في السياسة المصرية يتصور البعض أنه يمكن النزول إلي النهر مرات ومرات ويجد الماء كما هو لم يتغير، وفي السياسة المصرية تحتل المخيلة العامة فيها وتمتلئ بلحظات تاريخية تتحول إلي رهاب/فوبيا؛ وهو الخَوْف أو المَخَافَة أو الخَشْيَة الناجم عن الشعور بالخطر أو التهديد المتصور، وفي السياسة المصرية قد تتحول المواقف إلي مسخ مشوه لغياب الشروط الموضوعية التي تنتجها أو تسمح بتواجدها.
سياقات ثلاثة يحاول بها البعض إعادة إنتاج ٣٠ يونيو ٢٠١٣ برغم اختفاء العوامل التي دفعت بها، وبرغم تآكل الشرعية التي حققتها، وبرغم ضعف وتشظي واختفاء الفواعل التي وقفت وراءها، وبرغم تباين مصالح الاطراف الإقليمية التي حضرت فيها.
السياقات الثلاثة هي:
١- سياق الحوار السياسي الجاري التحضير له الآن والذي يري فيه البعض سبيلا لاعادة ائتلاف القوي في ٣٠ يونيو، أما السياق الثاني فيأتي من النظام الساعي لتجديد شرعيته في مواجهة الأزمة الاقتصادية باستخدام خطاب النفزيع والتخويف من المآل الذي كان يمكن أن تصل إليه مصر لو لم يتدخل الجيش في ٣ يوليو ٢٠١٣. وأخيرا؛ فإن السياق الثالث تحاول فيه بعض القوى والرموز السياسية استعادة حضورها في المشهد العام من مدخل دورها في الحدث.
إما وإن هذا لم يعد ممكنا فللأسباب الخمسة التالية:
أولا: غياب التأييد الشعبي
أسباب ثلاثة دفعت قطاع من الناس العادية لتأييد ٣٠ ستة: تدهور التصورات المتعلقة بالسلامة والأمن بعد يناير ٢٠١١، تدهور الظروف الاقتصادية، أداء الاخوان الكارثي في الحكم وما جري حوله من استقطاب.
هذه العوامل الثلاثة قادت إلي الخوف من الفوضي والتي هي عدو الزمن الانتقالي؛ وإذا خيرت الجماهير بين الفوضي وأي شيئ آخر اختارت أي شيئ آخر، ولكن هل لاتزال الجماهير يسيطر عليها هذا الشعور أم تغيرت أولوياتها؟
تدلنا استطلاعات الرأي المتعاقبة أن الأوضاع الاقتصادية هي التي تحتل الأولوية الأولي لدي المصريين الآن، وتأتي بعدها أولويات اخري مثل مكافحة الارهاب أو القضاء علي المخدرات أو التعامل مع الفساد.
إن الميراث الأيديولوجي للقومية التنموية/الناصرية كان محوريًا لبناء تحالف شعبي في يونيو ٢٠١٣ (وهذا ربما يفسر الاحتفاء برموز الناصرية واحتفاء الناصريين بالسيسي وقتها)، وقد احتلت فيه المؤسسة العسكرية -بما تتمتع به من ثقة كبيرة لدي قطاع عريض من المصريين- قلب هذا التحالف. سمح موقع الجيش بانفجار المشاعر الشعبية الداعمة للنظام بالاعتماد على صورته كمدافع عنه.
ولكن ما جري بعد ذلك لم يكن استعادة العقد الاجتماعي لنظام عبد الناصر القائم علي مقايضة الخبز بالحرية؛ فقد استند العقد الاجتماعي لنظام ٧/٣ علي طبعة نيوليبرالية شرسة انسحبت فيها الدولة عن تقديم كثير من الخدمات التي كانت تقوم بها تاريخيا؛ لذا فإن القدرة علي التعبئة الشعبية قد قلت إن لم تكن تلاشت، وللمفارقة فإن اللحظة الوحيدة التي شهدت حراكا شعبيا لم تقف وراءه قوة سياسية منظمة جري ضد هذه الطبعة النيوليبرالية في سبتمبر ٢٠١٩ والعام التالي.
مأزق قطاع من الجماهير في هذه المرحلة أنها لا تريد أن ترجع لما أعقب يناير من اضطرابات، لكن في نفس الوقت لا ترضي بما وصلت اليها مستويات معيشتها من ضرر؛ ولقد دفعت هذه الحقيقة خطاب النظام إلي المزاوجة بين خطاب الحماية بالمعني الهوبزي -أي التخويف من الفوضي، وبين خطاب التنمية التي تحققت والانجازات التي تمت، ولكنه يظل برغم ذلك عاجزا عن التعبئة الشعبية وراءه كما جري في ٢٠١٣.
