في الربع الأخير من عام ٢٠٢١ -سبتمبر تحديدًا- صدرت الإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان وفي أعقابها تم مباشرة اعتبار عام ٢٠٢٢ عامًا للمجتمع المدني في مصر. ثم كان إعلان الرئيس السيسي في أبريل من نفس العام عن الدعوة لحوار سياسي ينظر في أولويات العمل الوطني في المرحلة الراهنة. صاحَب إعلان الحوار السياسي إعادة تشكيل لجنة للعفو الرئاسي، وهي لجنة تُقدم قائمة أسماء من المعتقلين السياسيين لتنظر الأجهزة الأمنية في إطلاق سراحهم.
لم ينته العام حتى جرت الدعوة للمؤتمر الاقتصادي -عُقِد في أكتوبر- لمناقشة أولويات الإنفاق العام، ومراجعة السياسات الاقتصادية المطبقة علي مدار السنوات الثماني الماضية. سبق المؤتمر دعوة الحكومة لحوار حول وثيقة سياسة ملكية الدولة، وهي وثيقة تُعِيد رسم دور الدولة في الاقتصاد بما يسمح للقطاع الخاص أن يحتل وزنًا أكبر في الاقتصاد المصري، يصل إلى ٦٥٪ من اقتصاد الدولة على مدار أربع سنوات.
استُقبِلت هذه المبادرات جميعًا بارتياح من أصحاب المصلحة في مصر من السياسيين ورجال الأعمال وكل من هو مهتم بالشأن العام. وتعاظم الإحساس بوجود انفراجة في المجال السياسي، وكذا ملف حقوق الإنسان، وتغير صيغة الحكم التي امتدت علي مدار سنوات ثمانٍ، بما يضمن مشاركة أصحاب المصلحة في صنع السياسات العامة عبر آلية الحوار. بالإضافة إلي مراجعة السياسات الاقتصادية التي قادت إلي التضخم وزيادة الديون وتمدد المؤسسة العسكرية في الاقتصاد، إلا أن النتائج التي أثمرت عنها هذه المبادرات جميعا تكاد لا تفي بالحد الأدنى من التوقعات.
يناقش المقال الدوافع والسياقات التي انتجت هذه المبادرات جميعًا، ولماذا آلت إلى ما انتهت إليه؟ وهل لاتزال تصلح لخدمة الإستراتيجيات التي قد يتبعها النظام ليضمن نجاحه في الانتخابات الرئاسية المقبلة ٢٠٢٤؟
سياق مأزوم
ما يجمع هذه المبادرات جميعًا أنها كانت نتيجة لسياق مأزوم تراكم بمرور الأيام للنظام على المستوي الداخلي والخارجي علي السواء. بلورت هذه السياقات دوافع النظام من الدعوة لتلك المبادرات؛ وهي في تقديري ثلاث:
أولا: استيعاب الضغوط الخارجية التي تلح علي مسألة حقوق الإنسان، والتي تجسدت في حجب الكونجرس الأمريكي لجزء ضئيل من المعونة العسكرية لمصر يُقدَّر بـ١٣٠ مليون دولار من إجمالي ١.٣ مليار دولار، وكذلك إصدار العديد من البيانات الرسمية -خاصة من البرلمان الأوربي- وغير الرسمية من منظمات حقوق الإنسان الدولية والوطنية.
أثمر إطلاق إستراتيجية حقوق الإنسان والإعلان عن الحوار الوطني تحسين صورة النظام علي المستوى الدولي؛ خاصة أن ذلك جرى مبكرًا تمهيدًا لاستضافة مؤتمر المناخ (Cop 27) في مدينة شرم الشيخ، نوفمبر الماضي.
يقوم منهج النظام في السنوات الثماني الماضية علي فلسفة “اضحك الصورة تطلع حلوة” وهو عنوان فيلم مصري. من هنا تأتي أهمية تصميم اللقطة لتحقق غرضها، وقد تحقق ذلك من وجهين:
الوجه الأول؛ مقابلة الرئيس الأمريكي جو بايدن لأول مرة في القمة التي عُقِدت بالسعودية في يوليو الماضي، وما يمثله من شرعية القبول والاعتراف بالسيسي علي المستوي الدولي. وبهذا فإن بايدن قد فتح حسابات جديدة مع الدكتاتورين العرب، وليس كما صرح في حملته الانتخابية أنه لن يعطيهم شيكات علي بياض.
