نٌشر في الجزيرة.نت – أكتوبر 2023

كتب: هشام جعفر – عبد الرحمن محمد

أمام إسرائيل خيارات أربعة في هذه الأزمة غير المسبوقة والتي تشهدها لأول مرة

الخيار الأول

محاولتها إعادة فرض معادلاتها التقليديَّة للأمن القائمة على الردع وحصار المناطق الفلسطينيَّة والقدرة على التدخل وَفقًا لشروطها؛ مع تكبيد الفلسطينيين خسائر كبيرة كعقاب، والضغط من ناحية أخرى على الفلسطينيين في القدس والضفة.

الخيار الثاني

هو محاولة التحرّك الموسع للوصول لحلّ حاسم لتحدي المقاومة بنزع سلاحها وتفكيك تنظيماتها والقضاء على إمكاناتها.

الخيار الثالث

هو فرض وضع جديد على غزة بأكملها عبر سيناريو إعادة السلطة الفلسطينية لحكمها؛ مع ترحيل وتهجير الفلسطينيين نحو مصر، وتحويل المسؤولية عن هؤلاء المهجّرين إلى أطراف أخرى في المنطقة والعالم، وهي سياسة أدمنتها إسرائيل مبكرًا قبل نشأتها وبعدها.

الخيار الرابع

القَبول بحل الدولتين مع صراعات حول التفاصيل الخاصة بالقدس واتصال المناطق الفلسطينية ببعضها البعض وحدود السيادة الممنوحة للدولة الجديدة وتسلّحها.

تحاول إسرائيل أن تستغل هذه الحالة غير المسبوقة والتي يمكن ألا تتكرر من خلال الجمع بين الخيارات الثلاثة الأولى؛ أي الحسم والضغط على المجتمع الدولي والمنطقة لقبوله عن طريق إنهاء القدرات العسكرية لحماس وفصائل المقاومة المختلفة، والتعامل مع غزة بشكل عام بفرض أوضاع جديدة كاملة عليها، مع السعي لترحيل ولو جزئيًا نحو مصر.

حدود القوة

تواجه إسرائيل اليوم معضلة كبيرة، وهي معضلة قائمة بالأساس على ضرورة الرد والانتقام واستعادة الهيبة المُفضية إلى الردع؛ مع تحقيق انتصار ولو رمزيًا يحفظ ماء الوجه، ولكن من ناحية ثانية، هناك حدود لقدرات إسرائيل اليوم على تنفيذ هذا الرد والانتقام، لكن مع حكومة الحرب الجديدة، فإن هناك احتمالًا كبيرًا جدًا بأن تخوض إسرائيل غمار التجربة، رغم توقعات التكلفة العالية.

إن الوضع الحالي يمثل تحديًا كبيرًا جدًا لمنظومة الأمن الإسرائيلي ونظرياته بسبب انكسار 4 مقومات أساسية فيها:

المدن المحاصرة – العمليات المحدودة (أو المعارك الخاطفة سواء من إسرائيل نفسها أو من الخصم). منظومة أمن إقليمي ودولي تقوم بالأساس على قوة التحالفات الداعمة لإسرائيل، وقدرتها على خلق موقف قوة لها في محيطها الإقليمي بالأساس. وعنصر ثالث، وهو التفوق في السلاح، وبالتالي تقليل الاعتماد على العنصر البشري.