ثانيا: تطلعات الشباب المصري
تدلنا استطلاعات الرأي أن جل الشباب المصري يتطلع إلى سياسات كفؤة، وفساد أقل، وفرص وظيفية أفضل، ومنظومة تعليمية أحدث. هذه ليست مطالب ثورية إلا إذا كانت الثورية أو الاحتجاجات مطلبا أساسيًا لتحقيقها.
طموحهم الهجرة إلى بلد آخر في السنوات العشرة المقبلة، ويأتي التفكير في الهجرة من تردي الأوضاع الاقتصادية واستشراء الفساد، ويلي ذلك نقص فرص التعليم والبحث عن تجارب جديدة.
احتل الشباب موقعا متقدما ومركزيا في احتجاجات ٣٠ ستة وما أعقبها ولكن سريعا تمت مصادرة حراكهم بقانون التظاهر في حكومة البيبلاوي القصيرة التي كانت وللمفارقة الحكومة التي أتت بها ٣٠ ستة، كما جري سريعا سجن عدد محدود من الرموز الشبابية، وقد توسع ذلك ليشمل أعدادا متسعة منهم بعد الفراغ من الاخوان؛ ناهيك عمن انتقل للعيش في الخارج خوف الملاحقة.
وعلي الوجه المقابل؛ فإن محاولة النظام خلق قاعدة شبابية مساندة -من خارج شباب يناير- عبر مؤتمرات الشباب ودورات الأكاديمية الوطنية للتدريب علي ما يبدو إنها لم تفلح في بناء قاعدة اجتماعية مساندة منهم؛ بدليل غياب أية عناصر شابة في الامانة العامة للحوار والتي غلب عليها كبار السن.[انظر تحليلا لتشكيل الامانة في مقال ا. حسين عبد الغني]
ثالثا: تفكك ائتلاف ٣٠ يونيو
لظروف كتابة هذا المقال استدعيت من كان في الصورة من مدنيين عند إعلان بيان ٧/٣، وبحثت عن مواقعهم في هذه اللحظة: شيخ الأزهر أتعب الرئيس لاسباب سبق وفصلتها في مقال سابق نشر في مصر ٣٦٠،وعلي الوجه المقابل فإن العلاقة بين البطرك والنظام تبدو ودية لتحقيق الأخير بعض المطالبات التي كان يعاني منها الأقباط تاريخيا؛ مثل بناء الكنائس والتمثيل في البرلمان، وهي وإن تحققت في اطار الامتياز وليس استنادا إلي المواطنة؛ إلا إنها تمثل جزءا من الطمأنة التي تتحق بالقضاء علي جماعات الإسلام السياسي.
وهنا ملاحظة تستحق المتابعة وهي المأزق المركب الذي يعانيه المسيحي المصري الآن وهو: المرواحة في أوضاعه بين أولويات مطالبه بحكم انتمائه الديني، وبين ضغوط الأوضاع المعيشية التي يعاني منها جموع المصريين. بمعني؛ أيهما له الأولوية الآن: المعاناة الاقتصادية أم مطالبه الخاصة، أم باتت معاناته مركبة من امتزاج الأثنتين معا، وما تأثير ذلك علي تأييد النظام واستمرار دعمه؟
أما البرادعي الذي كان ممثلا لجبهة الإنقاذ فقد فر معترضا خارج البلاد بعد فض رابعة، وتشرذمت القوي المدنية من بعده وضعفت، وقلت قدرتها علي التعبئة الجماهيرية خلف مطالبها، وباتت لا تجمعها رؤية واحدة للتعامل مع النظام الحالي؛ خاصة أنه سعي لتقريب بعضها واستبعاد الآخرين، بل في داخل الكيان الواحد استخدم آلية التقريب والاستبعاد.
أما طبقة رجال الأعمال الكبار وشبكات نظام مبارك فلم يجر إلا دمج شرائح محدودة منهم في النظام الجديد، وتم استبعاد كثير منهم بل شهدت العلاقات توترا متصاعدا نتيجة تناقض المصالح مع بعضهم في أحيان، بالاضافة إلي المحاكمات وسحب الأراضي والامتيازات من البعض الآخر.
وأخيرا وليس آخرا؛ فإن حزب النور الذي يجري استدعائه لمشهد الحوار الآن -حتي لا يقال باقصاء الإسلاميين وهي هي نفس المهمة التي انيطت به في ٧/٣- فقد كثيرا من شعبيته ومصداقيته إلي حد كبير.
