نُشر في الجزيرة.نت – أبريل 2023
تُظهر بيانات الباروميتر العربي -وهو مؤشر يقيس بشكل دوري اتجاهات الرأي في العالم العربي- بوضوح أن الدين مستمر في لعب دور أساسي في حياة أغلب الناس عبر المنطقة، ولا سيما الشباب منهم، وأن هذا الدور يُرجح أن يستمر في المستقبل المنظور.
ففي الدورة السابعة من الاستطلاعات (2021-2022)، تبين أن الناس أصبحوا أكثر إقبالا على اعتبار أنفسهم “متدينين”، ولا سيما الشباب، مقارنة بالاستطلاعات السابقة التي أجريت بعد الربيع العربي؛ إذ إن 9 من كل 10 أفراد تم استطلاع رأيهم في دول المنطقة الاثنتي عشرة التي غطاها المؤشر أفادوا بأنهم متدينون.
يُلاحظ أن هذا التغيير كبير بصورة خاصة في أوساط الشباب. ففي تونس، أصبح من تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاما الآن أقل إقبالا على اعتبار أنفسهم “غير متدينين” بواقع 15 نقطة مئوية، قياسا إلى الوضع قبل 3 سنوات. وفي الدول الأخرى، طرأ تراجع بين الشباب بواقع 12 نقطة مئوية في المغرب ومصر، و8 نقاط في الأردن، و7 نقاط في الجزائر، و5 نقاط في فلسطين. وفي العراق والسودان، لم يطرأ تغيّر يُذكر بين الشباب، في حين أن لبنان وحده هو البلد الذي زادت فيه كثيرا (13 نقطة مئوية) نسبة الشباب الذين يعتبرون أنفسهم “غير متدينين”.
على الرغم من أن العلاقة بين التدين والاستبداد كانت موضوعًا للدراسة في العلوم السياسية والنفسية والاجتماعية على الأقل منذ خمسينيات القرن الماضي؛ فإنه لا توجد إجابة سهلة للسؤال عما إذا كان التدين يعزز أو يعيق الالتزام بالديمقراطية. أشارت الأبحاث السابقة إلى حد كبير إلى التدين كمصدر للتوجهات المناهضة للديمقراطية، ومع ذلك، فإن الأدلة التجريبية الحديثة أقل حسمًا، مما يشير إلى أن تأثير التدين على الالتزام الديمقراطي يمكن أن يكون إيجابيا أو سلبيا أو محايدا.
هذا على المستوى العالمي، حيث يعتبر ما يقرب من 62% من سكان العالم الدين مهمًا في حياتهم اليومية، وفق تقدير مركز بيو الأميركي المختص باستطلاعات الرأي، لكن ماذا عن المنطقة العربية؟
ملاحظات خمس
نقدم في هذا المقال بعض الملاحظات التمهيدية التي نفتح بها النقاش حول هذا الموضوع، إلا أن التركيز فيها سيكون من منظور الأفراد المتدينين أنفسهم، وليس من جهة منتجي الخطابات الدينية، الرسمية وغير الرسمية.
أولا: سلم القيم والأولويات
اعتنت إحدى الدراسات بالإجابة عن سؤال: هل شجع التدين أو أحبط المشاركة في الاحتجاج ضد الأنظمة الاستبدادية خلال الربيع العربي؟ باستخدام البيانات الفريدة التي تم جمعها في تونس ومصر بعد فترة وجيزة من سقوط أنظمتهما عام 2011، ودرست كيف ارتبطت الأبعاد المختلفة للتدين بمستويات أعلى أو أدنى من الاحتجاج خلال هذه الأحداث المهمة.
وصلت الدراسة إلى نتيجة جديدة: قراءة القرآن -وليس حضور المسجد- ترتبط ارتباطًا وثيقًا بزيادة احتمالية المشاركة في الاحتجاج. علاوة على ذلك، هذه العلاقة ليست مجرد وظيفة لدعم حركات الإسلام السياسي، بل إن قرّاء القرآن أكثر حساسية تجاه عدم المساواة وأكثر دعما للديمقراطية من غيرهم.
تشير هذه النتائج إلى طبيعة تدين الفرد من جهة سلم القيم والأولويات التي يعتنقها، وتمثل حقيقةً اعتقاده الديني. تحيط بالأفراد خطابات دينية متعددة -وليس خطابا واحدا- تتجاور فيما بينها وتتقاطع وتتصارع، إلا أنها تتشابه فيما بينها لأن كثيرا منها محمل بمضامين تسلطية تتأتى من زاويتين:
- الامتثال والحفاظ على التقاليد الاجتماعية والأعراف الراسخة، (بعبارة أخرى دعم الوضع القائم).
- التدين التقليدي المتمحور حول المؤسسات الرسمية والذي يتسم في مجمله بعدم التعقيد المعرفي، وعدم الانفتاح على التجارب الجديدة، والحرفية في معالجة النصوص مع غياب التعددية في فهمها، وغياب القدرة على النقد الذاتي.
كتب العلماء الذين درسوا ميدانيا العلاقة بين التدين والالتزام الديمقراطي أن “مجموعة كبيرة من الأبحاث تشير إلى أن مشاركة الكنيسة [وأعني بهذا الاستشهاد الفهم المؤسسي الذي تمثله الكنيسة، وفي خبرتنا ينطبق هذا على المؤسسات الدينية عموما] تنبئ بمجموعة من المواقف الاستبدادية، والتي تتميز بالاحترام للقانون والنظام، والتقاليد الاجتماعية، وعدم التسامح مع الجماعات المخالفة”.
تشرح بعض الدراسات العلاقة بين التدين والتوجهات الديمقراطية بالإشارة إلى الروابط المنطقية بين محتوى المعتقدات الدينية والمعايير الديمقراطية المعنية، خاصة أنه غالبًا ما يفسر القادة الدينيون التعاليم الدينية بشكل مختلف لتبرير غايات مختلفة.
وفي خبرتنا العربية، فإن التدين “المؤسسي” يعمّق الاستبداد نتيجة رغبة الأنظمة في التحكم في الشأن الديني، ودعمه للحفاظ على الوضع القائم، ومجابهة الخطابات الدينية التي تمثل تهديدا للنظام.
وبرغم ما يبدو من صراع وتنافس بين التدين الذي تقدمه المؤسسات الرسمية، وتدين التنظيمات والجماعات والطرق، فإن الطرفين لا يقدمان الدين إلا من جهة مدى قدرته على الضبط والتحكم في سلوك الفرد وقيمه ومعتقداته، وليس من جهة القدرة على تحريره من تقاليده المستقرة وأوضاعه التي تتحكم فيها مصالح أصحاب السلطة السياسية أو المالية، وكما أقول دائما: “إن التوحيد أعلى مراحل التحرر للإنسان”.
في إحدى ليالي رمضان، أشار الإمام إلى أن هناك شعبتين من شعب الإيمان في سورة الشورى عادة لا يتحدث عنهما كثير من الوعاظ، هما: “وأمرهم شورى بينهم”، “والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون”. نحن بصدد تغطية منظمة وغير منظمة لبعض تعاليم الدين لدعم الأوضاع القائمة.
نقطة أخرى: قد ترتبط سمات التدين ارتباطًا إيجابيًا بسمات الشخصية الاستبدادية، التي تتضمن الخضوع للسلطة وعدم التسامح مع الجماعات المخالفة. تبرز علاقة قوية بشكل خاص بين السلطوية وطريقة فهم النصوص الدينية؛ فكلاهما يتميز بالحرفية في فهم النصوص وتقديمها وفق اختيار فقهي محدد ووحيد دون إبراز تعدديتها، كلاهما يتسم بانفتاح منخفض على التجارب الإنسانية المتعددة، وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، وتعقيد معرفي منخفض.
الاستبداد يرتبط ارتباطًا إيجابيًا بتدين شكلاني لا حوار فيه، وتتضاءل فيه مساحات التعددية.
ثانيا: لا مركزية الخطابات الدينية
بالرغم من محاولة جميع الكيانات -الرسمية وغير الرسمية- السيطرة على مجمل الشأن الديني أو قطاعات معتبرة منه؛ فإن التطورات -التي شهدنا قوة دفع كبيرة لها منذ الألفية الجديدة- تجعل هذه السيطرة مستحيلة.
أدركنا مبكرا عندما بدأنا تجربة إسلام أون لاين 2000/1999 أن المحتوى المقدم لا بد أن تحكمه قيمة التعددية في الأفكار والفتوى والممارسات الإسلامية وبالطبع الاختيارات السياسية، وهذا ليس بحكم أن هذه صفة لصيقة بطبيعة الدين ذاته -كما نفهمه- ولكن بحكم الجيل الأول من الإنترنت الذي سبق نشأة الشبكات الاجتماعية، ويتسم بأنه أداة “معولمة” لا بد أن تعكس الخصوصيات المتعددة، أما الأجيال التالية من الإنترنت فتعطي قوة دفع أكبر للتعددية قد تصل إلى مرحلة التشظي.
التدين المعاصر للشباب “شبكي”، ليس به نقطة مركزية من شيخ أو رأي ديني محدد، وهو يستند إلى الاستهلاك الشره للرموز المادية والمعنوية والتحول عنها سريعا، وهذا ما قد يفسر سرعة صعود وهبوط رموز دينية واختفائها.
يعزز هذه الشبكية غيابُ المرجعيات الدينية الكبرى التي صاغت الوجدان الديني منذ السبعينيات من القرن الماضي، وعلى مدى عقود أربعة حتى العقد الأول من القرن العشرين -مثل ابن باز والغزالي والقرضاوي والبوطي وفضل الله والخميني ومهدي شمس الدين… إلخ- بالإضافة إلى أزمة التنظيمات الإسلامية الكبرى في المنطقة وتآكل أطروحاتها في حقبة الربيع العربي.
ثالثا: السياق وأهميته
على الرغم من أن الرأي العام العربي -وفق بيانات المؤشر العربي– يؤيد الديمقراطية ويفضلها، ويقيم مستوى تحققها في البلدان العربية تقييما غير إيجابي، فمن الواضح أن العزوف عن الانخراط السياسي أو “اللامبالاة السياسية” هو السائد. وقد يكون هذا متوقعا في إطار محدودية المشاركة السياسية، أو أن المتاح غير مقنع للمواطن من ناحية التأثير.
يفاقم الأمر انخفاض انخراط المواطنين العرب في منظمات مدنية وأهلية طوعية، إذ لا تتجاوز النسبة 13%، وتصبح النسب أقل من ذلك، إذا قسنا مدى “مشاركة” المستجيبين في الهيئات التي أفادوا أنهم ينتسبون إليها. ولا يزال الانتساب إلى جمعيات وهيئات عائلية أعلى من الانتساب إلى الجمعيات الأهلية والمدنية والثقافية والطوعية. وتبلغ نسبة من ينتسب إلى حزب سياسي أو تيار 14% فقط، في مقابل 64% غير منتسبين ولا يوجد حزب أو تيار يمثلهم.
ما العلاقة بين هذه المؤشرات وبين قضية التدين والاستبداد؟
يتشكل الوعي الديمقراطي وتتعزز الثقافة المدنية من خلال الممارسة العملية، وليس من خلال التوعية النظرية بها فقط. شهدنا أمثلة كثيرة من تجربة الإسلاميين في المنطقة، إذ أدى مزيد من انخراطهم في العمليات الانتخابية -ولا أقول الديمقراطية- إلى مزيد من قبولهم للقواعد التي تحكم هذه العمليات، صحيح أن هذه التنظيمات قد عانت من افتقاد الديمقراطية الداخلية، مما حدّ كثيرا من تعظيم الاستفادة من الانخراط في العمليات الانتخابية.
أعطت انتفاضات الربيع العربي قوة دفع كبيرة وسط المتدينين للتغيير بطرق سلمية، مما ألقى بظلاله على منهج التغيير بالعنف لدى الجماعات الجهادية، لكن سرعان ما تراجع ذلك -أو على أقل تقدير بات محل تساؤل- بعد ما تعرضت له هذه الانتفاضات من انتكاسات وتدخل الجيش في مصر في 2013.
قد يتشكل وعي الشباب وفق نموذج معرفي يقوم على التعددية وغياب المركز، كما قدمت، إلا أن هذا الوعي لن يتعزز إلا بمقدار المشاركة المدنية والحزبية، وهو ما يفتقده الواقع العربي إلى حد كبير.
التدين المعاصر للشباب “شبكي”، ليس فيه نقطة مركزية من شيخ أو رأي ديني محدد، وهو يستند إلى الاستهلاك الشره للرموز المادية والمعنوية والتحول عنها سريعا، مما قد يفسر سرعة صعود وهبوط رموز دينية واختفائها
رابعا: تأثيرات متباينة
إن الأبعاد أو التعبيرات المختلفة للدين -أي العناصر المتعلقة بجوانب مختلفة من التجربة الدينية- من المحتمل أن تكون في حالة توتر مع بعضها داخل الفرد واحد.
على سبيل المثال، يرتبط المعتقد الديني ارتباطًا وثيقًا بالقيم التي تعزز الحفاظ على النظام الاجتماعي، مثل التقاليد والامتثال للمعايير الاجتماعية، وبالتالي يقلل من إمكانات احتجاج الفرد. من ناحية أخرى، يساهم حضور الأنشطة الاجتماعية الدينية بشكل إيجابي في الاحتجاج السياسي من خلال زيادة بروز مصالح المجموعة، وتجنيد المتدينين للانخراط في العملية السياسية، وزيادة احتمالية اكتساب المشاركين مهارات مدنية.
قد يكون للمشاركة في الأنشطة الاجتماعية الدينية تأثير إيجابي على الاهتمام بالسياسة، حيث يقوم القادة الدينيون أو الشبكات الاجتماعية بتعبئة المؤمنين وزيادة الوعي السياسي وزيادة البروز السياسي لهويات المجموعة.
إن تصوّر التجربة الدينية كظاهرة متعددة الأبعاد يفسر بعض النتائج المتناقضة لعلاقة التدين بالاستبداد. يشير هذا إلى أنه قد لا يكون المعتقد الديني أو السلوك الاجتماعي الديني في حد ذاته هو الذي يحافظ على الالتزام الديمقراطي أو يعطله، بل الآليات النفسية الكامنة وراءها والسياق الذي تتحرك فيه، كما أشرت.
إحدى مشكلات التدين المعاصر أنه مثل خزانة “الكراكيب”، بالتعبير المصري، وهي المكان الذي نضع فيه كثيرا من الأشياء التي ليس بينها رابط، وفي أحيان قد يكون من الخطر أن توضع بجوار بعضها.
خامسا: مجموعات مغلقة
ينعكس الالتزام الديمقراطي في:
- دعم النظام الديمقراطي ومؤسساته.
- الالتزام بالمبادئ الديمقراطية، المتعلقة في المقام الأول بـ:
- المشاركة السياسية.
- ودعم المساواة السياسية، بما في ذلك التسامح السياسي الذي يشير إلى القبول بالمختلف والرغبة في تمديد الحقوق السياسية له.
المشكل في منطقتنا أن عقد الربيع العربي قد شهد تعاظم توظيف أنماط التدين في الصراع السياسي، وقد عمق هذا من صراع الهويات الدينية الممتزجة بالسياسي، مما ألقى بظلاله الكثيفة على الاستقطاب الذي تعددت محاوره وتقاطعت.
شهدنا مجموعات دينية مغلقة على ذاتها، غالبا ما تضم أفرادا متشابهين في التفكير، وقد يؤدي الحديث السياسي بينهم إلى ترسيم حدود المجموعة وزيادة إدراك أو تعظيم المظالم الخاصة بها، وتصورات التهديد من المجموعات الأخرى.
ترتبط الهويات الدينية القوية أيضًا بمستويات أعلى من التهديدات المتصورة من الجماعات المخالفة، ولا سيما في سياق الصراع بينهم، والذي غالبًا ما يؤدي إلى عدم التسامح الاجتماعي والسياسي، ويدعم هذا كله خوارزميات رقمية تستدعي من المحتوى ما يعمق فهما معينا، وتزيده المعلومات المضللة انغلاقا.
حد أدنى من التوافقات ومعالجة الاستقطابات هو من شروط الالتزام الديمقراطي، بالإضافة إلى توسيع مساحات المجال العام التي يحضر فيها الأفراد ويعبرون عن رؤاهم ومصالحهم، باعتبارهم مواطنين متساويين لا أفرادا ينتمون إلى جماعات دينية وعرقية وطائفية مغلقة.