من ناحية العنصر الأول، وهو منظومة المدن المحاصَرة، فإن الأمور اليوم تبدو بشكل كبير على نحو غير ذلك، وفكرة حرية الحركة لإسرائيل لم تعد أمرًا سهلًا. تبدو إسرائيل في هذه الأزمة هي المحاصَرة بشكل أكبر. أما العنصر الثاني- و هو  “العمليات المحدودة “- فهو اليوم أمرٌ قد تغيّر بشكل كبير، فالعمليات المحدودة تعتمد بالأساس على فكرة القدرة على امتلاك المبادرة، أو القدرة على تحقيقها في أسرع وقت، بينما لديك اليوم مجتمع كامل تقريبًا تحت الطوارئ، ومنظومات موسعة مكشوفة و معرضة للاختراق، ولديك طرف قادر على الرد بالمثل، ومسرح عمليات ومهام تأمين موسعة تصعّب من عملية إدارة المعركة، حيث البنية التحتية اليوم مهددة -المطارات والملاجئ والبنية التحتية للطاقة والمياه والاتصالات والإنترنت في إسرائيل- ومصالحك في البحر المتوسط، وبات أمامك جبهة عمل واسعة من المفترض التعامل معها تشمُل المدن الفلسطينية – غزة والمدن الأخرى في الضفة- وتشمُل -أيضًا- الداخل الإسرائيلي الذي لا تزال إمكانات تهديده غير واضحة بشكل كامل حتى بعد تمكّن إسرائيل من السيطرة على غِلاف قطاع غزة و تأمينه، وبات لدى إسرائيل الآن تجربة موسعة لتوقع الأسوأ في جبهتها الداخلية.

إلى جانب ذلك، هناك وضع جديد من المخاطر على طول الحدود الإسرائيلية بشكل غير مسبوق. لدينا سوريا، ولبنان، والبحران المتوسط والأحمر، وهما محورا تهديد اليوم جديدان بشكل كبير، وهو وضع لم تتكشَّف أبعاده بعدُ، لكن المخاطر فيه باتت كبيرة بقدر المصالح التي باتت لإسرائيل فيه، حيث لدى جبهة المقاومة -أو التحالفات الداعمة لها- إمكانات للتحرك عبر جميع هذه الجبهات، مع قدرة جديدة على نقل الصراع إلى داخل الأراضي الإسرائيلية بشكل موسّع، أو التحرك عبر البحر بضرب المصالح الإسرائيلية في المتوسط، أو البحر الأحمر، والتي باتت اليوم حساسة للعالم.

تستطيع الجبهة الجديدة المتشكلة الآن -إيران وحزب الله وحماس وروسيا من بعيد- التحرك تجاه الحقول النفطية الإسرائيلية في البحر المتوسط، وبالتالي تهديد ما يمثل مستقبل دول المتوسط في مجال الطاقة، والتأثير على الكثير من أحلام أوروبا في التخلّي عن الطاقة من روسيا والتحول نحو الشرق الأوسط.

إذا أضافت إسرائيل لنفسها اليوم هدفَ القيام بعمل حاسم تجاه المقاومة أو قطاع غزة، فإنها ستضيف لنفسها هدفًا غير محدد يمكن أن يتحول إلى عملية موسعة وطويلة الأمد، يصعب الخروج منها ببساطة هذه المرة، فإذا انخرطت إسرائيل في جهود اقتحام بري لغزة يمكن أن يتم ابتلاع إمكاناتها بدون قدرة حقيقية اليوم على تجديدها بشكل كبير -بسبب الحلفاء المستنزفين في أوكرانيا- وفي الوقت نفسه ستصبح مكشوفة بقوة في مناطق متعددة- ما سيؤثر في قدرتها على التوازن عبر الجبهات المختلفة، وبالتالي موقفها العام. يمكن لعمليات احتجاز رهائن موسعة في قلب إسرائيل أن تكون سيناريو مرجحًا للغاية؛ لأنها ستحدث إرباكًا كبيرًا. إلى جانب أنَّ الجيوش الكبيرة دائمًا ما تستنزف مواردها وقدراتها بشكل أكبر بكثير ممن يشنون حروب العصابات.

 احتمالية انفجار من الداخل من عرب 48 وتماسك المجتمع الإسرائيلي نفسه

لم تعد العمليات اليوم محدودةً، وإنما لدينا تحدٍ كبير من حيث الخسائر الكبيرة في الأرواح -وإمكان تحملها من قبل الجانب الإسرائيلي- ولدينا جبهات متعددة ومبادرة مفقودة، بما يعني قدرة أقلّ على التركيز في اتجاه محدد، والتعامل المرن، وهو عامل مهم بالنسبة للجيوش النظامية وقدرتها على الأداء والتعامل مع المواقف.