وهكذا؛ فإن الصورة التي بدي فيها مشهد ٧/٣ لم تعد صالحة للاستدعاء اليوم.
رابعا: الإخوان وصناعة العدو
لأسباب عديدة -ليس مجال الحديث فيها الآن- فقد سهل سلوك الاخوان وسياقات الحرب علي الارهاب علي النظام الوليد صناعة العدو، وصاحب ذلك استخدام العنف الشديد بعد ٧/٣ بفترة وجيزة؛ حين قتل ما لا يقل عن ألف متظاهر مؤيد لمرسي بين يوليو وأكتوبر 2013 -وفق تقدير هيومن رايتس وتش- واعتقال عدة آلاف آخرين، وامتدت آثار القمع في مصر إلى ما وراء الاخوان لسحق المشاركة السياسية بشكل عام.
إن تأكيد دعاية النظام بأن البلاد تواجه تهديدًا وجوديًا من جماعة الإخوان المسلمين لا يؤدي فقط إلى تقنين السياسات القمعية ضد التنظيم؛ بل يتيح أيضًا التعبئة الجماهيرية وراء القمع.
وبرغم استمرار ارتكاز النظام في دعايته علي التعامل مع الاخوان باعتبارهم أعداء لمصر التي تحولت إلي مفهوم ميتافيزيقي للدولة كوحدة متكاملة ترتفع فوق الانقسامات والهويات الضيقة للمجتمع المنقسم أصلا؛ إلا إن تراجع العمليات الارهابية وانحسارها في سيناء، مع وجود دعايات مضادة علي السوشال ميديا وبعض المحطات التلفزيونية من الخارج، بالاضافة إلي تصديق رواية منظمات حقوق الانسان نتيجة اتساع القمع ليشمل السياسيين من خارج الاخوان، مع تفاقم الأوضاع الاقتصادية … كل هذا وغيره قلل من فاعلية هذه الدعاية.
تظهر أحد الدراسات أن المعلومات الواردة من منظمات حقوق الإنسان التي وثقت عنف الشرطة ودحض مزاعم عنف الإخوان المسلمين كانت قادرة على مواجهة آثار دعاية النظام.
خامسا: سيولة إقليمية:
لحظة يونيو ٢٠١٣ هي لحظة التقت عندها وفيها مصالح اطراف عديدة؛ داخل مصر وخارجها لمواجهة تداعيات يناير أولا، وللقضاء علي حركات الإسلام السياسي تاليا، لقد كانت الثورة المصرية تهديدًا للمصالح الإقليمية والدولية بقدر ما تمثل تهديدًا للمصالح المحلية وأدى باطراف عديدة إلى تقديم الدعم المالي والدبلوماسي لمكافحتها.
وقد تبلور ذلك في شكل المحاور الإقليمية التي ضمت دولا وحركات في نفس الوقت. لقد انحسر المشهد ما بعد الموجة الأولي من الربيع العربي ٢٠١١/٢٠١٠ علي ثلاثة محاور: القطري/التركي ويضم جماعات الاخوان في المنطقة، والمحور السعودي الإماراتي المصري؛ وتقف اسرائيل فيه من وراء ستار، والمحور الإيراني الذي يضم سوريا والحركات السياسية الشيعية في المنطقة.
هذه المحاور -وإن لايزال الإيراني منها علي حاله- إلا أن الترتيبات الإقليمية يجري تشكيلها في ظل تقارب بين الأنظمة بعد أن اصطرعت في السنوات العشرة الماضية؛ والأهم أن جماعات الاخوان أو الإسلام السياسي لم تعد تمثل تهديدا للأنظمة العربية في ظل تراجع شعبيتها وإن لم تختف تماما.
كما بات واضحا أن هناك حساسيات استراتيجية بين النظام المصري من جهة وبين داعميه من دول الخليج من جهة اخري؛ بما يعني أن التوافق والدعم الذي نشأ لمواجهة تداعيات الثورة المصرية وصعود الاخوان في المنطقة -أي أحداث محددة- كان مؤقتا ولم يكن توافقا استراتيجيا ممتدا.
بعد هذه السنين التسع هل يمكن أن ننزل النهر متسلحين بقوارب جديدة تساعد في التعامل مع شكاوي ومطالب المصريين بجدية؛ خاصة الشباب والشابات منهم، وتكون قادرة علي بناء منعة ذاتية في مواجهة عالم يتغير بسرعة وإقليم في حالة سيولة؟