أعقب ذلك نشاط مكثف علي المستوى الخارجي؛ حين التقي السيسي مباشرة بالمستشار الألماني أولاف شولتس، وزار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بالإضافة إلي زيارة صربيا، وزيارة وزير الخارجية الروسي للقاهرة، وفي هذا كله تم تدشين لغة خطاب جديدة تستخدم “لقطة” الاستراتيجية والحوار في مواجهة الانتقادات المتعلقة بحقوق الإنسان – كما ظهر علي سبيل المثال في مؤتمره الصحفي مع المستشار الألماني.
أما الوجه الثاني: فهو توفير أحد الشروط التي يتطلبها الاتفاق مع صندوق النقد الدولي؛ وهو تحقيق قدر من الاستقرار بما يضمن نمو الاقتصاد وتدفق الاستثمارات الأجنبية.
ثانيًا: التعامل مع تداعيات الأزمة الاقتصادية، فوثيقة ملكية الدولة كانت أحد الشروط الأساسية لإتمام الاتفاق مع صندوق النقد الدولي كما جري في نوفمبر الماضي. استخدم المؤتمر الاقتصادي -كما اتضح لاحقًا- لتمرير الاتفاق مع الصندوق؛ إذ عُقِد قبل شهر تقريبًا من إتمام الاتفاق وفي أثناء المفاوضات.
ثالثًا: إدارة “الحوار” والتنافس بين أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية، والمشهورة في مصر بالمؤسسات “السيادية”. ويلاحظ المراقب وجود أصوات متعددة لهذه المؤسسات، يجري التعبير عنها من خلال بعض الواجهات الإعلامية.
اختلفت هذه المؤسسات حول مدي جدوى الحوار من عدمه، وحول مشاركة الإسلاميين وخاصة الإخوان فيه، وحول إطلاق سراح المعتقلين. ومن الواضح أن من انتصر أو سادت رؤيته -ولو إلي حين- المتعنتين “hard liner”، حين استُبعِد الإخوان بعد أن أشار ضياء رشوان -منسق الحوار- لحضور بعض المحسوبين عليهم. كما جرى إطلاق سراح المعتقلين السياسيين بأعداد محدودة، دفعت السيد كمال أبو عيطة -عضو لجنة العفو الرئاسي- لأن يعلق عضويته بها، ويعلن صراحةً أن بعض أجهزة الدولة هي من يعيق إطلاق سراحهم؛ بل لو طالت حبس الجميع لفعلت كما جاء في حواره الأخير مع موقع المنصة.
لا يقتصر التنافس بين أجهزة الدولة حول هذه المواضيع فحسب؛ بل يمتد إلي بيع أصول الدولة أيضًا وموضع المؤسسة العسكرية في الاقتصاد. وقد نص الاتفاق مع الصندوق علي المنافسة العادلة بين القطاع الخاص، وبين الشركات التي تملكها المؤسسة العسكرية، وضرورة خروجها من الاقتصاد لصالح القطاع الخاص. وفي الوقت الذي يجري فيه الاتفاق علي ذلك؛ أصدر السيسي قرارًا جمهوريًا بتخصيص أراضٍ علي جانبي الطرق السريعة للمؤسسة العسكرية، كما قام بافتتاح مصنع كبير لإنتاج المواد الغذائية مملوكًا لها. وأُعلِنَ عن استحواذ أحد الشركات المملوكة للمؤسسة العسكرية لفندق من فئة الخمس نجوم في شرم الشيخ من القطاع الخاص بمبلغ ٧٠٠ مليون جنيه مصري أي حوالي ٢٣ مليون دولار أمريكي.
نتائج محدودة
لم ينجح النظام في هذه المبادرات جميعًا إلا في إتمام الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، بما ترتب عليه توفير تمويل محدود مقداره ثلاثة مليار دولار أمريكي علي مدار أربع سنوات، مع قدرة علي الاقتراض من الأسواق الدولية بسعر فائدة مرتفع (١١.٦٪) وفق آخر قرض.
ترتب علي إتباع سعر صرف مرن للجنيه المصري موجة تضخم من رقمين ما يعادل أكثر من 30 في المائة، والتي زادت من معاناة قطاع كبير من المصريين.
صدرت وثيقة سياسة ملكية الدولة يناير الماضي، وجري الإعلان عن بيع ٣٢ شركة مملوكة للدولة. ولكن لايزال الغموض يكتنف كثيرًا من إجراءات البيع حتى الآن؛ من قبيل: كيفية البيع في البورصة أم لمستثمر رئيسي، وعملة التقييم بالجنيه المصري أم بالدولار الأمريكي، والنسب المباعة في كل شركة، وتواريخ البيع تحديدًا.