على النقيض من ذلك نجد الطرف الآخر الذي يحاول التمسك بالمرونة والمفاجأة والمبادرة، وبالتالي التمكّن من وضع المنظومة الإسرائيلية في موضع رد الفعل بشكل مستمر، ومن ثَمّ وضع الجيش الإسرائيلي تحت ضغط وإجهاد مستمرَين يفقدانه القدرة على التركيز ويستنزفانه ويجعلانه يرتكب الكثير من الأخطاء. يعد سيناريو إطلاق عملية عسكرية برية ضد قطاع غزة أسوأ الخيارات المحتملة وأخطرها للجانب الإسرائيلي. فرغم كونه تحولًا للهجوم وبما يوحي بانتزاع المبادأة، إلا أنه سيزيد بدرجة كبيرة من حجم الخسائر الإسرائيلية في الأرواح، ويطيل زمن الحرب، وسيورط إسرائيل في مستنقع تفتقد فيه القدرة على معرفة كيفية وتوقيت الخروج منه.

أما النقطة الثالثة، وهي منظومة أمن إقليمي ودولي يمكن توضيحها كالتالي:

فقدت إسرائيل الكثير من ديناميكية هذه المنظومة، وباتت تعتمد على تحالفات ضيقة، وهو ما كانت تخشاه، وبالتالي كانت تحاول من البداية التحوط في علاقاتها الدولية بزيادة علاقاتها بروسيا والصين. إسرائيل تتخوف من أن أميركا بوضعها الحالي في النظام الدولي يمكن أن تصبح عبئًا على إسرائيل، كما من الممكن أن تكون إسرائيل عبئًا كبيرًا على أميركا، بالتالي يظهر مدى تكلفة هذا التحالف اليوم، فكل طرف من الأطراف بات عبئًا على الآخر، وغير قادر على تدعيم موقفه كما ينبغي، بل متخوف من أن يخسر أكثر مما يكسب.

اعتمدت إسرائيل بشكل كبير دائمًا على وجود قوة كبيرة قادرة على إدارة المعادلات الإقليمية لصالحها، لكن إسرائيل اليوم باتت مضطرة للاعتماد على نفسها، ومن ناحية أخرى تواجه هي وحلفاؤها تحديات كبيرة. يمثل هذا البعد من وجهة نظر الكاتبين التحدي الأكبر أمام إسرائيل المتمثل في قدرتها على الإقدام والنجاح في خياراتها للتعامل مع الأوضاع الجديدة في فلسطين وفي النظام العالمي.

إنّ تحدي تحول المعركة إلى حرب كبيرة تحاول فيها أطراف متعددة ليس التعامل مع إسرائيل وفلسطين فحسب، وإنما فرض رؤيتها على الشرق الأوسط كله، وبالتالي يحتدم صراع بين القوى الكبرى على المنطقة، تجر إسرائيل الغربَ إليه جرًا. إن هذا البعد هو ما يضيف بشكل كبير التفاصيل للصورة ويؤطّرها، ويظهر حجم التحديات التي تفرضها الأحداث على الجميع وقدر ما تخلقه أيضًا من فرص لأطراف متعددة، وهو ما قد يكون مصدرًا أوسع للفوضى والتعقيد.

استكمالٌ للتحدّيات التي يمكن أن تواجه إسرائيلَ، إذا ما تحوّلت هذه المعركةُ إلى حرب كبيرة تحتدم صراعًا بين القوى الكُبرى، تجرّ إسرائيلُ الغربَ إليه جرًا.

تمثلُ هذه المنطقة -بامتداداتها عبر قلب الجغرافيا الحيوية العالميّة- عنصرًا مهمًا في ملفات أساسيّة وحسّاسة في عملية التّنظيم العالميّ الجيواستراتيجي، أو الاقتصادي، مثل: ملفّ الممرات الاستراتيجية، وملفّ الطاقة، وملف اتجاهات الاقتصاد العالمي نحو البحث عن أسواق جديدة، وملف التنمية العالمية، وملف اتجاهات التحالفات الخارجيّة للشرق الأوسط، وبالتالي فإنَّ هذه الملفات، اليوم، ستكون حاضرةً على طاولة التسويات، ومحاولات إدارة الموقف، ولا يمكن إهمالها في المشهد، ولا تجاهل الأطراف الأساسيَّة في هذه الملفات وحساباتها، وبالأخصّ في تصوّرات تطوّرات المشهد ومُستقبليَّاته، وأبرزُ هذه الملفات:

