنه، خطابًا وممارسة، أما مَن يعارضون الحركات السياسية الإسلامية فقد أرادوا التشكيك في قدرتها على الاندماج في النظام السياسي ليكون ذلك سبيلًا لحرمانها من الوجود. أما المحللون والباحثون فقد رأوا في علاقة تلك الحركات بالديمقراطية ضرورة توافر عدد من الاشتراطات لضمان نجاح اندماجها في النظام السياسي القائم، وكأن هذا مما لا تتطلبه القوى السياسية الأخرى.
في علاقة الانتفاضة بروح الإسلام تبرز نقطتان تستحقان المتابعة، الأولي تتعلق بتأثير الإسلام المقاوم على الصراع الإقليمي الدائر في المنطقة حول مَن يمثل الإسلام، والملاحظة الثانية مدى تأثير الانتفاضة على استعادة الأطروحة الإخوانية لزخمها في المنطقة باعتبار أن «حماس» وسائر الحركات السياسية الإسلامية خرجت من رحمها، وهنا تحسن الإشارة إلى أن الجماهير العربية استطاعت أن تميز بين مكونات الأطروحة الإخوانية المتعددة؛ فتتعامل معها باعتبارها حزبًا سياسيًا كسائر الأحزاب فتمنحها التأييد أو تحرمها منه وفق الأداء السياسي (مثل المغرب وتونس)، ولكنها تقبل وجهها المقاوم فتصطف وراءه.
سادسًا: في أصول الموقف المصري
هل ثمة رؤية مصرية مختلفة هذه المرة بالفعل في التعامل مع غزة؟ يمكن بالفعل فهم الموقف المصري من مغزى سياسي على أنه نوع من الاستباق لرد الفعل المجتمعي (عقدة الخوف المهيمنة على السلطة بعد 2011)، ومع أهمية ذلك فإن استشعار فكرة التهميش المصري في الإقليم بعد اتفاقات «أبراهام» ربما أكثر أولوية في التفسير من ذلك على الأقل، ويمكن تلمسها في محاولة الخروج من أسر التحالفات، ولكن بقدر أقل من الخسائر.
إذًا الموقف المصري تحكمه اعتبارات عدة متشابكة متضافرة مع بعضها: استعادة لبعض من دورها الإقليمي في ملف كان من صميم الأدوار التي كانت تلعبها كوسيط أمام الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ومنع أن يصب ذلك في صالح استعادة السياسة أو «الإخوان المسلمين» في ظل تجاوب شعبي كبير وتأييد للفلسطينيين.
فاتفاقيات التطبيع الأخيرة لم تعد تجعل بوابة إسرائيل للمنطقة مصر ولا الأردن، فهي تتحدى مكانة الأخيرة كأقوى ميسر لإسرائيل في العالم العربي. أما ما يواجه مصر فهو إمكانية أن تلعب أبو ظبي دور الوسيط في المبادرات المستقبلية المحتملة مع إسرائيل، بعد أن كانت أحد ركائز شرعية القاهرة مع الأمريكان -منذ مبارك- هي قدرتها على أن تلعب دور الوسيط مع الفلسطينيين، وفي أحيان كثيرة دور الضاغط عليهم، وقد أختُزل ذلك في الفترة الأخيرة ليتركز على «حماس» في قطاع غزة.
جاءت انتفاضة القدس لتفتح بها مصر قنوات مع إدارة بايدن التي لم تتصل بها في المئة يوم الأولى من حكمها للبيت الأبيض إلا من خلال ملفي حقوق الإنسان وسد النهضة، والملف الأخير ألحت كل من القاهرة والخرطوم على وجود دور أمريكي فيه. ورغم الدور المصري في الوساطة بين «حماس» وإسرائيل من اليوم الأول لاندلاع الانتفاضة، إلا أن مستوى التواصل لم يُترجم إلا الخميس قبل الماضي، أي مع بدء الإعلان عن وقف النار، في اتصال بين الرئيسين بايدن وعبد الفتاح السيسي، اعترافًا بالدور المصري، وتنصلًا مما سبق أن كتبه -سبتمبر الماضي- كلا من أندرو ميللر وإيمي هوثورن، وهما من أهم خبراء الشرق الأوسط في الإدارات الأمريكية المتعاقبة، من ضرورة أن تتجنب الادارة الجديدة ربط أمريكا بشكل وثيق جدًا بنظام مصر الاستبدادي -على حد قولهما- وأضاف المؤلفان: «لكن عندما تتباين وجهات النظر الأميركية والمصرية، كما إذا كان قمع النظام يهدد استقرار مصر، فيجب ألا تتردد الإدارة في ممارسة الضغط مع إدراكها أنه سيكون من الصعب تعديل سلوك النظام، فقد يكون من الحكمة خلق مسافة من نظام يستاء [منه] الكثير من سكان [البلاد]، ومستقبله غير مؤكد».
وأخيرًا، فدور الوساطة المصرية الذي تحتاجه الإدارة الجديدة في البيت الأبيض قد يخفف الضغوط على مصر فيما يتعلق بملف حقوق الإنسان، وقد تستفيد من الدعم الأمريكي في إمكانية الوصول إلى اتفاق مرضٍ للأطراف الثلاثة فيما يخص سد النهضة. أما الصراع مع «الإخوان»، فيكفي أن نشير إلى ما انتهت إليه دراسة كارنيجي حول أسباب تأجيل الانتخابات الفلسطينية: «إضافة للأسباب الفلسطينية الداخلية، برزت تدخلات عربية وإقليمية ساهمت بدورها في تأجيل الانتخابات، فقد زار مقر الرئاسة الفلسطينية في الأشهر الماضية رئيسا جهاز المخابرات المصرية عباس كامل، والأردنية أحمد حسني، والتقيا [الرئيس الفلسطيني محمود] عباس في أواسط يناير، في محاولة لثنيه عن الاستمرار بإجراء الانتخابات، خشية منهما من فوز حماس، ما سيترك تبعاته على أوضاع مصر والأردن الداخلية. فالقاهرة، من جهتها، لن ترحب بفوز «حماس»، لأنه سيمنح جماعة «الإخوان المسلمين» دعمًا معنويًا، في ظل ما تتعرض له من ملاحقة مصرية، لأن الوضعين الفلسطيني، خاصة في غزة، والمصري، يتأثران ببعضهما، ولاسيما في ظل قربهما الجغرافي. أما الأردن فقد خرج لتوه من أزمة أمنية داخلية تعلقت بما قيل إنه محاولة انقلاب على الملك، الذي تربطه علاقة متوترة مع جماعة «الإخوان» في المملكة، وأي فوز حماسي في الأراضي الفلسطينية، خاصة في الضفة الغربية سيعطي الجماعة عمقًا جديدًا، ويزيد عدم استقرار الأوضاع في المملكة». من هنا كان تشجيع المؤسسات الإسلامية الرسمية أن تكون سباقة في دعمها لفلسطين حتى يصب التأييد الشعبي للقضية في مصالح النظام.
وفي الختام، نشير إلى أن النظام كان واعيًا في موقفه بضرورة ألا تكون انتفاضة القدس سبيلًا لاستعادة السياسة مرة أخرى في مصر أو ربطها بملف حقوق الإنسان، برغم مطالبة بعض القوى والأحزاب والرموز السياسية المصرية بالسماح لهم بتنظيم فعاليات جماهيرية لمساندة الفلسطينيين أو إطلاق سراح بعض رموز ارتبط اسمها بقضية فلسطين.