نُشر في الجزيرة.نت – أبريل 2024
أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية، كوندوليزا رايس، في أثناء الحرب الإسرائيلية على لبنان يوليو/تموز 2006 أن آلام هذه الحرب هي:” الولادة القاسية للشرق الأوسط الجديد”.
يجب التذكير بأنه كان من المثير للغاية – وقتها – ألا تتحدث الوزيرة الأميركية عن “الشرق الأوسط الكبير”، الذي أطلق فكرته الرئيس بوش عام 2002، ولا عن “الشرق الأوسط الموسّع”، الذي اضطرت واشنطن لتبنّيه عام 2004 بفعل الضغوط الأوروبية، بل ذهبت إلى التعبير نفسه الذي صاغته إسرائيل، (خاصة في كتاب شمعون بيريز الذي يحمل العنوان نفسه: “الشرق الأوسط الجديد” الذي صدر 1996.
يستمر إلحاق لفظ الجديد بالشرق الأوسط مع كل حدث أو تطور مهم؛ فعندما تم توقيع اتفاقات التطبيع 2020 – التي أطلق عليها “أبراهام”- قيل إن الشرق الأوسط يدخل حقبة جديدة. وعند الضربة الإيرانية المباشرة لإسرائيل أبريل/نيسان الجاري -التي تعاون في صدها عدد من الدول العربية- جرى الحديث عن شرق أوسط جديد، يمكن أن تتطور فيه الأمور إلى تحالف إقليمي بقيادة الولايات المتحدة، يضم دولًا أساسية في حلف الناتو، وإسرائيل، وبعض الدول العربية، ضد إيران ووكلائها في المنطقة.
يمكن القول إن الكثير مما جاء لتجديد المنطقة بعد طوفان الأقصى ليس أكثر من استمرار لظواهر كانت موجودة بالفعل، ولا يعني هذا أننا لن نشهد نقلات نوعية مختلفة تغير ما هو موجود، أو تتناغم الظواهر والعوامل فيما بينها لتحدث واقعا مختلفا
هذه هي الرواية التي يجري الترويج لها دائمًا مع كل تطور أو صراع كبير يطال المنطقة، لكن ماذا عن الروايات الأخرى؟
يمكن القول؛ إن الكثير مما جاء لتجديد المنطقة بعد “طوفان الأقصى”، ليس أكثر من استمرار لظواهر كانت موجودة بالفعل، ولا يعني هذا أننا لن نشهد نقلات نوعية مختلفة تغير ما هو موجود، أو تتناغم الظواهر والعوامل فيما بينها لتحدث واقعًا مختلفًا.
لا تزال المنطقة جزءًا لا يتجزأ من النظام الاقتصادي العالمي الذي يعطي الصدارة للنيوليبرالية، بعد أن كان في القرنين الـ19 والـ20 يعطي للرأسمالية التجارية والصناعية الصدارة. لا تزال الدول العربية قاصرة في مجال حقوق الإنسان والمساءلة والشفافية وسيادة القانون، ولا يزال الاستبداد يرعى التطبيع مع إسرائيل، ويمنع التأييد الشعبي للفلسطينيين، ولا يزال السكان يعانون من تدني الأمن البشري في كثير من المجالات، من التعليم والرعاية الصحية إلى الحكم الرشيد، إلى الحصول على إمدادات كافية من الغذاء والمياه. لا تزال هناك فجوة تتسع بين توجهات الحكم وبين تطلعات شعوب المنطقة، لا تزال الطائفية تشيع وتستخدم في المعارك السياسية، ولا يزال المجال السياسي ضعيفًا غير قادر على التعبير عن مصالح الفئات الاجتماعية المختلفة، ولا تزال الثروات والفرص والدخول دُولة بين الأغنياء منا، ولا يزال الفقر وانعدام المساواة بين الجنسين يشيعان ويتسعان، ولا يزال عدم الاستقرار سيد الموقف، ولا تزال الإمكانية لشيوع التطرف العنيف قائمة؛ لأن القابليات التي تنتجه لم تعالج …إلخ.
