نُشر في مصر 360 – أكتوبر 2023

في الانتخابات الرئاسية المزمع بدء التصويت لها ديسمبر ٢٠٢٣، نحن بإزاء مشروعين متناقضين مصطرعين: الأول تقوم عليه الجمهورية الجديدة، وهدفه استمرار تمويت السياسة في بر مصر- كما جرى على مدار العقد الماضي كله. استخدم في سبيل ذلك مداخل عشرة، سبق وتناولتها بالتفصيل في مقالي السابق على منصة مصر ٣٦٠.

المشروع الآخر، والذي يقوده المرشح المحتمل أحمد الطنطاوي، يقوم على إحياء واستعادة السياسة مرة أخرى؛ بهدف صرف طاقة الغضب لدى قطاع عريض من المصريين بسبب؛ سوء وتدهور أوضاعهم المعيشية نحو تغيير سلمي من خلال الانتخابات، أو على أقل تقدير الضغط على مؤسسات الدولة لإحداث؛ إصلاح متدرج لصيغة الحكم، وهياكلها ومؤسساتها، وسياساتها المطبقة.

في إطار عمليات استعادة السياسة، وإحيائها نحن أمام نمطين: الأول، ثبت فشله من خلال تجربة الحوار الوطني، ويمثله بعض المرشحين المحسوبين على المعارضة، ويقوم على التفاوض مع النظام على حدود الملعب، وقواعد اللعب، وفي أحيان على اللاعبين المسموح لهم بالنزول إليه. هي إذ تفعل ذلك لا تملك من مقومات القوة إلا النزر اليسير، بما يجعلها عرضة للتوظيف في إطار سياسات النظام. هي إذ تمر إلى الملعب، فإنها تدخله من الفناء الخلفي للنظام.

النمط الثاني، ويمثله المرشح المحتمل أحمد الطنطاوي يقوم على تجميع مرتكزات قوة متعددة- نناقشها بالتفصيل في هذا المقال- مع انفتاح على التفاوض أيضا مع أجهزة الدولة. السياسة في جوهرها عملية تفاوض وتسويات، لكن قد تتحول إلى إذعان، إذا دخلتها، وأنت لا تملك إلا القليل من أوراقها.

وبرغم ما يبدو من تعارض بين هذين التصورين للمعارضة؛ إلا أن هشام سلام -أستاذ العلوم السياسية بجامعة ستانفورد- يرى فائدة في “الحوار” الذي يجري بين القوى “المعارضة” في الوقت الراهن (حتى لو كانت نتيجة ذلك الحوار بعيدة عن الإجماع والتوحد). بعبارة أخرى، الواقع السياسي، قد أجبر الجهات الفاعلة في “المعارضة” المنقسمة على القيام، بما لم يفعلوه في السنوات العديدة الماضية: النقاش والتداول، وتوضيح خلافاتهم علنا حول استراتيجياتهم السياسية. قد لا يؤدي ذلك إلى تحقيق مكاسب ملموسة في الوقت الحالي على صعيد التطور السياسي الديموقراطي، ولكن للمرة الأولى نشهد بعض النقاش السياسي العام خارج المساحات التي تسيطر عليها أجهزة الدولة. نحن نرى عودة (نسبية) للسياسة، متجسدة في الخلافات والنقاشاتن وربما تتجسد في إجماع استراتيجي في وقت لاحق، قد تكون أحد ملامحه هو ضرورة تغيير النظام القائم من خلال الفعل السياسي السلمي، وذلك لمسئولية قيادته المباشرة، عما آلت إليه أوضاع المصريين من تدهور، وما أصاب مصر من تقزيم جيو استراتيجي نتج عنه؛ تهديد وجودي لها- كما ظهر في سد النهضة.

النموذج الطنطاوي في استعادة السياسة

١- امتلاك سردية بديلة لسردية النظام تقوم على عدد من المرتكزات أهمها: الرئيس منصب تنفيذي، وليس مُخَلِصا، وهو موظف عام مؤقت، تجري محاسبته ومراقبته، ويعمل بتناغم بين السلطات والمؤسسات المختلفة، وليس فوقها، ولا بديلا عنها. لا يملك الخلاص لشعبه بتقديم الحلول النهائية الناجعة، لكنه يستحث فاعليات المجتمع المتعددة مليء بالخبرات والكوادر لتقديم؛ حلول للتحديات. الدولة المصرية هي خادمة للشعب، وليست فوقه، وهي إذا كانت كذلك، فلا يمكن بحال أن يكون فيها الرئيس هو السيد. السيد هو الشعب.

استقر جزء معتبر من الإدراك لدى قطاع من المصريين على مسئولية السيد الرئيس، عما آلت إليه أوضاعهم المعيشية من تدهور، وأحوالهم من تردٍ. في تمويت السياسة إضعاف للمؤسساتن وتلاشي للهياكل السياسية، وإن بدت شحوبها وظلالها. أدرك الطنطاوي هذه الحقيقة، فكانت أحد محاور خطابه هو: مسئولية الرئيس المباشرة.

احتفاء الطنطاوي بفكرة الدستور والقانون، وتأكيده عليها بينُ جلي. هذه الفكرة ساعدته في الخروج من كثير من الشِراك التي أراد الإعلام أو خصومه، أن ينصبوها له مثل الموقف من الإخوان أو البهائيين أو مجتمع الميم، لكنه يطرحها في مواجهة الجمهورية الجديدة التي تم العصف فيها بالدستور والقانون إلى حد كبير.

يعي الطنطاوي، أن سؤال التغيير، منذ يناير ٢٠١١، لا يزال مطروحا. التغيير مطلوب، ولكن ليس وفق الشكل الذي خلقته يناير؛ وإن ظلت أهدافها ومطالبها هي جوهره. هناك طلب على التغيير، ويمكن تحقيقه عبر الانتخابات، وليس بانتفاضات جماهيرية، وبشكل سلمي من خلال صناديق الاقتراع، ويجب أن يسمح به النظام، حتى لا ينزلق الوضع إلى عدم الاستقرار.

الموقف من التغيير- كما يقدمه الطنطاوي- يسمح له بتكوين تشكيل متسع، ممن كانوا في يناير، أو لم يتحمسوا لها، بالإضافة إلي دوائر من الدولة، لا تريد أن تتكرر تجربة يناير.

٢- المبادرة تبني شبكاتها: بدأ الطنطاوي بناء شبكته من خلال التطوع للحملة، وليس استنادا إلي التنظيمات والهياكل القائمة. هي مبادرة في البناء من أسفل. يبدأ بالدعوة المبكرة للفكرة؛ لتلحق به بعد ذلك الكيانات السياسية المستقرة، فهي عادة أبطأ وهياكل اتخاذ القرار فيها معقدة.

ألم يكن هذا هو ما جرى في يناير ٢٠١١؟ بدأ الحراك شبابيا، ثم لحقت به الأحزاب والجماعات السياسية.

في الزمن المعاصر؛ لا يمكن الحديث عن هياكل متماسكة مصمتة، بل شبكات توجد بها عقد تتجمع بها، وحولها المصالح والرؤى والمواقف. تجمع حول الطنطاوي مكونات عدة: عناصر جديدة من شباب، يدخل السياسة لأول مرة، الاشتراكيون الثوريون، بقايا الحالمين بيناير الذين يعيدون هتافاتها الشهيرة: عيش -حرية- عدالة اجتماعية، أحزاب وتنظيمات سياسية كحزبي الكرامة والتحالف الشعبي….

لم نلحظ حضورا نسائيا طاغيا- كما برز في الانتفاضات العربية اللاتي تقدمن فيها الصفوف، وسيطر الشباب على الحملة؛ فالمرشح الرئاسي عمره ٤٤ عاما، ومن تحلق حوله شباب.

شبكية التشكل التنظيمي، كما أن له مميزات مثل، المرونة والسرعة والقدرة على التكيف؛ إلا إنه يعاني من عديد من المشاكل أهمها: ضعف القدرة على الاستمرار؛ لأن ما يجمعها هدف واضح ومحدد، إذا اختفى فقد يصيبها الضعف. عانت حملتا عبد المنعم أبو الفتوح وحمدين صباحي بعد انتخابات الرئاسة ٢٠١٢، من عدم القدرة على ترجمة نشاط الحملة إلى تشكيل تنظيمي قوي.

أظهرت حملة الطنطاوي، أنه لا يزال هناك طلب على السياسة لدى قطاعات من المصريين- خاصة الفئات الشابة. هذا الطلب لم تستطع الأحزاب، ولا الكيانات السياسية-معارضة وموالاة- أن تستوعبه أو تعبر عنه. ستحاول بعض أجهزة النظام، أن تجعل تكلفة استعادة السياسة باهظة- كما فعلت على مدار العقد الماضي كله، لكن إن لم يتوفر لدى الدولة بأجهزتها والأحزاب بتشكيلاتها قناعة، أن فائض السياسة هذا يفرض عليهما تغيرا في طريقة عملهما؛ فأظن أننا سنكون أمام مأزق جديد للمجتمع والدولة المصرية.

فائض السياسة، إن لم تستوعبه مؤسسات سياسية؛ سيؤدي إلى تهديد الاستقرار وزعزعة “الأمن القومي”، وهو ما لا تتحمله مصر الآن دولة ومجتمعا.

عجزت الجمهورية الجديدة، أن تخلق قنوات للتعبير عن المظالم الاجتماعية والشخصية والمحلية، برغم تصاعدها على مدار العقد الماضي. ستكون الانتخابات فرصة؛ لخروج هذا الكبت للعلن، وإذا لم يتم تصريفه بعدها في قنوات سلمية، فسيكون الوضع أسوأ حالا. صحيح أن قطاعا من المصريين فقد الثقة في السياسة بعد يناير. سعي نظام ٢٠١٣؛ لتعميق ذلك، وتأسيس شرعيته لدى قطاعات جماهيرية على ذلك، لكن يظل التحدي الذي يواجه حملة الطنطاوي، هو قدرته على استعادة هذه الثقة، وإزالة ركام الخوف الذي ران على الأفئدة لعقد من السنين.

لعل في خطابه الهادئ غير الديماجوجي، ما يشفع له في ذلك.

٣- خطاب لا أيديولوجي لا يقع في فخ الاستقطابات التقليدية.

أكد الطنطاوي في حواره مع موقع المنصة، أنه لا أيديولوجي، رغم أنه جاء من خلفية ناصرية. هو يعي تركيبة حملته التي تشكلت من روافد متعددة، لكن ما يحسن أن نؤكد عليه؛ لأنه باتت سمة لصيقة للممارسة السياسية في الزمن المعاصر، وهو ما أطلق عليه عدد من الباحثين ما بعد السياسية، وقد سبق أن تعرضت له بالتفصيل في كتابي الصادر أوائل هذا العام بعنوان: “لمن السياسة في مصر اليوم؟” -دار المرايا بالقاهرة.

في هذا النوع من السياسة المطالب مباشرة ومحددة. السياسة فيها ديناميكية باستمرار تتغير مواقع الأطراف المختلفة فيها، وكذا شكل الخطاب؛ ليناسب وظيفته المباشرة، وليس المنطق السياسي أو الرأسمالي أو الأيديولوجي الذي يستند إليه. التحالفات عابرة ومؤقتة ويتم إنشاؤها؛ لسبب معين، ويجري فيها تهميش الأيديولوجيا، ويتحول النقاش، أو يغلب عليه الجانب التقني أو الفني، حيث الحديث في الأساليب الصحيحة لإدارة الاقتصاد، أو مشكلة الفساد وانعدام الشفافية، وأخيرا؛ فإنه يشكل خطوط صراع سياسي جديدة، وقدرته على طرح بدائل تظل محدودة.

المعايير المرجعية للسياسة- في هذا التصور- لم تعد أيديولوجية؛ بل يومية حياتية. هي لم تعد ثابتة غير قابلة للتغيير، ويختفي معها الإجماع المهيمن أو الرواية السائدة.

لم يقع الطنطاوي في فخ الاستقطابات التي سيطرت على الثقافة، والسياسة المصرية لخمسة عقود، وهو الانقسام الإسلامي العلماني، بل تمحور الاستقطاب لديه حول طبيعة الدولة المصرية التي يجب أن تكون خادمة لمواطنيها، ولن يتحقق ذلك إلا برئيس مؤقت تنفيذي، ليس فوق الشعب والسلطات، والمطلوب من هذه الدولة، أن تدرك أولويات مواطنيها، وهي الكرامة الإنسانية التي لا يجرؤ معها موظف عام أن يهين، أو ينتهك حقوق المواطن، بالإضافة إلى أولوية الصحة والتعليم، باعتبارهما أهم ما يتطلع إليه المصري من دولته.

مع هذه الخصائص تتحول السياسة إلى سياسات؛ وفيها تجري مساءلة القضايا والموضوعات وفق عدد من المفاهيم، والقيم التي باتت من صلب الخطاب السياسي المعاصر مثل: الشفافية والحكم الرشيد، وأولويات الإنفاق العام، والمساواة والشراكة في صنع السياسات وتطبيقها.

قد يكون مفيدا، أن نشير إلي خصائص الحراك الذي جري في ٢٠١٩، وتكرر في ٢٠٢٠ الذي اعتبره بداية استعادة السياسة في مصر. لم تقف وراءه أية قوة منظمة، واتسم بالعفوية، وكان عماده طبقات شعبية، وليس طبقة وسطى متعلمة. خرجت الناس العادية للمطالبة بحياة أفضل لها ولذويها، دون أن ترفع مطالب وطنية عامة من قبيل إصلاح النظام السياسي أو الديموقراطية، كما أنها اتخذت طابعا محليا صرفا؛ أي اقتصرت على الاحتجاج في مناطقها، ولم تسع إلى الانتقال إلى الميادين العامة كتعبير عن تحولها إلى حالة وطنية.

يعي الطنطاوي، كما يتخوف النظام من التعبئة حول الهموم الاقتصادية للمصريين، لكن هل تقدر حملته، أن تبني في الانتخابات وبعدها تحالفا اجتماعيا حول هذه الهموم؟

مشاكل النموذج الطنطاوي في الخطاب عدة أمور: التماسك الفكري والبرامجي غير واضح، الفئات الاجتماعية التي يتم التعبير عنها غير محددة؛ فهو يضم الساخطين من كل لون وفئة؛ من يعرفون ما لا يريدون لا ما يريدون. التعريف-عندهم بالنفي، ويتضمن بعضا من المفردات الشعبوية، وقد يصيبه التلفيق في أحيان، وأمامه تحدي ترجمة مطالب الناس المباشرة إلى مطالب وطنية عامة.

في السياسة المعاصرة، تنتفي فكرة التمثيل؛ فالدولة ومؤسساتها الوسيطة، تقوم على شرعية الوكالة عن أعضائها في تمثيل مصالحهم، وهو ما لم يعد موجودا الآن، حيث انقسم الجمهور إلى مجموعات، تتباين مصالحها، وتختلف وقد تتقاطع في أحيان. في الزمن المعاصر؛ لم تعد الطبقة الوسطى كيانا واحدا متماسكا في مصالحه وتطلعاته؛ فالنقابات المهنية -على سبيل المثال- تضم مستويات مختلفة من الدخول (أطباء ومهندسون فاحشي الثراء في مقابل المستورين) بما يخلق تفاوتا شديدا بين الأعضاء في المصالح وأولويات المطالب.

إذا انتفى التمثيل والوكالة، فلا بد أن تتغير الوظائف والأدوار؛ فتنتقل من التحكم والسيطرة إلى دور الوساطة/ الحكم والإدارة. تغير دور الرئيس؛ فبدلاً من أن يقود هياكل الدولة بأكملها وبيروقراطيتها؛ لتحقيق وظائف الدولة التنموية -كما جرى في فترة عبد الناصر (١٩٥٤-١٩٧٠)؛ أصبح موازنًا وحكمًا بين مصالح طبقة رجال الأعمال، وبين المصالح الاجتماعية العامة، ويحكم بين مؤسسات الدولة المتباينة في توجهاتها – كما في فترة مبارك (١٩٨١-٢٠١١). إذا انتفى التمثيل والوكالة، فلا بد أن تبرز فواعل “سياسية” جديدة بخلاف ما ألفناه.

هل كلام الطنطاوي حول طبيعة منصب الرئيس في الدولة المصرية، يجد جذره النظري فيما أشرنا إليه من قليل؟

أخيرا؛ فإن الطنطاوي ابن المحافظة الاجتماعية والدينية المصرية، خاصة في جانبها الريفي لا المديني، لكن أبرز ما فيها، أنه يرى، أنه ليس من وظائف الدولة، أن تحملهم على نمط اجتماعي ولا ثقافي/ ديني معين. هو له آراؤه ومواقفه الفكرية والاجتماعية، لكن ليس من وظيفة رئيس الدولة، أن يفرض على المصريين تلك الخيارات، وهو موقف في تقديري متقدم جدا في فهم طبيعة الدولة المعاصرة ومحاولة -لو تم إدراك تأثيرها السياسي والقانوني على إعادة هيكلة الدولة المصرية- لأصبحت فتحا مبينا. لم يدرك الطنطاوي، أن إنتاج الاستبداد لا يجري في هياكل السلطة فقط، بل في بنى المجتمع “المحافظ” وأنماط التدين أيضا، وهو ما تعرضت له في مقالاتي الكثيرة.

٤- خلق معيارية جديدة: على رغم أن السردية البديلة تخلق معيارية جديدة للفعل السياسي -كما أشرت في النقطة الأولي؛ إلا أ تأثير السوشيال ميديا التي يستخدمها أنصاره بمهارة أيضا مهم.

في السوشيال ميديا، لم يجر محاولة استعادة الجدل العام فقط الذي صادرته السلطة؛ ولكن تم أيضا خلق معايير جديدة يجري من خلالها: تقييم المواقف والسلوكيات والسياسات والإجراءات، وتقديم سرديات أخرى تتحدى السرديات السائدة أو المهيمنة، ويجري فيها القضاء على المركز والمرجعيات والرموز، حيث لا قداسة لأحد، وإنما القناعة والقبول والنفع والعملية. وسعت السوشيال ميديا من المنخرطين بشكل نقدي في السياسات المتبعة، والإجراءات والقرارات المتخذة، وهي تبرز تناقضات السلوك والموقف، وأدت إلي تعبئة شعبوية في بعض الموضوعات والقضايا، ولكنها في النهاية حافظت على اهتمام قطاع معتبر من المصريين بالمجال العام، ومتابعته ومراقبته وتقييمه بشكل دائم؛ في وقت تراجعت فيه مساحات الجدل العام، وتم القضاء عليها -أو هكذا تصور البعض.

نؤكد أن المعايير المرجعية للسياسة -كما قدمت- لم تعد أيديولوجية؛ بل يومية حياتية، وهي لم تعد ثابتة غير قابلة للتغيير، ويختفي معها الإجماع المهيمن أو الرواية السائدة… ما يستحق المتابعة، كيف يعاد صياغة وتشكيل الإطار المعياري في مصر بين التعدد والتمرد من جهة، وبين الضبط والتحكم من جهة أخرى؟ -باعتبار أن هذا في قلب عمليات إحياء السياسة أو تمويتها.

٥- انتفاء الحدود الفاصلة في الفعل السياسي بين الداخل/ الوطني والخارج/ الغير وطني؛ وهي سمة لصيقة بالزمن المعاصر، حيث تآكل مفاهيم السيادة، وتعدد الفاعلين من غير الدول، وتوسع العولمة الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية… هذا بشكل عام، لكن ما جرى في مصر على مدار العقد الماضي، أمران: باتا لهما تأثير على السياسة الداخلية:

الأول: هناك أصحاب مصلحة عديدون، باتوا مهتمين بالسياسة في مصر، ويساهمون في تشكيلها، وأنا هنا لا أقدمه بالمعنى التآمري، ولكنه اعتراف بالتعقيد والتركيب الذي بات يتسم به العالم الآن، وتعبير عن ضرورة تجديد تفكيرنا في المجال السياسي؛ فقد تحولت خصائصه، وتغيرت قواعده، واختلفت الفواعل فيه، ناهيك عن المجالات والموضوعات الجديدة التي بات يظهر فيها بقوة.

يمكن الإشارة إلى دول الخليج ،والمنظمات الدولية غير الحكومية، بالإضافة إلى المؤسسات المالية الدولية، وهي مجرد أمثلة لفواعل عديدة، تلعب دورا متعاظما في السياسة المصرية.

الثاني: تعاظم دور الدياسبورا المصرية في السياسة. كان دورهم في الاقتصاد محل اعتراف بحكم تحويلاتهم التي تصاعدت بمرور الزمن؛ لتكون المورد الأول للعملة الأجنبية في مصر، لكن بعد ٢٠١٣، وبحكم هجرة كثير من الفاعلين السياسيين من مختلف التيارات السياسية، والفكرية باتت الدياسبورا تلعب دورا في السياسة المصرية. لسنا في محل تقييم لحدود هذا الدور، وما يمكن أن يساهم به؛ لكن الطنطاوي المرشح المحتمل، يحاول أن يزيد من فاعلية دورهم: فريقه يضم عناصر منهم، ويمكن أن يساهموا في حل مشكلة التوكيلات، وقد يساهمون في كتابة برنامجه الانتخابي، بالإضافة إلي الدور الإعلامي، وفي مرحلة الاقتراع قد تلعب أصواتهم دورا بارزا، ولا أدري إن كان لهم دور في تمويل حملته أم لا…

ورثنا عن السياسة في يناير- قبلها وبعدها- عددا من الخصائص التي باتت سمة لصيقة لقطاع كبير من الفعل السياسي في الزمن المعاصر. سبق وأطلقت عليها من سنوات “خطاب المعاش”؛ فهي سياسة محلية- جذرها في الشبكات المحلية في الريف والمدن الصغرى، ومطالبها مباشرة ( الحد الأدنى للأجور-الامتحانات- مقرر الفصل الرابع الابتدائي)، ولا تترجم نفسها بالضرورة في إصلاحات وطنية عامة مثل، الديموقراطية أو إصلاح نظام التعليم، وتهمش الأيديولوجيا، ولا تستند إلى خطاب قومي أو طبقي، وهي بلا قيادة أو منظمة، وتتميز بالعفوية والاستناد إلى شبكات لا مركزية لا منظمات هرمية …إلخ ما هنالك من صفات. نحن نشهد مع الانتخابات الرئاسية إعادة تعريف للسياسة من مداخل جديدة؛ من حيث خصائصها وفواعلها وخطابها ونوعية الأولويات فيها، وهذا لا يعني- بأية حال- أننا تجاوزنا الفجوة بين التفكير والفعل؛ إذ تظل القدرة على ترجمة هذه التصورات الجديدة إلى فعل سياسي، محدودة، لاعتبارات تخص منهج النظر إلى السياسة أصلا، بالإضافة إلى مواريثها المتعلقة بالبنى والهياكل والأشخاص.

Share: