مثّل الملف الذي نشره «مدى مصر» عن الربيع العربي الأيام القليلة الماضية (بدأ نشره 31 أكتوبر الماضي)، وشمل تسعة مقالات بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة، فرصة لكاتب هذه السطور لمراجعة واختبار القدرة التفسيرية «للنموذج الانتفاضي العربي». ذلك المفهوم الذي صغته ليُمكن من خلاله فهم وتفسير ديناميات الاحتجاج العربي التي استمرت على مدار العقد الماضي في موجات متعاقبة، ولا أظنها تنتهي وإن اتخذت أشكالًا جديدة.
لم يكن الهدف من صياغة المفهوم -فقط- قدرته التفسيرية، ولكن كان أحد مقاصده الأساسية هو ضرورة امتلاك قوى التغيير في المنطقة لسردية كبرى، يمكن من خلالها فهم وتفسير ما جرى ولا يزال جاريًا. فبدون هذه السردية الكبرى -التي لن تتوفر إلا بعملية حوار ممتدة ومتسعة- لا يمكن للتغيير أن يأخذ مداه في التعبير عن تطلعات شعوب المنطقة نحو الحرية الممتزجة بالعدالة الاجتماعية، والساعية للاستقلال الوطني وتحرير إرادتها من شبكات الامتياز الدولية والإقليمية والمحلية، أو ما عبرت عنه مقالات الملف بـ«الإمبريالية»، وفق التعبيرات اليسارية الأثيرة. وفي القلب من ذلك كله قضية فلسطين التي أضاف إليها الملف أيضًا قضية الصحراء الغربية؛ فالإمبريالية العالمية تعد «فلسطين والصحراء الغربية ملفّين موروثين عن فترة النضالات المعادية للاستعمار والأنظمة (التقدمية)»، كما تنظر إلى القضيتين «كمعرقل لاندماج المنطقة اقتصاديًا واندراجها في العولمة الرأسمالية»، على حد قول علي أموزاي في مقاله.
إحدى مهام امتلاك سردية للربيع العربي هي معالجة حالة القنوط والتشاؤم واليأس التي ترتبت على تداعيات هذه الانتفاضات، حيث يشيع البعض أنها: لم تكن تستحق العناء، وكان من الأفضل البقاء تحت نِيرِ الفقر والاستبداد، وهو بخلاف أكثرية الرأي العام العربي الذي ينظر 58% منه أنها عمل إيجابي. لذا فإنّا «نحتاج إلى التصدي بقوة لمثل هذا التأويل وتفكيكه بهدف تقديم قراءة أكثر تدقيقًا وأقل مثالية (أكثر مادية) للثورة وتبعاتها»، كما جاء في مقدمة الملف.
القراءة التاريخية لانتفاضات الربيع العربي هي أننا أمام إعادة تشكل للتاريخ كله في المنطقة. نحن أمام محطة تاريخية فاصلة: فالقديم قاد إلى الانفجار ولم يعد قادرًا على تقديم استجابات لتحديات المجتمع والدولة. لكن الجديد لم يتبلور بعد، وهذه هي مهمتنا التاريخية كما أعتقد، واللحظة تمتلئ بالكثير والكثير مما يصب في المستقبل. وبمقدار قدرة الفواعل الاجتماعية على التقاط مقومات هذه اللحظة، بمقدار ما سنكون على أول طريق التحرر، «ورغم أن هجمات الثورة المضادّة ستسعى دائمًا إلى تحطيم إرادة الشعوب، فما زالت الانتفاضات والثورات من أجل الانعتاق متواصلة، وستتواصل»، كما جاء نصًا في المقدمة.
سردية الانتفاضات العربية -كما قدمتها- بحث عن عقد اجتماعي جديد يتم به إعادة بناء الوطن (نريد وطن – من شعارات العراقيين) بنخب جديدة، ويستند هذا العقد إلى مقومات ثلاثة: 1- الحرية/ الديمقراطية، باعتبارها اسم جامع لكثير من القيم وفي مقدمتها التعددية. 2- والعدالة الاجتماعية/ التوزيع العادل للموارد والثروة، والتي جعلت من أولوية المواطن العربي خطابات المعاش وليس جدالات الهوية ومطلقات الأيديولوجيا. 3- وتحرير الإرادة الوطنية من الهيمنة الإقليمية والدولية. وأضفت إليها 4- قضية فلسطين بين حراسة الجدران وسيف القدس، مع اندلاع انتفاضة القدس أوائل هذا العام.
هذا الحلم يكاد يكون عليه توافق من الطبقة الوسطى، والطبقات العاملة والمهمشة، وبعض شرائح من الطبقة الوسطى العليا، لكن قوته المحركة أجيال جديدة من الشباب والشابات والذي يجعل من الحضور النسائي الطاغي أحد سمات هذه الانتفاضات.
ميزة الملف ونقطة ضعفه في آن واحد، أنه يرسم خرائط مواقف الطبقات الاجتماعية من هذه الانتفاضات، ولكن انطلاقه في مقالاته كلها -باستثناء واحدة- من مفاهيم جاهزة أنتجته قريحة أحد التيارات اليسارية في العمل البحثي والسياسي، والتي أسقطها على واقع شديد التعقيد والتركيب، قد جعله يتسم بالاختزالية برغم أنه يتحدث عن مقاربة شمولية. المقاربة الاقتصادية/ الطبقية سمحت بفهم وإدراك واعٍ لطبيعة المأزق الاجتماعي الذي تواجهه شعوب العالم ومنها منطقتنا، ولكنه في نفس الوقت لم يستطع أن يدرك أن هذا المأزق -كما النضالات- يتحرك وفق نماذج معرفية جديدة وآليات عمل غير مسبوقة، تعيد تعريف الثيمات الكبرى.
يتحرى الاستثناء الوحيد، وهو مقال: «انتفاضة العراق 2019 والخيال النسوي»، القطيعة مع المقاربات الثنائية القائمة بين «القدرة الفردية /agency» والمقاومة، في تحليل الجوانب الجندرية والجنسانية للانتفاضات. ويفحص المقال «المظاهرات بصفتها وجودًا جسديًا هائلًا في الشوارع واحتلالًا للفضاء الإلكتروني سمح بإنتاج مساحة خطابية ومادية وتخيلية في آن». وقد سمح هذا الاقتراب للكاتبة بالتقاط الجوانب المستجدة في الانتفاضات العربية، في حين أن البدء بمنهجيات جاهزة للتعامل مع ظواهر مستجدة قد جعل بعض مقالات الملف تقع في ما انتقدته في الخطاب الاستشراقي الحديث تجاه المنطقة من تمثيل اختزالي للآخر وحجب السرديات.
سمات النموذج الانتفاضي
لكن ما الذي يمكن أن يثري به هذا الملف مفهوم النموذج الانتفاضي العربي؟
يمكن الحديث عن سمات ست لهذا النموذج:
1- السيرورة الثورية: يقدم لنا الملف في معظم مقالاته هذا المفهوم باعتباره صيغة حاكمة للانتفاضات العربية في البلدان المختلفة لذا فـ«ما زال تبيان الآثار بعيدة الأمد لهذه الموجات من الانتفاض سابقًا لأوانه»، كما لا يمكن فهمها إلا في سياق تاريخي ممتد يكتسب خصوصيته من تاريخ كل بلد. ففي الجزائر جرى استخدام لفظ «الثورة الجزائرية» ليوحي بالامتداد التاريخي مع ثورة الشعب ضد الاستعمار الفرنسي، وفي العراق رأى المتظاهرون «نضالهم استمرارًا لشهادة الإمام الحسين. واستخدم المتظاهرون ساحة التحرير مزارًا مقدسًا أدوا في جنباته طقوس الموت، إذ كانوا يدورون بأكفان الشهداء حول النصب التذكاري قبل التوجه إلى وادي السلام في النجف لإتمام طقوس الدفن الدينية».
والسيرورة الثورية لا تجد معناها في الامتداد التاريخي فقط، بل هي نضالات مستمرة تخبو حينًا، ولكنها سرعان ما تعاود الفعل الثوري وإن بأشكال جديدة. فانتفاضات العراق ولبنان تضرب «بجذورهما في دورات سابقة من حراكات متلازمة -وإن كانت منفصلة- بلغت ذروتها عام 2015. ففي 16 يوليو 2015 تجمّع المتظاهرون في مدينة البصرة جنوبيّ العراق احتجاجًا على انقطاع الكهرباء المتواصل وتلوّث المياه وبطالة الشباب والفساد، وفي اليوم التالي، 17 يوليو 2015، وعلى بعد 1215 كيلومترًا، قطع سكان مدينة الناعمة في جنوب لبنان الطريق المؤدية إلى موقع معالجة القمامة الرئيسي في البلاد بسبب أزمة القمامة التي لوثت معظم مناطق بيروت وجبل لبنان».
الخلاصة كما قدمتها ريما ماجد في مقالها: «من المهم التفكير فيها من حيث كونها ‘سيرورات’ ثورية لا ‘أحداث’ ثورية تنجح أو تفشل. من المهمّ أيضًا فهم البُعد الزمني الذي يحكم تعريف الثورات. فيُشار إلى الثورات بهذا المسمّى بأثر رجعي، بعد أن تنجح في إسقاط طبقة حاكمة أو نظام حاكم».
2- امتزاج السياسي بالاجتماعي: وهذه الخاصية تعكس أولوية الاستقطاب الهائل في الثروة والسلطة عبر المنطقة. لذا فقد أخذت حظها من النقاش المعمق في جل مقالات الملف فشعار «عيش، حرية، عدالة اجتماعية» يوضح بجلاء هذا الارتباط العميق بين المجالين الاقتصادي والسياسي». كما أن الانفصال الذي جرى بينهما قد سمح بإعادة إنتاج النظام السابق بسلطويته النيوليبرالية مرة أخرى كما جرى في مصر بعد 2013، ويجري الآن في تونس. فـ«بعد عشر سنوات تُظهر تجربة انتفاضات 2011 أن التركيز على المطالب السياسية وحدها لا يكفي (مثل مطالب إجراء انتخابات جديدة أو التركيز على الفساد الحكومي) في غياب التصدي المتزامن للقوى الاجتماعية والاقتصادية لرأس المال (وطنيًا وإقليميًا وعالميًا». كما «لا يمكن إحداث قطيعة واضحة وأساسية مع بُنى الدولة السلطوية في ظل استمرار نظام اقتصادي ماضٍ في تعزيز النمو المختل وما يسمى بـ«الأسواق الحرة» على حساب العدالة الاجتماعية والمساواة».
هكذا، يمضي الملف في بيان تداعيات الانفصال الذي جرى بين المكونين السياسي والاجتماعي، «وإذا كانت عزلة الحراك السياسي عن مثيله ذي المطالب الاجتماعية والاقتصادية، أحد عوامل وأدِ حراك 20 فبراير [في المغرب]،فمن شأن دمجهما مستقبلًا أن يُسْهِمَ في الظفر ليس بحرية سياسية وحَسْب -يكون رأس المال هو المستفيد الرئيسي منها- بل كذلك بإسقاط مجمل نظام الاستبداد النيوليبرالي وإرساء ديمقراطية حقيقية تشمل الجميع».
وبالرغم من الحديث عما حققته الثورة المضادة من انتصارات، إلا أن عدم قدرتها على تقديم حلول للمسألة الاجتماعية حتى الآن يجعل من إمكانية استمرار هذه الانتفاضات أمرًا محتمًا، فـ«لم يسبق للملكية [المغربية] في تاريخها أن حققت إجماعًا داخليًا وخارجيًا كما هو الآن، لذلك فهي تزهو مثل البطل الأسطوري اليوناني أخيل. ولكن كما لأخيل عَقِب، فإن للملكية عقبين؛ الأول هو تفجرية الأزمة الاجتماعية التي تحاول تنفسيها، والثاني هو التطورات المستقبلية للأزمة الاقتصادية العالمية وآثارها على آمال الملكية في لعب دور الفصيلة الأمامية للرأسمال العالمي من أجل نهب ثروات إفريقيا وغزو سوقها».
التناقض بين المسألتين السياسية والاجتماعية يُظهر مدى فشل «الاستثناء التونسي» الديمقراطي المزعوم، «إذ أكّدت مرّة أخرى أنّ الحديث عن الحرّية هو بمثابة سراب في ظلّ ديمقراطية تمثيلية تتحكّم بها رؤوس الأموال والقوى الإمبريالية وتفتقد لأيّ مضمون اجتماعي أو سيادي».
تدلنا الخبرة المصرية على عدد من القضايا التي يشير إليها مقال آن ألكسندر و مصطفى بسيوني عن الحركة العمالية والثورة: الأولى هي إغفال دور الحركة العمالية في الحراك الثوري بعد تنحي مبارك، حيث أُهمِل جانب الثورة الاجتماعي إجمالًا وتمّ التركيز على حالة التمرد الشبابية المدعومة من وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة. كما تم اختصار معنى «الثورة» -من القوي السياسية- في حدود تعديل الدستور وتطوير الآليات الانتخابية، وأخيرًا اكتشف العمال -في أثناء نضالهم من أجل «تطهير المؤسسات» في بعض المواقع- استحالة الفصل الكامل بين الكفاح ضد الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم سياسيًا والكفاح من أجل العدالة الاجتماعية.
3- صوت النساء ثورة: فبالرغم من الحضور النسائي الطاغي إلا أن الانتفاضات لم تشتمل علي أجندة نسوية أو أجندة تركز على قضايا النساء، ولكن حضورها برز «من خلال التفعيل الملموس والواضح للمساواة وفي الحضور الكبير واختلاط الأجساد»، على حد قول زهراء علي، ووفق هذا المنطلق تم تحدي المعايير الجندرية في الانتفاضات العربية.
تقدم لنا الكاتبة أمثلة عديدة على التمرد على المعايير الجندرية، أو وفق صياغتها «أنماطًا مبتكرة للتقارب الاجتماعي تجاوزت التراتبيات الاجتماعية والسياسية القائمة»، إلا أنها لا تتابع كيفية بناء المعايير الجديدة التي تقوم على فكرة المواطنة الحاضنة للتنوع والرافضة للتمييز بأشكاله كافة.
الملاحظ أن النساء تقدمت الصفوف في هذه الانتفاضات، متجاوزة ثنائية الذكر /الأنثى التي حكمت التفكير النسوي التقليدي والخطابات الإسلامية التي تقوم على الفصل بينهما مستندة إلى تأويلات محافظة للنص الديني. تجاوزت هذه الممارسات نحو أفق المواطنة، فقضاياهن باتت تطرح ليس باعتبارها قضايا تخصهن وحدهن بل في علاقتها بالقضايا العامة الأخرى، وهذا من شأنه أن يوسع القاعدة الاجتماعية الداعمة لها.
وهنا ملاحظة جديرة بالإشارة وهي: أن الانتفاضات قد أسقطت بحكم انتمائها للنموذج المعرفي للميديا الجديدة جميع السلطات الأبوية في الدولة والمجتمع. لقد سقطت سلطة الأب في الأسرة، نتاج عوامل اجتماعية واقتصادية لا داعي للتفصيل فيها الآن، وسقطت سلطة المدرس/ المؤسسة التعليمية، وسقطت سلطة الشيخ/ القس والمؤسسة الدينية، وسقطت سلطة أجهزة الدولة العربية، باعتبار أن جيلنا -جيل الثمانينيات- آخر من شهد سلطة هذه الأجهزة حين تعلم في مدارسها وتخرج في جامعاتها وعمل في بعض مؤسساتها، ولكن الأجيال التالية تهاوت في نفوسها هذه السلطات جميعًا. ثم كان إسقاطها لرأس النظام إسقاطًا لآخر رموز السلطة الأبوية في المجتمع. وهذا ربما يفسر لماذا تم تجاوز ثنائية الذكر/ الأنثى في هذه الانتفاضات.
4- يا محتجي العالم اتحدوا: كان هذا هو عنوان الفصل الأول من كتابي عن الربيع العربي الذي صدر أوائل هذا العام، وقد قمت بتأسيس وحدة النضال -كما جرى في الملف أيضًا- على مناهضة النيوليبرالية، والعنصرية كما برزت في حركة «حياة السود مهمة» و«احتلوا وول ستريت»، والتي ربط بينها حمزة حموشان وبين الثورة الجزائرية.
جاء في مقدمة الملف: «كانت التجربة التحررِية [يقصد الموجة الأولى من الانتفاضات العربية] هذه مُعديَة، فألهمت العديد من الشعوب حول العالم، سواء سمّوا أنفسهم (حركة احتلّوا وال ستريت) أو (الساخطون)، كان الناشطون في مدريد ولندن ونيويورك فخورين بـ(السير على خُطى المصريين)».
ومما قلته في الفصل المذكور: هل بمناهضة النيوليبرالية نناهض العنصرية؟ من بداية الألفية الثالثة شهدنا نضالات واحتجاجات متنوعة، أخذت طابع الموجات التي تتصاعد تارة وتخبو أحيانًا أخرى، يعرب المتظاهرون فيها عن غضبهم من وحشية الشرطة والفساد ورأسمالية المحسوبية وغطرسة من هم في السلطة والتلاعب بالسياسة وضعف المؤسسات السياسية عن تمثيل الناس وتهميشهم الجماعي، وتفاقم التفاوتات في الثروة والدخل والفرص، تطول القائمة ولكن ما يجمعها طلب إنساني عالمي على الكرامة والعدالة والحرية».
ولعل الاقتراح الأكثر تفاؤلًا عبر هذه المقالات هو الدعوة إلى تضامن إقليمي وعالمي. «فالتضامن مع الشعوب المحاصرة تحت قنابل أنظمتها، وكذلك الأنظمة المتدخّلة من الخارج، ومع الشعب الفلسطيني، ومع الحركات التحررية في جميع أنحاء العالم، هو أمر حاسم في النضال الطويل ضد الرأسمالية وأداتها التنفيذيّة، الدولة الاستبدادية».
ترابط العالم يغذي أشكال التضامن العابرة للحدود، أو هكذا ينبغي أن يفعل، لكن الأهم أن له أدوارًا ووظائف متعددة أهمها «التعلّم من بعضنا، وربط نضالاتنا ببعضنا، وأن نكون متيقظين للطريقة التي تعرّضت فيها الحركات التحررية في دول الجنوب في ستينيات القرن الماضي للعدوان أو الاستقطاب أو التدجين».
5- سياسة التكنوقراط: هذا الملمح يبرز عددًا من سمات الانتفاضات العربية، ولكنه في نفس الوقت يظهر مدى ضعفها وهشاشتها.
هي انتفاضات تفتقد القيادة، والتنظيم حين تعتمد شبكية التفاعلات، ولا أيديولوجية أو متجاوزة للأيديولوجيا، وتعتمد على الممارسة وتتعلم مما يجري في الواقع، كما لا تقدم بديلًا سياسيًا ناهيك أن يكون ثوريًا، وأحد قيمها الأساسية الفردية.
هذه الديناميات والحركات غير المتبلورة، وغير المهيكلة، قادرة على توليد تعبئات متعدّدة الطبقات، تتّخذ حجمًا كبيرًا، ولا يكون جمهورها وقيادتها هدفًا سهلًا للقمع أو الاحتواء، إلا أنها حالت دون «ظهور حركات سياسيّة قويّة، كثيفة وراسخة وقادرة على الصمود في وجه الهجمات. في بعض الأحيان»، كما تكشّف ملمحًا من تناقضها في صورة «الهوة العميقة بين المطالب الجذريّة بالتغيير الكامل من جهة وانتشار الاحتفاء بانعدام القيادة والمطالب السياسية التكنوقراطية من جهة أخرى». ففي حين كانت الإرادة الشعبية الساعية إلى خلع النظام على أشُدِّها، كانت القدرة الشعبية على تقديم بديل سياسي ضعيفة للغاية بما «أدى إلى وضع سقف سياسي للثورة كان أدنى بكثير من المطامح الشعبية التي أطلقتها»، بالإضافة إلى ضعف التنظيم السياسي والعمل النقابي، أي ضعف البنى والهياكل القادرة على دعم الانتقال إلى نظام سياسي جديد.
6- فلسطين في قلب الانتفاضات: تلفت نظرنا مقالات الملف إلى أن التطبيع مع الكيان الصهيوني تقدم عندما كُسرت أو انكسرت الانتفاضات العربية، كما كان التضامن الجماهيري مع انتفاضات فلسطين أوائل هذه الألفية أحد البواعث الأولى للحراك العربي. ويضيف الملف بعدًا آخر، وهو العلاقة بين تحالف الثورة المضادة من أطراف دولية وإقليمية ومحلية وجوهر مشروعها الإمبريالي وبين قضية فلسطين. وهنا تبرز أحد جوانب قوة التحليل الاقتصادي/الطبقي الذي هيمن على مقالات الملف حين يجعل قضية فلسطين ليست من مسائل التحرر الوطني فقط، ولكنها أيضًا يجب أن تُفهم في إطار سياسات الإمبريالية بامتداداتها الإقليمية والدولية والمحلية فتكتسب بذلك أفقًا أوسع للنضال.
هكذا، كانت الممارسة الانتفاضية سبيلًا هاديًا لنا ومصدرًا فريدًا للمعرفة، وطريقًا نحو تطوير ترسانتنا المفاهيمية وأدواتنا البحثية.