  • لدينا قوى كُبرى تتنافسُ بخطواتٍ متسارعةٍ -أمريكا والصين وروسيا- مع ردودِ فعل قويّة، فالمحاولاتُ المتصاعدة لإبعاد روسيا والصين وإيران عن الشرق الأوسط سواء سوريا بالنسبة لروسيا، وإيران، أو محاولات حصار الصين والتحكّم باتصالاتها مع  العالم، سواء من خلال معابر الصّين البرية من خلال أفغانستانَ وإيرانَ وباكستان، أو معابرها البحرية (بحر الصين الجنوبي)، وتحويل محاولاتها لتدعيم اتّصالها بالعالم عبر الشرق الأوسط من خلال ممرّات الحزام، والطريق، إلى مُحاولات لتدعيم أطراف منافسة لها، وهي الهند، ودفع المنطقة نحو مسارات تحالف بديلة -الممر الهندي، السعوديّ، الإسرائيلي مؤخرًا- ومحاولة تحجيم إيران، والدفع بها إلى خارج الشرق الأوسط، ولعبة الطرق الجيواستراتيجيَّة وخطوط الطاقة العالمية، وتحويلها إلى دولة حبيسة في الشرق الأقصى.
  • كلّ هذا اليوم، يجد صدى الردّ عليه من خلال محاولات التحول من الدفاع إلى الهجوم، وهو ما تحاول إيران توظيفَه لصالحها كرأس حربة للشرق -الصين وروسيا- في مِنطقة الشرق الأوسط، في مقابل محاولات إسرائيل أن تكون رأسَ حربة للغرب، لتصفية إيران في المِنطقة، فاليوم إيران تتحوّل من الدفاع إلى الهجوم، بعد أن واجهت تحديًا حقيقيًا خلال العام الماضي، مع الاحتجاجات المحليَّة، ومحاولات إسرائيل تهديدَ تواجدها في سوريا، وكذلك محاولات عدة أطراف تهديد موقعها في العراق، ثم أخيرًا محاولة إخراجها من لعبة الطرق الجيواستراتيجيّة، ومن ملفّ الطاقة، وبالتالي اليوم هي تحاول استعادةَ التوازن.
  • الصين تحاول من قِبلها قلبَ الطاولة على محاولات تجاوز إيران، وقطع الطرق في وسط آسيا، ومحاولات تجاوز طريق الحرير، وحصار طرقها اللوجستيَّة والاستراتيجيّة.
  • إلى جانب ذلك، فإنَّ لدى روسيا حساباتٍ لتصفيتها مع أوروبا في ملفّ الطاقة في المتوسط، إلى جانب حساباتها الخاصة مع الغرب- أمريكا وأوروبا- بفتح جبهات استنزاف بعيدًا عن أوكرانيا وسوريا بأقلّ تكلفة.
  • من ناحية أخرى، لدينا محاولات الدول النامية الخروجَ من المأزِق، والتعامل مع قضيّة التنمية لاستيعاب الاحتياجات الداخلية المُتنامية والتي باتت تمثلُ قنابل موقوتةً يمكن أن تحوّلها إلى دول فاشلة، ما سيجعلها تتجه إلى قلب الطاولة على الجميع، وتهديد سلاسل الإمداد العالمي التقليديَّة بما يعني قلب كلّ شيء.

هناك دولٌ كثيرةٌ، وخطط عديدة للتنمية العالمية تتضرّر بشدة من تصاعد الأمْنَنَة في النظام الدولي، بدلًا من اتجاهات البحث عن المصالح الاقتصاديّة والتركيز على التنمية العالمية. النظام النقديّ العالمي اليوم يواجه تحديًا حقيقيًا في قدرته على الوفاء بحلول لهاتَين المعضلتَين: الأمن، والتنمية، وتمويل برامج خاصَّة بها.