ترتب علي ذلك وجود كثير من المشكلات في إتمام الصفقات حتي الآن، فعلى سبيل المثال، تراجع الصندوق السيادي السعودي عن شراء البنك المتحد لخلاف حول قيمة التقييم. كما تشهد النسبة المباعة من شركة فودافون مصر خلافًا بين الصندوق السيادي القطري والشركة الحكومية المالكة لحصة في فودافون مصر تبلغ حوالي ٤٥٪.
لم يبدأ الحوار الوطني حتي الآن برغم مرور ما يقرب من عام علي الإعلان عنه، ولم تتحدد بداية له. وعلي ما يبدو فإن الخلاف بين أجهزة الدولة المصرية حول إطلاق عدد من المعتقلين بما يسمح بقبول الحركة المدنية من الفصيل المعارض الذي قبل الحوار من حيث المبدأ- هو ما أجل هذا الحوار الوطني، كما صرح لي بذلك أحد أمناء الحوار.
وأخيرًا وليس آخرًا؛ ووفق تقديرات عدد من المنظمات الحقوقية، فإن مقارنة بين أعداد المتهمين المخلي سبيلهم، والمتهمين الذين تم التحقيق معهم علي ذمة قضايا جديدة في نيابة أمن الدولة، منذ بداية العام الحالي 2023 يتضح ما يلي:
التحقيقات الجديدة: تم التحقيق مع “495” متهم علي ذمة قضايا أمن دولة من 1 يناير حتي 1 مارس 2023. أُخليَّ سبيل “124” متهم فقط من يوم 1 يناير حتي 1 مارس 2023. وهو ما يعني زيادة عدد المحبوسين علي ذمة قضايا سياسية “جنائية” إلى 371 سجين منذ بداية 2023. انظر تقييمًا شاملًا لحالة حقوق الإنسان بعد عام من إطلاق الاستراتيجية.
لماذا فشلت المبادرات؟
في تقديري هناك ثلاثة عوامل وراء هذه النتائج المحدودة ذكرت -فيما تقدم- منها اثنين، وأفصل في الثالث.
أما الاثنان فهما؛ المناورة مع ضغوط الخارج، وقد تحقق منها المراد. فقد سمح الحوار الوطني واستراتيجية حقوق الإنسان بالتغطية علي سوءات كثيرة للنظام في هذا الموضوع؛ خاصة وقد واكبه استعادة بعض الخدمات الإستراتيجية التي يؤديها النظام للولايات المتحدة. وهنا يمكن أن نشير إلي الدور المصري في الوساطة في غزة، بالإضافة إلي قيادته لمجموعة العمل العسكرية متعددة الجنسية لأمن البحر الأحمر قوة المهام المشتركة ١٥٣.
العامل الثاني هو؛ أن “الحوار” بين أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية لم يحسم بعد نحو توجه محدد؛ سواء في بيع الأصول الاقتصادية المملوكة للدولة، أو إطلاق المعتقلين السياسيين لبدء الحوار، أو إحداث قدر من الانفتاح السياسي.
أما العامل الثالث فهو؛ وضع قوي المعارضة التي تعاني من ضعف شديد وتشظٍّ وانقسام داخل كل مكون من مكوناتها، بالإضافة إلى استمرار الاستقطاب فيما بينها، مع عدم قدرتها على تجديد خطابها السياسي بما يلائم القفزات النوعية المستجدة التي أحدثها نظام السيسي على مدار سنوات حكمه.
تعاني هذه القوى -أيضًا- من انعدام ثقة الجماهير بها، وافتقاد القناعة بأنها يمكن أن تكون شريكا للحكم، فضلًا عن أن تكون بديلًا.
إن ضعف المعارضة وتجريف الحياة السياسية وضعف مؤسسات المجتمع المدني لن يدفع ثمنه نظام السيسي فقط. فقد أزال النظام إمكانية خلق معارضة سياسية وطيدة بقاعدة شعبية قوية من شأنها أن تساعد على استقرار حكمه التسلطي في مواجهة الاضطرابات الاجتماعية، كما أبرز عمق المعضلة التاريخية التي يواجهها النظام والدولة المصرية الآن؛ فشرعية النظام الحالي في أحد جوانبها قامت على منع تكرار انتفاضة 2011 لما مثلته من تهديد للدولة المصرية -على حد زعم السيسي، ولكن إمكانية تكرارها الآن أصبحت أكثر احتمالًا من أي وقت مضى في ظل أزمة اقتصادية يصعب حلها -كما قدمت. والأخطر أنه على عكس عام 2011 يمكن أن تكون الاضطرابات أكثر اندلاعًا وأقل سلامًا، وقد تكون النتيجة المحتملة انهيار هياكل الدولة في البلد الأكثر اكتظاظًا بالسكان في المنطقة.
انتخابات ٢٠٢٤ ومستقبل النظام
حتى يستطيع النظام أن يستعيد جزءًا من شرعيته المتآكلة وسط عموم المصريين، فلابد أن يتعامل مع المبادرات التي طرحها مبكرًا بالجدية الواجبة، وأن يتخلي عن منطق المناورة بها، وهو ما يمثل تحديًا كبيرًا له في قابل الأيام. بدون ذلك سيتفاقم مأزق النظام بشدة بما يمكن معه المقارنة بين هذه الانتخابات وانتخابات مجلس الشعب ٢٠١٠، والتي كانت أحد المقدمات الأساسية لثورة يناير. في انتخابات ٢٠١٠ فاز حزب مبارك (١٩٨١- ٢٠١١) بكل المقاعد، وانسحبت جماعة الإخوان -طرف المعارضة الوحيد الذي قبل المشاركة- من الانتخابات بعد المرحلتين الأولي والثانية.
التعامل بجدية قد يزيد التناقضات والتشققات داخل وبين أطراف تحالف الحكم القائم داخليًا، وبينه وبين رعاته الإقليميين من دول الخليج.
أما علي المستوي الداخلي: فإن الخلاف حول توفير الشروط اللازمة لبدء الحوار الوطني وأهمها إطلاق سراح بعض المعتقلين السياسيين لم تحسم حتي الآن، كما أن النتائج التي يمكن الوصول إليها تظل محدودة في ظل ما يتردد. صرح لي أحد أمناء الحوار أن النتائج التي تم الاتفاق عليها هي؛ تغيير قانون الانتخاب ليكون بالقائمة النسبية لا المطلقة كما هو الآن، وتعديل قانون الحبس الاحتياطي، ومنع حجب بعض المواقع الإعلامية. وهي نتائج لن تغير من طبيعة الصيغة السياسية التي أنتجت المأزق المصري الحالي، والذي قام علي انفراد كامل للقيادة السياسية في النظام وزمرة ضيقة حوله بتقرير أولويات السياسات العامة والإنفاق عليها.
ويمكن أن نضيف في هذا الصدد الخلاف الذي يمكن أن ينشأ حول بيع شركات القوات المسلحة؛ فبالرغم من عرض شركتين من أصل ٤٨ شركة تملكها المؤسسة العسكرية، لم يحدث تقدم ملموس في بيعها حتي الآن.
المعضلة الأساسية التي يواجهها النظام ويعجز حتي الآن عن التعامل معها هي الأزمة الاقتصادية. لم يشهد خطابه أي شكل من أشكال الاعتراف بالمسئولية عما آلت إليه الأمور، برغم انفراده بالقرار وتحصله علي دعم دولي وإقليمي غير مسبوق. بل لايزال يرجعها لعوامل خارجية متمثلة في جائحة كورونا والحرب الأوكرانية، أو عوامل داخلية مثل الزيادة السكانية، ولا يشير إلي العوامل الهيكلية التي انتجت هذه الأزمة. والأخطر أنه مستمر في السير في نفس المسار الذي أنتج هذه الأزمة؛ وأقصد بها الديون والإنفاق علي البنية الأساسية وأولوية القطاع العقاري في الاقتصاد.
يصاحب ذلك كله تململ يصل إلي التوتر من رعاته الإقليميين في دول الخليج، والذين يطالبون بإصلاحات جدية كما ورد في الاتفاق مع الصندوق، ويضغطون في سبيل تحقيق ذلك.
شرع النظام في الاستعداد مبكرًا للانتخابات الرئاسية حين سمح بعودة أحد شخصيات المعارضة من الخارج، وأطلق سراح بعض الرموز، وقام بزيادة مرتبات موظفي الدولة وأصحاب المعاشات والمنضمين لبرامج الحماية الاجتماعية، وأخيرًا فقد سمح بترخيص البناء في القري والمدن بعد توقف امتد لثلاثة أعوام، في كل هذا يحاول أن يسترضي قطاعًا من المصريين دون تغيير حقيقي في صيغة الحكم أو هيكل الاقتصاد.
تظل المبادرات الكثيرة التي طرحها من أكثر من عام تمثل إمكانية يمكن استغلالها لتمريره في الانتخابات الرئاسية ٢٠٢٤، ولكن هل يمكن أن يحيد أصحاب المصالح فلا يقوموا بتعطيلها؟