هكذا؛ فإن الحرب الدائرة على الفلسطينيين بما تنطوي عليه من احتمالات التصعيد الإقليمي، ليست سوى مصدر قلق واحد (وإن كان رئيسيًا) في منطقة تعاني من اختلالات هيكلية، ومعرضة لعدم الاستقرار، وانعدام الأمن، وعدم القدرة على التنبّؤ.
وبغض النظر عما إذا كانت عبارة “الشرق الأوسط الجديد”، تشير إلى شيء جديد ومميز تمامًا أو إلى تبلور ديناميكيات سابقة، فإن ما يجب أن نقوم به هو تطوير منظور، يمكن من خلاله أن نرى تأثير “الطوفان” على تطلعات الشعوب العربية نحو التحرر السياسي والاقتصادي؛ بغية إعادة صياغة علاقتها مع طبيعة الحكم القائم والقوى المهيمنة فيه بتحالفاتها الإقليمية والدولية، وهو ما عبّرت عنه في مقال سابق على الجزيرة. نت بضرورة استعادة خطاب الاستقلال الوطني.
غزة هي العنوان
من الديناميكيات المستجدة التي هي من تداعيات “الطوفان” المباشرة: الترابط والتشابك بين قضايا المنطقة بما لا يمكن معه معالجة واحدة دون أخرى، أو فصل المسارات عن بعضها بعضًا، كما كان مطروحًا من قبل.
- يرتبط مستقبل التطبيع الآن بين الحكومات العربية وبين الكيان الصهيوني، بوقف العدوان على غزة، وإطلاق مسار موثوق محدد المدة لإعلان الدولة الفلسطينية.
لا يزال المنطق الأساسي لتطبيع العلاقات مع إسرائيل قائمًا بالنسبة لدول الخليج. ومع ذلك، فإن الغضب الشعبي، وزيادة التركيز على القضية الفلسطينية، والثمن الدبلوماسي المتزايد الذي يجب أن تدفعه إسرائيل، سيؤثر ذلك على مستقبل التطبيع.
لا يزال المنطق الذي تتأسس عليه الصفقة الضمنية لدول الخليج مطروحًا: التطبيع مع إسرائيل مقابل علاقات أفضل ومزيد من النفوذ مع الولايات المتحدة، مما يسمح لها بالحصول على التزامات أمنية قوية، وتحسين الوصول إلى التكنولوجيا وأنظمة الدفاع الأميركية.
وفي حين أن منطق التطبيع يستمر في تشكيل الدبلوماسية والرسائل والدوافع، يبدو أن حرب غزة قد غيرت حدود تقييم حساب التكلفة والعائد لتطبيع العلاقات، والثمن المتزايد الذي يجب أن تدفعه إسرائيل لصالح الفلسطينيين أساسًا، وخاصة مقابل صفقة مع المملكة العربية السعودية.
ترى دول الخليج التي انخرطت من قبل في التطبيع أن احتمالات إقامة علاقة دافئة وملتزمة بالكامل مع إسرائيل، تتقلص وترتفع التكاليف المحتملة.
صحيح أن حرب غزة تؤثر على التطبيع الآن؛ لكنه تأثير – في تقديري- قصير المدى. صار التطبيع إستراتيجية مستقرة، والحديث فيه يدور حول الثمن المقبوض فقط، وليس حول المبدأ.
من المرجح أن يبقى الدمار المروع وعدد القتلى في غزة في الوعي العام للشعوب العربية، مما يمنع أي استئناف سريع لزخم التطبيع.
أشارت استطلاعات الرأي لكل من الباروميتر والمؤشر العربي إلى أن الولايات المتحدة ستواجه مشكلة في توسيع اتفاقيات أبراهام، نظرًا لتأثير حرب غزة على المشاعر العربية تجاه إسرائيل والولايات المتحدة.
- أدت الحرب في غزة وتداعياتها إلى تعطيل خطط إنشاء الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، أو ما يطلق عليه IMEC.
تهدف الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي إلى تقريب الهند ومواجهة النفوذ الصيني. ومن شأن الممر أن يوفر دفعة قوية لإستراتيجية الهند للهروب من حصار بكين، وتصبح رائدة بين الدول النامية. وفي الوقت نفسه، تتبنى الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية IMEC كجزء من سعيهما لتصبحا جسرًا اقتصاديًا بين الشرق والغرب.
على الرغم من التحديات الهائلة التي يفرضها عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، فإن الحرب في غزة وتداعياتها لم تغير الأهداف الإستراتيجية والاقتصادية طويلة المدى للمشاركين في IMEC، إلا أن نتائجها سترسم ملامح الصراع حول الممرات الدولية، ومستقبل خطوط الطاقة.
في المقابل؛ أدت الحرب الأوكرانية 2020، وحرب غزة 2023 إلى تسريع تعميق التعاون والعلاقات الاقتصادية والعسكرية والسياسية والتكنولوجية بين الصين، وروسيا، وكوريا الشمالية، وإيران. تحدد القوى الأربع على نحو متزايد المصالح المشتركة، وتوافق خطاباتها، وتنسق أنشطتها العسكرية والدبلوماسية. ويؤدي تقاربها إلى خلق محور جديد مناهض للغرب، وهو التطور الذي يغير المشهد الجيوسياسي بشكل أساسي.
لا يبدو أن هناك علاقة مباشرة بين هذا المحور وبين هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، إلا من جهة تزويد المقاومة بالسلاح، غير أنه من المرجح أن الدعم المتزايد – من بعض دوله كروسيا وكوريا الشمالية – جعل إيران أكثر استعدادًا لتفعيل وكلائها الإقليميين في أعقاب ذلك، وتوجيه ضربة مباشرة لإسرائيل لأول مرة.
- سمح الطوفان لطهران ووكلائها بمحاولة تبييض دورهم سيئ السمعة في الصراعات في سوريا والعراق ولبنان واليمن، وإعادة تأكيد أنفسهم باعتبارهم “محور المقاومة”، مما يعزز نفوذهم في المنطقة وخارجها.
هذه الحقيقة لا تمنع بروز تطورين هامين سيتركان أثرهما في المستقبل:
- الأول: ضرورة معالجة الصراعات والحروب الأهلية في الدول التي ينشط فيها هؤلاء الوكلاء، فبدون ذلك لا يمكن أن يتحقق استقرار المنطقة ككل.
أبرز الطوفان من وجهٍ ميزة وجود فواعل من غير الدول في مواجهة إسرائيل وتحالفها مع الحكومات الغربية؛ لكنه – من وجه آخر- أظهر ضرورة تسوية الصراعات والحروب الأهلية التي اندلعت على مدار العقد الماضي.
- الثاني: فعلى الرغم من دور إيران المباشر وغير المباشر في التصعيد ضد إسرائيل؛ فإن التطبيع السعودي – الإيراني قد نجا من هذا التصعيد. حرص الطرفان على الإبقاء عليه وصيانته.
فبينما تتفق المملكة العربية السعودية، والولايات المتحدة، وإسرائيل في المخاوف بشأن إيران، إلا أن المملكة العربية السعودية وإيران تشتركان – في نفس الوقت- في تصور مفاده أن الاحتلال الإسرائيلي يمثل مشكلة ومصدرًا لعدم الاستقرار الإقليمي.
تحدّى التطبيع السعودي – الإيراني فكرة أن المواجهة مع إيران هي المحرك الرئيسي في حسابات السعودية فيما يتعلق بالتطبيع مع إسرائيل.
جسَّدت الرياض وطهران الطموح لتقليل اعتمادهما على القوى الخارجية وتعزيز نفوذهما الإقليمي واستقلالهما. أدركتا دورهما الإستراتيجي في تعزيز جلب الاستقرار لمنطقة تعاني من الاضطرابات الداخلية والإقليمية على مدار عقد أو يزيد.
- لم تعد شرعية أنظمة الحكم العربية قاصرة على تلبية احتياجات شعوبهم للعيش الكريم فقط؛ بل تتأثر بشكل مباشر بمواقفهم من القضية الفلسطينية. أدرك المواطن العربي أن هذه الأنظمة كما هي مسؤولة عن معاناته في حيواته المتعددة؛ تتحمل أيضًا نتائج العجز والخذلان الذي حال دون نصرة الفلسطينيين أو على الأقل تخفيف مأساتهم.
هل بعد كل هذا نحن بإزاء شرق أوسط جديد أم شرق أوسط قديم جديد؟
أظن أن نتائج حرب غزة ستكون من العوامل الأساسية في الإجابة.