نُشر في الجزيرة.نت – أكتوبر 2021
أصدر – الثلاثاء ٢٨سبتمبر ٢٠٢١-مجموعة من المفكّرات والمفكّرين واللاهوتيّات واللاهوتيّين المسيحيّين من الشرق الأوسط وثيقة مرجعيّة تتناول أوضاع المسيحيّين في هذه المنطقة من الناحية اللاهوتيّة والجيوسياسيّة والفكريّة والمجتمعيّة ؛حملت عنوان “نختار الحياة :المسيحيون في الشرق الأوسط نحو خيارات لاهوتية ومجتمعية متجددة“.أهمية الوثيقة تأتي من اعتبارات عدة أبرزها:التوقيت الذي يصادف مرور عقد علي الربيع العربي ،والاطروحة الاساسية التي تقدمها الوثيقة استجابة لتحديات الوجود المسيحي في المنطقة الذي بات مهددا لا بحكم الديموغرافيا وقلة العدد فقط ولكن هامشية الدور والاستغناء عنه ،وثالثا المتطلبات الضرورية لتحقيق هذه الاستجابة فاعليتها سواء لدي الكنائس والفواعل المسيحية ذاتها أو في السياق الذي تتحرك فيه.المشكل سياسي أم ديني؟قدر لكاتب هذه السطور أن يشارك ويطلق مبادرات عدة في ملف العلاقات الإسلامية المسيحية سواء علي المستوي الوطني (لجنة العدالة والمساواة ٢٠١١) ،أو المحلي في محافظات مصر (محافظة قنا) ،أو علي المستوي الإقليمي والدولي (الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي ،ومنتدي مناهضة الراديكاليات مع مجلس الكنائس العالمي) ،وقد علمتني خبرة هذه السنين الطويلة أن الجهود التي تتجه لمعالجة الجذور الثقافية/الدينية لمعضلات العلاقات الإسلامية المسيحية وحدها لا تكفي ؛بل إن فاعليتها محدودة ؛فأزمات الوجود والتفاعل والصدام الذي يصل إلي العنف في أحيان؛ هي أزمات تنموية وسياسية تختبر فيها أطرافها موازين القوي فيما بينها في ظل امتزاج شديد للمشاعر الدينية والثقافية بطبيعة هذه الأزمات ،وقد يتصور البعض أن معالجة الأبعاد الثقافية -في شكل اصدار وثائق أو تدريب فواعل دينية ومدنية أو صيحات تجديد خطاب ديني أو لاهوتي -وحدها كفيل بحل مشكلات هذا التفاعل. هي جهود هامة ومطلوبة ومقدرة؛ لكن المشكل في السياق والسياسة اللتان علي أرضيتهما يتم استدعاء واستحضار الديني ليقدم بشكل يبدو معه أن المشكل ديني/ثقافي. بعبارة أخري؛ فإن الواقع المأزوم يستهلك خطابا مأزوما ،وهذا الخطاب المأزوم يغذي الواقع المأزوم بما يدخلنا في حلقة جهنمية يصعب الفكاك منها.اتسمت الوثيقة بقدرتها علي الجمع بين الثقافي والسياقي في تحليل أزمة الوجود المسيحي في المنطقة ،وخصصت الفصل الأول منها للحديث في السياقين الجيوسياسي والكنسي اللاهوتي ،وطرحت تبني خيار اللاهوت السياقي -الذي ينطلق من ادراك عميق للواقع لإعادة فهم الكتاب المقدس – سبيلا لتجديد الخطاب الديني المسيحي ،كما طالبت بتغييرات في السياق السياسي أهمها تغيير طبيعة الدولة لتكون مدنية ومحايدة ازاء الأديان جميعا بما يسمح بوقوفها علي مسافة واحدة من الأديان جميعا ،والعنف لا يرتبط بالإسلام دينًا بل هو ظاهرة أنثروبولوجية مجتمعية بالدرجة الأولي غالبا ما يرتبط بخطاب عن الهويات مغلق وإقصائي وفوقي -علي حد قول الوثيقة.