في مواجهة ذلك، هناك اتجاهٌ يرى أنَّه على الجميع اليوم أن يحكّم العقل، ويفكّر في الأمور بمنطق المصلحة العالميّة؛ خاصةً أنَّ أمامنا تحدياتٍ عالميةً لا يمكن مواجهتُها بشكل منفرد أو عبر التنافس مثل تغيّر المناخ، واحتياجات تمويل التنمية العالميّة. في ظلّ هذا التوجه يمكن أن تنشأ قوى وأطراف دولية ترى أنَّه لابدَّ من إجبار إسرائيل على الخضوع أو الوصول إلى تسويات وحلول وسط، وإلا ستكون أميركا والنظام العالمي وليس الدولي، هو الثمن الذي سيدفعه الجميع.

إنَّ اتجاهات إسرائيل اليوم تحرم إيران من الاندماج في المجتمع الدوليّ بعرقلة أي انفتاح على إيران، وتمنع المِنطقة من الاندماج والتكامل الداخلي، وبالتالي خلق فرص للنمو والاستقرار بدلًا من كونها -أي المنطقة- عاملًا لعدم الاستقرار العالميّ، بما يمنع المنطقة من الاندماج العالمي، وأداء دورها بسلاسة ويُسر ضمن المنظومة العالميَّة.

أمَّا عن كيفية النظر حول احتمالية التدخل الأميركي، فإنه من المهم مقاربة الموقف الأميركي-الإسرائيلي اليوم من خلال النظر في إمكان الأولى خلق خيارات لترتيب الملفات الأساسية للشرق الأوسط من خلال هذا التدخل، وتحقيق التفوّق لصالحها على حساب الآخرين، (بالأخصّ في ظلّ الوضع في سوريا والعراق والتخوف من تمدد هذا الوضع إلى سواحل المتوسط سواء من خلال إيران أو روسيا كأطراف باحثة عن تغيير معادلة الطاقة واللوجستيات)، وفي ظلّ وضع متوتّر في داخل إفريقيا؛ كما برز في الانقلابات العسكرية الأخيرة.

إلى جانب أمرٍ آخر، وهو أنَّ أي ضربة في حقول النفط، أو أي مسٍّ بهذا الملف سيكون أمرًا خطيرًا جدًا؛ لأنَّ أسعار النفط سترتفع، وهو ما سيكون له تأثير سلبي كبير للغاية على الاقتصاد العالمي ككل، وأميركا وأوروبا خاصةً، وبالتالي فإننا نرى أنّ قدرة أميركا على التدخل والانخراط الموسع في الشرق الأوسط ضعيفة بشكل كبير.

إنّ ما يحدث اليوم يتطلب من إسرائيل البدْء في عملية ترتيب موسّعة، من الصعب أن تكون الأمور ميسّرة، حيث تحتاج إسرائيل لإعادة بناء منظومتِها الأمنية في أبعادها الثلاثة: (الأمن الداخلي، واستعادة الثقة في النظام والمنظومة وإنهاء الخلافات السياسية، وإعادة تنظيم المناطق الفلسطينية)، إلى جهودٍ كبيرة للغاية، نعتقد أنَّها ليست في قدرة إسرائيل اليوم. إعادة بناء منظومة الأمن الإسرائيلي اليوم هي عمليَّة طويلة الأمد قد تأخذُ على الأقل من سنة إلى 5 سنوات؛ لأن على إسرائيل أن تفهم بشكل أدقّ التحولات في المنطقة حولها، حيث لم تعد المنطقة بسهولة تقبلُ بفرض إسرائيل وأميركا خياراتهما وأولوياتهما، في مقابل الأولويات المحلية التي لم تعد تمتلك فائضَ جهد أو قدرات للتعامل مع كل ذلك.

دول المِنطقة باتت ترى في التكامل الإقليمي من مداخل اقتصادية- أساسًا- خيارًا أساسيًا، وتحاول لمْلمة ما يمكن لملمتُه لتجاوز الانهيار التام. لا أملَ لأي دولة في المنطقة الآن للنجاة من خلال عمل منفرد رغم كل الخلافات القائمة.