وبرغم الجمع بين البعدين السياقي والثقافي في الفهم والتحليل إلا أن بعض أجزاء الوثيقة قد غلب عليها الاقتراب الثقافي حين سعت لتقديم حلول جامعة مانعة لمجمل أوضاع المنطقة دون تمييز بين طبيعة التطور التاريخي لكل قطر فيها ؛خاصة أن الواقع يخبرنا أن هناك تداخل شديد وعلي مستويات متعددة بين المدني وبين الديني بما يحول دون طرح أحدهما في تصادم أو بديلا عن الآخر ،ويصبح السؤال هو كيفية تنظيم العلاقة بينهما ولكن من مدخل سياسي؛بعبارة اخري فإن ما بات مقتنعا به كاتب هذه السطور هو أننا نحتاج إلي مجال ديني تعددي حر ومستقل عن السلطة؛ الحاكم فيه هو التوافق علي القيم والقواعد السياسية المشتركة التي يجب أن تحكم المجال العام ،وقد طرحت الوثيقة عددا من هذه القيم أبرزها: الدولة المدنية المحايدة ازاء الأديان جميعا والمواطنة الحاضنة للتنوع ،وتجاوز المنطق الأقلوي واستدعاء الحمايات الخارجية والداخلية ،والديموقراطية بمعناها السياسي والمجتمعي المتسع ،وحرية الضمير …إلخ.هنا تبرز تناقضات الوثيقة التي تحتاج إلي حل: فالعقل-وفقا لها- يمثل المشترك العام بين البشر ،وفي موطن آخر فإن الكنائس ليست مؤسسات سياسية ولا يجب أن تخضع للتوظيف السياسي خاصة من السلط السياسية،وتري ضرورة تفكيك ربط المعطي الديني العقائدي بالفضاء العام عبر جعل هذا المعطي بوصلة أخلاقية (وإن كنت أفضل استخدام لفظة قيمي حتي لا تنصرف للمجال الخاص) لا تدخل في إدارة الشأن العام ،وفق هذا التصور فإن المؤسسة الدينية تضع حدودا لتماسها مع الدستور والقوانين ولا تتخطي هذه الحدود إلا عندما تستشعر انحرافا عن البوصلة الأخلاقية.وبرغم اتفاقي مع ضرورة ترسيم الحدود بين الديني والفضاء العام ، الديني والمجال العام .. قراءة فى الخبرة المصرية بعد ثورة 25 يناير – هشام جعفر – بوابة الشروقلكن في المقابل يجب ترسيم الحدود بين السلطة وبين الديني وهذا ما فصلت فيه الوثيقة من تداعيات لغيابه ،إلا أن محل الخلاف الرئيس معها هي استبعادها للديني في قدرته علي رسم المشترك أو العام وقصره علي العقل فقط ،وهذا من عجائب الوثيقة فهي تطالب بتجديد الخطاب اللاهوتي ليسهم في حل معضلات الوجود المسيحي في المنطقة ؛وفي الوقت نفسه تستبعد الديني سبيلا لتأسيس ودعم القيم السياسية المشتركة. في تقديري فإن المداخل الدينية- بإعادة قراءة النصوص المقدسة -يمكن أن يكون لها اسهام -بجوار المداخل الاخري- في الوصول للدولة الديموقراطية الدستورية التي تبغيها الوثيقة (انظر مثالا للجهود التي بذلت للتوافق بين الإسلامية والديموقراطية والمواطنة). صحيح أن “فائض التدين” في مجتماعاتنا أصابها بالارباك في المجالين العام والخاص ،إلا أن معالجة ذلك لا يكون باستبعاده من أية علاقة بالفضاء العام ويقتصر حضوره فقط إذا انتهكت قيمه.الحداثة المجهضة والربيع العربياستدعت الوثيقة ثلاث لحظات تاريخية للقيام بتأسيس اطروحتها الاساسية المتمثلة في “الاندماج الفاعل” “ومجازفة الحضور والشهادة” :الأولي التاريخ المسيحي الممتد في المنطقة قبل الإسلام وبعده الذي اتسم بتنوع قام علي التمايز والتلاقي في آن ،والثانية الحداثة العربية المجهضة -علي حد قولها- أواخر القرن التاسع عشر لاستحضار الحل الذي قدمته من علمانية تعالج مشكلة الاقليات والأكثريات وما طرحته من تفكير معمق في علاقة الدين بتطور المجتمع ،مع إبراز مساهمة النخبة المسيحية في هذه الفترة.أما الثالثة فكانت لحظة الربيع العربي ،وهنا استطاعت الوثيقة أن تميز بين جوهر السردية التي يقدمها وبين رهانات الواقع التي حكمتها ،بالاضافة إلي حدودها وإخفاقاتها:فهذه الانتفاضات “طاقة تغيير” ،واسقطت “مفهوم الأقلية والأكثرية باسم المواطنة القائمة علي حقوق الفرد” ,وطالبت بإعادة مفهوم المواطنة إلي قلب الممارسة السياسية وجعله نبراس الاصلاح السياسي والمجتمعي. ولكن هذه الانتفاضات برغم ما اتسمت به من شبابية وامتزاج بين المسألة الاجتماعية والحريات ؛ تميزت ب”عدم قدرتها علي بلورة مشروع وطني تحديثي متكامل”. أهمية الربيع العربي -وفق الوثيقة- هو أنه بات “منطلقا لنشوء طروحات جديدة في تفحص علاقة المواطنة بالإنتماءات الاخري كالدين والطائفة والعرق واللون والطبقة” ،وظني أن الوثيقة بنت هذه الطروحات الجديدة.حاولت الوثيقة الجمع بين هذه اللحظات التاريخية الثلاث ،لكنها مثلت أيضا- ومن وجهة نظري- أحد تناقضاتها :في حقبة الحداثة التي بدأت من أواخر القرن الثامن عشر وامتدت علي مدار القرن التاسع عشر كله كانت هناك استجابات متعددة ومتنوعة لتحديات هذه الحقبة بعضها اعتمد العقل وحده وهناك من اعتمد العقل والنص وهناك من اكتفي بالدين والنص لتوليد استجابته ،ولم تقتصر الاستجابة علي الجانب الفكري والثقافي بل امتد لممارسات الدولة وتطوير النظم ذاتها ،وهنا يمكن أن أشير إلي خبرة مجلس الأحكام في ١٨٤٩ أواخر عهد محمد علي الذي كان من أدواره المواءمة بين الشريعة وممارسات الدولة الحديثة.ما أريد أن أخلص إليه أن استدعاء لحظة “الحداثة المجهضة” هو استدعاء للحظة تاريخية لا يوجد توافق عليها فهي عند قطاع من المسلمين تجاوز للبعد الديني التي تأسست عليه حيواتهم ،وهي لحظة الاستعمار الغربي والقضاء علي الكيان السياسي الجامع للمسلمين ،إلا أن الأهم من وجهة نظري أنه استدعاء لثنائيات دار عليها الجدل الفكري والسياسي للقرن العشرين وقد تجاوزها الزمن من قبيل: نحن والغرب ،والأصالة والمعاصرة ،والحديث والقديم والنص والعقل ..إلخ.كاتب هذه السطور يطرح الربيع العربي بموجتيه بديلا للحداثة المجهضة ؛باعتبارها لحظة التوافق الكبري ؛فهي جامعة وتأسيسية تنتمي للقرن الواحد والعشرين :هي لحظة جامعة لأنها أوجدت المشتركات بين المواطنين في الميادين ،ودعمتها بالممارسة لا بالايديولوجيا ،واستطاعت أن تتجاوز خطابات الهويات المفرقة نحو خطاب المعاش الذي يقوم علي احتياجات وأولويات الناس الحياتية واليومية ،كما أنها لاتزال مستمرة ولم تنته بعد.الوثيقة وإن صدرت مع عقد من الربيع العربي؛ فإنه يغلب علي الظن أن أصحابها لم يريدوا لها ذلك ، وأخالها تأخرت عشرة سنوات هي مدة هذه الحقبة ؛ فالانتفاضات العربية وحركة المواطنين في الميادين والشوارع طرحت -علي مستوي الممارسة قبل التنظير – وقبل اختطافها ثلاثة مفاهيم في هذا الصعيد :١-المواطنة الحاضنة للتنوع؛ حين شارك الجميع في هذه الانتفاضات لا تعبيرا عن انتماءاتهم الدينية أو السياسية والايديولوجية والجنسانية ولكن باعتبارهم مواطنين اكتشفوا حين رأوا بعضهم البعض أنهم متنوعين تجمعهم قيم العيش والحرية والعدالة الاجتماعية ،ويرتبط بهذا ؛المفهوم الثاني أن المسيحيين -خاصة الشباب والشابات-لم يعودوا “رعايا الطائفة” بل أبناء هذه الانتفاضات ،ومما أتذكره في هذا الموضوع أن أحد القساوسة في قنا قد اشتكي لي في أوائل ٢٠١٣ أن ٨٠٪ من الشباب المسيحي باتوا بعيدين عن تأثير الكنيسة ،وأذكر شابة مسيحية من حلب شاركت في بدايات الحراك الجماهيري في سوريا متجاوزة موقف كنيستها الرافض لهذا الحراك. ٣-الانتقال إلي صيغة الحاضنة المجتمعية بديلا عن الامتيازات السلطوية ؛فقد انهارت السلط جميعا وعجزت عن حماية أنفسها ؛ناهيك عن تابعيها ،لذا لم يعد أمامنا غير التفاعلات المجتمعية سبيلا لصيانة وحفظ العلاقات.العولمة الملتبسةحرصت في كتابي الذي حمل عنوان :”سردية الربيع العربي ورهانات الواقع” الذي صدر هذا العام علي أن يحمل فصله الأول عنوان :”يا محتجي العالم اتحدوا” ، وكتبت فيه ما نصه:”من بداية الألفية الثالثة شهدنا نضالات واحتجاجات متنوعة ،أخذت طابع الموجات التي تتصاعد تارة وتخبو أحيانا أخري ، يعرب المتظاهرون فيها عن غضبهم من:وحشية الشرطة ،والفساد ،ورأسمالية المحاسيب ،وغطرسة من هم في السلطة ،والتلاعب بالسياسة ،وضعف المؤسسات السياسية عن تمثيل الناس ،وتهميشهم الجماعي،وتفاقم التفاوتات في الثروة والدخل والفرص …تطول القائمة ولكن ما يجمعها طلب انساني عالمي علي الكرامة والعدالة والحرية،ولكن لماذا يجب أن نتوقف أمام هذه الموجة العالمية من الاحتجاج ضد العنصرية التي جعلت الصحفي كيم زيتر يكتب أن التأثير العالمي لحركة الحياة السوداء في الأسابيع الأخيرة بدا وكأنه تحول “ضخم مثل سقوط جدار برلين”،ولماذا يجب فهمها في سياق عقدين من الاحتجاجات المتواصلة،أي من بداية الألفية الثالثة؟وما علاقة هذه الاحتجاجات بتفشي فيروس كورونا؟”.غلب علي الوثيقة نظرة سلبية للعولمة ولم ير فيها أصحابها امكانيات يمكن الاستفادة منها لحركة شعوب المنطقة نحو العدالة والمساواة ،كما كانت الدولة القومية هي وحدة التحليل الاساسية لقياس تأثيراتها :فهي تتسم بقدر من التنميط خاصة في المدن ،وهي وإن كانت تفضي إلي تكثيف التواصل الانساني إلا أنها “تعمق ظاهرة ارتباط الانسان بالآلة ،ما قد يؤدي إلي تهديد قدرة الانسان الفرد علي إقامة علاقات أصيلة بالمحيطين به”،وتضيف الوثيقة أن “مجتمعات الشرق الأوسط التي تنتشر فيها ثقافة الاستهلاك تجد ذاتها ضحية لمآلات العولمة الاقتصادية”،كما أن الجنوح إلي العولمة غالبا ما يتسم بميل معاكس إلي التشديد علي الخصوصيات والهويات الضيقة ،وهذا الاستقطاب في منطقة الشرق الأوسط يؤدي إلي “التوتر بين تعاظم الشعور الديني من جهة وتصاعد اللامبالاة الدينية وعدم الثقة بالدين من جهة أخري”.وهكذا؛ فإن النظر السلبي للعولمة يحرمنا من الاستفادة من امكانيتها التي كانت أحد تجلياتها حالة الاحتجاج المعولم الذي سبق وأشرت إليه ،ويحجب عنا معاناة قطاعات من البشرية بغض النظر عن وجودها في دول غنية أو فقيرة ؛فعلي سبيل المثال أظهرت جائحة كورونا مقدار التفاوتات بين الدول وفي داخلها علي حد سواء ،وهذه الامكانيات تسمح ببناء شبكات عبر وطنية يجمعها قيم انسانية مشتركة نناضل من أجلها جميعا،والأهم أن الشابات والشباب يعيشون فيها وبها ويستخدمون أدواتها التي هي في جوهرها نموذج معرفي جديد الثورة المصرية والإعلام الجديد.. قراءة فى النماذج المعرفية – هشام جعفرينتمي لهذا القرن مخلفا وراءه القرن العشرين كله.