ومن ناحية أخرى، فإنَّ استيعاب تكلفة الأمن الرخيص بالاعتماد على أميركا اليوم لم تعد خيارًا أساسيًا؛ لأنّ أميركا الآن باتت تبحث عمن يضيف إلى قوتها لا أن يستنزفها أكثر. مشكلات من هذا النوع قد تؤدي للتساؤُل عن حدود قوتها في توفير الأمن لشركائِها؛ فهناك حدود لقدرتها على تجديد قدراتها وتعويض هذه المدفوعات والخدمات من خلال النظام الدولي القائم الذي بات المنافسون الصاعدون فيه أكثر خَنقًا له.

رابعًا: حدود التفوق التكنولوجي الإسرائيلي

ألقت عملية “طوفان الأقصى” بظلال كثيفة على هذا التفوق. استطاع المقاومون بإمكانات بسيطة أن يعطبوا هذه القدرات. فوجئت إسرائيل بهجوم منخفض التقنية إذا ما قُورن بما راكمته من تقنيات متقدمة. تقول “وول ستريت جورنال” في تقرير بثته يوم 10 أكتوبر/تشرين الأول الجاري: “أمضت إسرائيل 3 سنوات في بناء حاجزٍ أمني متطوّر وعالي التقنية بطول 40 ميلًا على طول قطاع غزة، مزوّدٍ برادار وأجهزة استشعار مُصمّمة لكشف التوغلات الخفية التي يقوم بها الفلسطينيون العازمون على تنفيذ هجمات سرّية في إسرائيل”. تضيف: “يوم السبت، استخدمت حماس الجرافات ووسائل بدائية أخرى لاقتحام السياج الذي يبلغ ارتفاعه 20 قدمًا، وأدخلت الرجال عبر الفجوات في شاحنات صغيرة وعلى الأقدام…”.

الخلاصة:

تتوقّف كل هذه الاحتمالات على عددٍ من العوامل:

  • قدرة الفلسطينيينَ على الصمود في غزة، ومواجهة اجتياح بَري.
  • في ذات الوقت توسيع دائرة الحرب سواء في داخل إسرائيل أو عبر مسارات جديدة.

نحن نعتقد كباحثين أن هذا يمكن أن يكون التحول الكبير الثاني في مسار الأحداث بعد هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول؛ لأنه قد يجبر الاتجاهات المتشددة في إسرائيل على التراجع كنتيجة للصمود؛ فبعدها يمكن أن يتحول الصمود الفلسطيني على الأرض وعدم انهيار الجبهة الداخلية الفلسطينية، مع استمرار العمليات في العمق الإسرائيلي وعدم التراجع، إلى انهيار في الجبهة الإسرائيلية، وتبدأ عملية تفكّك واسع فيها على أساس أنَّ هذه الاتجاهات المتشددة هي التي أوصلت إسرائيل إلى هذا الوضع، وأنها غير قادره على إخراجها منه. وبالتالي البدء في أولى خطوات الحل وهي الاعتراف بالفلسطينيين كند، وخيار السلام كحلّ.

من ناحية أخرى، فإنَ موقف المجتمع الدولي والقوى في المنطقة من خيارات إسرائيل: خيار الحسم أو التمسك بحلّ الدولتين أو قبول فرض إسرائيل رؤيتَها، قد يمثل تحديًا كبيرًا لفرص الاستقرار في الشرق الأوسط وما حوله، وإعادة الأمور لما كانت عليه وبقاء القضايا معلقة؛ هذه المواقف محدد مهم. لدى العرب فرصة اليوم لتوظيف الحدث لصالح رؤية حلّ الدولتَين، كحل يمكن من خلاله إنقاذ المنطقة من الدخول في دُوّامة صراع يهدد محاولات المنطقة تجنُّبَ الانهيار والبحث عن طريق للتعافي من خلال مسارات التعامل الإقليمي الذي سيصبح صعبًا أو يصعب ضمان استمراريته في حالة فرض إسرائيل رؤيتَها التي ستتحوّل إلى عبء كبير على دول المنطقة.

دول المنطقة باتت تعرفُ مصلحتَها الوطنية بشكل أكبر من الماضي، وهي حريصة اليوم على عدم الرجوع إلى الوراء.

Share: