نٌشر في “فكّر تاني”- مايو 2024
يحتفل الصحفي والباحث الأكاديمي والسياسي، هشام جعفر، بعيد ميلاده الستين، بينما يُنشر حواره هذا، الذي يقدم فيه تحليلًا للوضع السياسي والاجتماعي الراهن في مصر، مقدمًا مقاربة تؤمن بأن زمن الأيدولوجيا انتهى، وأن تيار الإسلام السياسي أفل وأخفق وبات مرفوضًا، وأن الاقتصاد هو ما يحرك الفترة الراهنة، وأن الإصلاح في ملفه لا يكون إلا بإصلاح سياسي أيضًا.
وفي حواره الخاص والشامل مع منصة “فكر تاني“، يتحدث الباحث المتخصص في شؤون حل النزاعات والحركات الإسلامية، حول أوراقه وكتبه وأفكار مراجعاته الذاتية، مؤكدًا أهمية أن يجري الجميع حكومة ومعارضة نقدًا ذاتيًا، يحاول الاستفادة من دروس العقد الأخير، لإدارك اللحظة الحالية الفارقة، في سبيل تقديم تصور جديد ينهي أزمات مصر الداخلية، ويعيد لها دورها الإقليمي.
فإلى نص الحوار:
كلنا ندفع ثمن التصحير السياسي
لمن السياسة في مصر اليوم؟.. هذا عنوان أحد أبرز كتبك وهذا سؤالي الأول.
الإجابة على السؤال تحيلنا لدراسة ما جرى على مدار العقد الماضي من تصحير للمجال السياسي وإفقاره، بأشكال وأدوات مختلفة، ليس مجال التفصيل فيها الآن. لكن كلنا، دولة ونظام ومجتمع ندفع اليوم ثمن ذلك التصحير السياسي.
الدولة (وفي القلب منها النظام) تحتاج إلى موارد سياسية تستخدمها في التعامل مع التهديدات المختلفة التي تتعرض لها، سواء مهددات الأمن القومي من حولنا أو فيما يتعلق بالأزمة الاقتصادية التي نعيشها، لكن من أين لنا بهذه الموارد السياسية مع ما تعرضت له مصر من تصحير سياسي؟. نحن في مأزق كبير.
المجتمع أيضًا يعاني مما يمكن أن نطلق عليه “الإنهاك”، وإن كان يحاول التمسك بقدر من البحث عن حلول لأزماته المتعددة.
هذا المجتمع يحتاج إلى التعبير السياسي عن هذه الأزمات عبر قنوات وسطية متنوعة ومختلفة، سواء أحزاب أو نقابات أو مجتمع مدني… إلخ، من المفترض أن تساهم إلى حد كبير في بلورة مطالبه السياسية، وتسمح بالتعامل والتفاعل معها.
فقد الناس كل هذا في ظل الإصرار على الإفقار السياسي. ولذلك نحتاج في مصر اليوم إلى إعادة تعريف للسياسة، وإدراك وظيفتها.
منذ بداية هذا القرن وبشكل متصاعد، بدأت السياسة تكتسب معان جديدة، وباتت مباشرة، تحمل مطالب واضحة ومحددة من المواطنين والفئات الاجتماعية المختلفة، وهو ما أطلق عليه “سياسة المعاش” المرتبطة بالعيش الكريم للناس.
ظهر هذا في حملة المطالب بإنترنت منخفض التكلفة، التي تنامت أخيرًا، وتكرر في رفع المواطنين مطالب معيشية في عامي 2019 و2020. ومن هنا، يجب أن ندرك أن وظيفة السياسة هي إدارة “الصراعات” والتباينات داخل المجتمع بطريقة سلمية، نصل بها إلى حلول لا تؤدي إلى عدم الاستقرار أو تسفر عن أحد أشكال الاضطرابات.
الدولة تحولت إلى شبكة مصالح
في هذا الإطار.. برأيك لمن الكلمة اليوم في المشهد العام.. للحمائم والحكماء أم للصقور وأصحاب القبضة الحديدية كما يصنفهم البعض؟
هذا جزء من التصنيفات التقليدية، وكل هذه التصنيفات الآن أراها لم تعد تفيد أو تصلح لأن نفهم بها لمن السياسة بمصر اليوم؛ فالمسألة تجاوزت الحمائم والصقور، إلى فكرة الدولة ذاتها، التي تحولت من التماسك إلى الشبكية.
لم نعد إزاء تماسك في هيكل الدولة، ولكن في مواجهة شبكات مصالح متعددة ذات تدخلات وتشبيكات مع أطراف أخرى؛ بمعنى أن جزءًا من البيروقراطية العليا في الدولة له رؤيته ومصالحه التي يتفاعل فيها مع مصالح موجودة في الإقليم، وخاصة في دول الخليج، وهذه الطبقة البيروقراطية تتفاعل أيضًا مع مصالح ورؤى متعلقة بمصالح وأطراف دولية. وفي هذا الإطار الحاكم يحدث نوعًا من التشبيك حول هذه المصالح، وفي أحيان كثيرة هذه المصالح قد تلتقي مع بعضها أو تتفرق.
إذا تمكننا من فهم ما يمكن أن نطلق عليه” خرائط أصحاب المصلحة” في كل قضية، ونفكك مصالحهم في كل قضية، نستطيع حينها أن نفهم كيف تُصنع السياسة في مصر حاليًا.
يجب أن نعي أن السياسة الآن تُصنع في بوتقة الاقتصاد، وأن تحليل شبكة المصالح في الاقتصاد مسألة بالغة الأهمية، لأن في الاقتصاد -وأقصد الاقتصاد السياسي- يمكن أن نرى توجه السياسات والفئة التي تعبر عنها ومن ورائها ومن يعطي قوة دفع لها، ومن هنا نفهم أيضًا من يصنع السياسة في مصر.
لا أتحدث هنا عن رجال أعمال في مقابل الطبقة الوسطى، وإنما عن شبكات مصالح داخل الوطن وخارجه في الإقليم والعالم، تتشابك وتتضافر لتحقيق مصالحها، ومن هذه النقطة، يمكن القول إن الاقتصاد هو الذي يقود في مصر والمنطقة ككل.
عالميًا، نحن إزاء أطراف متعددة وشبكات مصالح متباينة المستويات، تساهم في صنع القرار السياسي، وهذا تجلى في العقد الأخير من القرن العشرين، حين تحدثت المؤتمرات الأممية عن أطراف فاعلة مختلفة، مثل رجال الأعمال والإعلام والحكومات والمجتمع المدني، تتفاعل فيما بينها حول قضايا محددة مثل: حقوق الإنسان والبيئة والجندر.. إلخ.
ربيع القاهرة معطل
إعادة إحياء السياسة بمصر كان أحد آمال المعارضة من الحوار الوطني ومحفز الدولة لهذه المعارضة.. فهل نجح الحوار؟
الحوار الوطني بحاجة إلى تقييم على عدة مستويات؛ فربما أعاد جزءًا من الجدل العام الذي افتقدته مصر في السنوات الماضية، واستعادة هذا الجدل العام مرة أخرى مسألة مهمة للمنطقة السياسية، وقد يكون أحدث نوعًا من الحراك لدى بعض التيارات السياسية، وخاصة في إطار الحركة المدنية الديمقراطية من أجل تقديم بدائل سياسية، كما أنه استدعى بعض الأطراف التي أبعدت خلال الفترة الماضية لسبب أو لآخر عن المشهد.
ولكنه للأسف، وهو ما يجب أن ننتبه له، وقع في إشكالية تحول بعض الأفعال ذات القيمة الأساسية، التي يمكن أن تحدث أثرًا مطلوبًا، إلى استجابات مظهرية شكلية تعتني بالشكل فقط، وهو ما يدفع للتفكير فيما أسميه “ربيع القاهرة المعطل”.
ربيع القاهرة، في نظري، بدأ في أواخر 2021، من خلال إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وامتد للحديث عن الحوار الوطني والحوار حول سياسات ملكية الدولة، وكلها مبادرات كان يمكن لها إحداث الأثر المطلوب والجيد فيما يمكن أن نطلق عليه “استعادة السياسة” إلى بر مصر، والتي تحقق مصالح النظام والدولة والمجتمع.
لكن للأسف كل هذه المبادرات تحولت إلى استجابات مظهرية، لم تنتج ما يُفترض لها في المشهد العام، أو حتى عبر تحقيق أهدافها؛ فتعطل ربيع القاهرة.
المعارضة “بلا رؤية”
نشرنا في “فكر تاني” خريطة تشكيلات سياسية جديدة ساعية لاستعادة المسار السياسي، برأيك ضخ دماء سياسية جديد مفيد في مسار استعادة السياسة كما تسميه؟
الترتيبات الحالية المتعلقة باستعادة السياسة، في تقديري، ستكون ذات تأثير محدود في الأحداث؛ ذلك لأسباب متعددة منها:
أولًا: أن الأطراف التي تمثل هذه التشكيلات الجديدة لم تتخذ خطوتها هذه بعد انفتاح سياسي فرضته بإرادتها، بل دُعيت لانفتاح منشود من بعض الأطراف، وبالتالي لم تفرض نفسها لتكوين المسار السياسي.
ثانيًا: هذه الأطراف التي يدور حولها الحديث تفتقد إلى رؤية جادة مبنية على تقييم حقيقي لما شهدته السنوات العشر الماضية، وما حدث فيها من تطورات بالغة الأهمية، وهذا التقييم غير ممكن دون حوار داخلي بين هذه التشكيلات الجديدة.
كنت أرى أن مشاركة الحركة المدنية الديقراطية في الحوار الوطني يجب أن يسبقه حوار معمق داخليًا بين أطراف الحركة، لدراسة الواقع ومعرفة سُبل تحقيق مصالحها وأهدافها.
بهذا الحوار الداخلي، كان يمكن للحركة تحقيق مكاسب مهمة لها وللمجال السياسي في الحوار الوطني، ومن هنا يمكن أن نفهم لماذا مع كل مفصل أساسي من مفاصل الحراك السياسي الذي مرت به الحركة كنا نرى خلافات داخل الحركة حول هذا الحدث مثل الانتخابات الرئاسية أو الحوار الوطني.
الحركة المدنية لم تكوّن رؤية مشتركة بعد لما جرى على مدار السنوات الماضية، وهي:
“رؤية لازمة وواجبة، والمحاولات الحالية لاستدعاء خطاب ما قبل 2010 لم تعد تصلح الآن، فقد تجاوزها الزمن، ونحن في مأزق كبير في المساحة السياسية بسبب افتقاد الرؤية من جانب المعارضة.”
ثالثًا: نفتقد كوادر سياسية مختلفة قادرة على أن تدرك، ثم تقدم رؤية حقيقية.
فلترحل أجيال السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات
في مسألة افتقاد الكوادر.. هل حان وقت تنحي جيل السبعينات عن المشهد السياسي وتسليم الراية لجيلي الوسط والشباب؟
أظن أن الأمر لا يقتصر على جيل السبعينيات فقط، بل يجب أن يطال التنحي جيل الثمانينيات الذي انتمي له، بل وحتى جيل التسعينيات، واعتبر هذا شهادة من شيخ بلغ الستين من عمره في هذه الأيام.
من فترة مبكرة، أعتقد أنه كان يجب على هذه الأجيال جميعها مغادرة مقاعدها. هذا ما فعلته بعد عام 2011، حيث أدركت أننا إزاء تطور بالغ الأهمية يجب أن تتحول فيه أدوارنا إلى أدوار أخرى، أقرب إلى تقديم الخبرة والاستشارة غير الملزمة لأحد.
هذا زمن جيل زد الذي لا نفهمه
لا يجب بأي حال من الأحوال لهذا الجيل أو الأجيال الأخرى حتى منتصف عقد التسعينات أن يزاحم الأجيال الجديدة، خاصة ما يطلق عليه “جيل زد”، وما تعاقبت عليه من أجيال.
نحن إزاء مشهد جديد له آليات جديدة وطريقة تفكير جديدة. وأتصور أنه إلى الآن، مصر كدولة ومجتمع ونخبة، غير قادرة على تقديم قراءة ورؤية لما يجري سواء داخلها أو في العالم. ولهذا، أقول: “نحن بصدد جمهورية جديدة، ليست الجمهورية التي يشير إليها الرئيس عبد الفتاح السيسي، وإنما جديدة يحدث فيها شكل من أشكال التفاعلات غير المرئية التي لا ندركها، وهذه التفاعلات غير المرئية هي نتيجة افتقادنا إلى صحافة حرة قادرة على أن تعكس نبض ما يحدث في المجتمع، وافتقادنا إلى البحث العلمي، وافتقادنا إلى مجال عام مفتوح يسمح بالتفاعلات، ولدي في هذا الإطار مثالين شديدي الدلالة”، هما:
أولًا: تغير أنماط التدين لدى الشباب بما يتجاوز أطروحات الحركات الإسلامية أو حركات الإسلام السياسي.
ثانيًا: التفاعلات الدائرة بالتزامن مع مأساة غزة، وهي تفاعلات بالغة الأهمية، ويجب أن ننتبه لها بتكوين سياسات حكيمة تدركها وتفهمها، لأننا إزاء كتلة غضب شديدة تموج بها الأجيال الشابة.
هذه الكتلة الشبابية الغاضبة تتفاعل على السوشيال ميديا لا الواقع، وبالتالي يتم تجاهلها، ولكننا سنُفاجأ بتوابع كتلة الغضب هذه، مع استمرار معاناتها الذاتية ومعاناة أسرها في ظل الأزمة الاقتصادية، وأيضًا في ظل ما يجري في غزة من توحش وإبادة جماعية، تغذي كتلة الغضب هذه. وكل ما أخشاه أن كتلة الغضب هذه يمكن أن يختطفها خطاب ديني متطرف أو خطاب سياسي ردايكالي. حينها، سندفع جميعًا الثمن إلا إذا تنبهنا وعالجنا هذا التجاهل مبكرًا.
أذكر ما حدث في الجزائر عام 2019، عندما فؤجئ المراقبون بالحراك الشبابي الكبير (شهدت الجزائر خروج ملايين الجزائريين للشوراع، اعتبارًا من 22 فبراير 2019، للاحتجاج سلميًا ضد الولاية الخامسة للرئيس الراحل بوتفليقة، والمطالبة بتغيير جذري للنظام)، حيث قال أحد المراقبين هناك، قولًا لن أنساه: “هذا شباب لم ندرسه ولم نفهمه”.
انتهى زمن الأيديولوجيا
رصدنا في حوارات”فكر تاني” اتجاه التشكيلات الجديدة لتكوين أحزاب برامجية أو ذات بعد وطني جامع بلا أيديولوجيا.. برأيك، هل انتهى زمن الأيديولوجيا بمصر؟
زمن الأيديولوجيا انتهى في العالم كله، وكان التدشين الأساسي الذي لم نلتقطه في مصر منذ عام 1990 عقب سقوط الاتحاد السوفيتي، حيث بات العالم إزاء نمط آخر مختلف كليًا، يؤمن بضرورة أن الاقتصاد هو الذي يجب أن يقود، و”هذا معناه لدي أن زمن الأيديولوجيا انتهى”.
التشكيلات السياسية التي تقول إنها تسعى لنمط جديد بعيدًا عن الأيديولوجيا، جاءت متأخرة، ولولا حضور الأيديولوجيا بعد ثورة 25 يناير 2011، ما كان للانقسام حضور.
حراك 2011 تجاوز الأيديولوجيا، وهو ما لم يدركه السياسيون، ولهذا أيضًا لم تنجح محاولات اختطاف هذا الحراك لصالح جماعات أيديولوجية مختلفة.
الأمر الأساسي الآن هو ألا نكتفي بادعاء تجاوز الأيديولوجيا، ولكن كيف نصيغ البرامج السياسية والسياسات البديلة والانحيازات الاجتماعية الواضحة؛ فأحد وظائف المؤسسات السياسية الواضحة بمصر بلورة المطالب السياسية لأي فئات اجتماعية محددة والضغط لتحقيقها.
وللأسف، تظل السياسة في عالمنا العربي وفي مصر بشكل خاص “سياسة ثقافية” تركز على الجدل الثقافي أو ما أطلق عليه الباحث الأكاديمي الأمريكي ناثان براون “جمهورية الجدل”، حيث يرى أننا نتجادل كثيرًا ثقافيًا دون جدوى على السياسة نتاج افتقادنا الهياكل السياسية أو المؤسسات السياسية القادرة على تحويل هذا الجدل إلى سياسات عامة ذات تأثير.
3 تحديات أمام الحركة المدنية
هل ينبغي للحركة المدنية أن تغادر مقاعدها للتشكيلات السياسية الجديدة؟
دعنا نؤكد أن السياسة في مصر في الفترة المقبلة يجب أن تكون ذات انحيازات اجتماعية واضحة، ومن هنا تأتي الإجابة على هذا السؤال.
أحد أهم إشكاليات الحركة المدنية أنها تضم انحيازات اجتماعية متعددة، جمعتها فقط في البداية مناهضة الإخوان، بينما لا يزال بعض هذه الأحزاب عالقًا في لحظة التأسيس الأولى، دون إدراك أهمية الانحياز الاجتماعي.
ولذلك، كانت محاولة تدشين التيار الحر الذي تبناه الأستاذ هشام قاسم، بانحياز اجتماعي محدد، محاولة مميزة. ولكن، يبقي السؤال: هل سنشهد إعادة اصطفاف مرة أخرى على أساس انحيازات اجتماعية واضحة أما لا؟
التحدي الثاني في مستقبل الحركة هو أن لها أيضًا وظيفة مستمرة ومطلوبة بحكم السياسة، وهي محاولة الضغط على النظام لإعادة فتح المجال العام واستعادته. ولكن، السؤال أيضًا: كيف ستمارس الحركة هذه الوظيفة وعلى أساس أي رؤية؟
التحدى الثالث في مستقبل الحركة يتوقف عند مدى قدرتها على التعامل مع الانتخابات البرلمانية القادمة في 2025، وتكوين ائتلافات انتخابية بشكل يساعدها على استكمال مسارها، والسؤال هنا: هل ستتكرر تجارب الانقسام كما حدث في الانتخابات البرلمانية عام 2020، وانتخابات الرئاسة الأخيرة، أم أن الحركة استفادت مما سبق ولن تكرر الأخطاء ذاتها؟
مشكلة اتحاد القبائل العربية تتعلق بالسياقات
أثير الجدل في الأيام الأخيرة حول تدشين اتحاد القبائل العربية ما بين معارضٍ وموالٍ.. كيف ترى هذا الكيان الجديد؟
المشكلة الأساسية في هذا التدشين متعلقة بالسياقات، وهذه السياقات هي التي تخلق تحديات للدولة المصرية.
السياق الأول يتعلق بما يتردد حول الميليشيا، وهنا يوجد من يستدعي بمنطقية تجارب أخرى حولنا في الإقليم سواء قوات الدعم السريع في السودان، أو قوات حفتر في ليبيا، أو الانقسامات الموجودة في اليمن، وهذا الأمر مرفوض قانونًا ودستورًا ومنطقًا سياسيًا.
السياق الثاني يتعلق بالإجابة على تساؤل: لماذا هؤلاء فقط؟ فإتاحة الفاعلية أمر مهم للجميع في المجتمعات من أجل التعبير عن التعددية والتنوع، ولكن ما يحدث حاليًا مصادرة للتنوع والتعددية في مجال وفتح للتعددية والتنوع في مجال آخر.
السياق الثالث بالغ الأهمية هو أن المنطقة التي شهدت هذا التحول هي منطقة رخوة بالنسبة لسلطة الدولة غير الفاعلة بشكل ما في هذه المساحات، بما يحمل تهديدات للأمن القومي المباشر، ويفرض أسئلة عن الفائدة من تكوين اتحاد القبائل العربية.
السياق الرابع هو غياب الشفافية والحوكمة الرشيدة، فمن أين تأتي التمويلات ومن يغذيها… إلخ؟
ومن هذه المحددات يمكن أن نفهم لماذا يوجد قلق حقيقي لدى قطاعات كبيرة من النخبة المصرية والجماهير.
مصر “رجل المنطقة المريض”
بناءً على ما سبق، كيف ترى صيغة الحكم المناسبة لاستقرار مصر خلال الدورة الرئاسية الثالثة والأخيرة وفق الدستور؟
سؤال صعب، لأنه يتعلق بسياسات النظام نفسه، ومدى تقبله لفتح المجال السياسي من عدمه. النظام في مصر هو من يملك وحده الإجابة على هذا السؤال.
وأقول إنه في السنوات الست القادمة ينبغي الآتي:
أولًا: فتح المجال السياسي؛ فقد تبين بما لا يدع مجالًا للشك، أن السياسة المتبعة في العقد الأخير لم تجد نفعًا، ولم تحفظ أمننا القومي، وحتي الحديث عن استقرار الدولة المصرية أصبح محل تساؤل، وإلا فلماذا تحرك صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي لتقديم كل هذا الدعم، سوى استشعار أن مصر باتت “رجل المنطقة المريض” وبصدد الانزلاق إلى عدم الاستقرار؟
أتصور أن المجال السياسي ينبغي أن يحكمه عدد من القواعد الأساسية والقيم الحاكمة، والمطلوب أن نتحاور حول ما يجب أن يحكم هذا المجال من قواعد وقيم، مع المحافظة على مساحات التنافس السياسي، لا الدعوة إلى وقفها أو تقنينها أو طرح هدن سياسية.
ثانيًا: تطلعات المواطنين للعيش الكريم يجب أن تُدمج في سياسات النظام الاقتصادية، لأن ما هو مطروح يدور حول سياسات نيوليبرالية، تؤدي -وللأسف- إلى إنهاك الناس وفقدهم العيش الكريم، كما تؤدي إلى مزيد من سوء توزيع الثروة والدخل وغياب الفرص، وزيادة فقر الفقراء وغنى الأغنياء.
لا إصلاح اقتصادي دون آخر سياسي
هناك جدل كبير بين القائلين بإمكانية الإصلاح الاقتصادي دون إصلاح سياسي والمختلفين معهم.. ما تقييمك؟
التجربة التاريخية هي الفيصل في الحكم؛ فمنذ عشر سنوات نتحدث في مصر عن إصلاح اقتصادي دون إصلاح سياسي، ماذا حدث؟
لم ننتج إصلاح اقتصادي بعد، ولذلك سنعود إلى التأكيد على أن السياسة هي التعبير عن مصالح فئات اجتماعية متعددة، مثل الفلاحين والعمال والمهنين، وبالتالي، لن ينعكس التعبير عن المصالح الاقتصادية لهؤلاء وغيرهم دون فتح المجال السياسي.
أنا لا أفهم فتح المجال السياسي على أنه متصل بالحريات فقط، ولكن أفهمه بكونه تعبيرًا عن مصالح الفئات الاجتماعية المختلفة، بما يؤثر على السياسات العامة للدولة وأولويات الإنفاق العام، هذا هو المعنى الحقيقي للسياسة.
تيار الإسلام السياسي أفل وأخفق وبات مرفوضًا
في 17 سبتمبر 2023، قلت إن زمن تيار الإسلام السياسي انتهى، وفشل الإسلاميون في المنطقة.. هل لا تزال مؤمنًا بهذا؟
بل مُصر على ما قلت، ولا يمكن أن يخرجني أحد عن هذا الإصرار، ولي منطقي، ومن يريد أن يتحاور معي فليتحاور وفق هذا المنطق.
أولًا: أنا أنفي صفة “الاستثناء” في الممارسة السياسية عن تيار الإسلام السياسي، وهي الفكرة التي يحاول البعض أن يروج لها حصرًا للإسلاميين، فهم يجب أن يمارسوا السياسة دون أي استثناء لهم، ولكنني أراهم كغيرهم يجري عليهم ما يجري على الجميع من نجاح وإخفاق وظهور وأفول.
وأزعم أن خروج قطاع كبير من المصريين ضد الإخوان المسلمين بالتحديد في عام 2013، كان خروجًا عليهم باعتبارهم فاعلًا سياسيًا أخفق، وليس باعتبارهم فاعلًا دينيًا؛ فالدين لا يزال يلعب دورًا مهمًا في حياة المصريين.
ثانيًا: ثبت إخفاق تيار الإسلام السياسي وانتهاء سرديتهم الأساسية، لأننا إزاء سياقات جديدة، تفرز فواعل سياسية جديدة، وإزاء تدين شبكي جديد يدور في شبكات التواصل الاجتماعي، وصراع شديد حول من يمثل الإسلام في المنطقة، وتطورات جذرية بالنظام الدولي.
ثالثا : طوال تجربة الاسلاميين في الحكم في السنوات الماضية – وهم قد تبوأوا مراكز الحكم في بعض بلدان المنطقة – لم يستطيعوا أن يستوعبوا تطلعات المواطنين سواء في مصر أو في غيرها، في العيش الكريم، ولم يستطيعوا توفيره لهم.
تيار الإسلام السياسي يفتقد النقد الذاتي
ولكن تيار الإسلام السياسي لا يعترف بهذا الإخفاق الكبير في عدد من دول المنطقة منها مصر والمغرب وتونس، ولم يقدم نقدًا ذاتيًا مؤسسيًا كما يرى البعض.. ما تعليقك؟
الإيمان بالاستثنائية لديهم يصادر إمكانية النقد الذاتي.
أنا متابع كبير لحركة الإسلاميين في المنطقة، في ظل ما يُطلق عليه “الربيع العربي” وما بعده، ويمكن أن أقول إن هناك مبادرات فردية للنقد الذاتي، ولكنها غير منظمة، ولم تُحدث أي نوع من التأثير على أحزابها وهيئاتها السياسية.
وأرى أن الإشكالية الكبرى تكمن في عدم التجديد الفكري إلى الآن، بمعني أن السرديات الأساسية التي قام عليها تيار الإسلام السياسي في القرن العشرين انتهت، وليس هناك قدرة على تجاوز هذه الأساسيات إلى اليوم، بل حتى في ظل العدوان على غزة، استحضر البعض خطابات على أرضية إسلامية وقومية تطرح أفكارًا طواها الزمن، مثل: نحن والغرب، والحرب الصليبية، رغم أن هناك حراكًا في الغرب أقوى ألف من مرة مما يتواجد بين حين وآخر في المنطقة.
التحدي الأساسي الآن للاسلام السياسي
وفق سرديتك هذه، ماذا بعد الإخوان وتيار الإسلام السياسي في المنطقة؟
لا أستخدم لفظ “ما بعد” كثيرًا، لأنني أعتقد أنه دائمًا في الفترات الانتقالية يحدث شكلًا من أشكال الامتزاج والتداخل، بما يعني أن الجديد لم يتبلور بعد، والقديم لم ينته بالكلية بعد، ولذلك نحن إزاء تداخل يحدث في مساحات معينة، يوفر مساحة لعدم اختفاء تيار الإسلام السياسي بشكل كامل، واستمرار وجوده بشكل ما على قواعد صلبة وكيانات تواصل تأكيد حضورها وأفكار تستمر في طرح نفسها.
والسؤال الذي يلاحق ما هو موجود حاليًا: هل سيحقق ما تبقي من تيار الإسلام السياسي قبولًا اجتماعيًا واسعًا، يجذب قطاعات لتبني خطابه من جديد في عموم الفئات الاجتماعية أم سيخفق أيضًا؟.
هذا هو التحدي الأساسي الآن.
التيار السلفي انتهى حتى في معقل الوهابية
هل استطاع حزب “النور” في مصر ملأ فراغ الإسلام السياسي؟
إذا كنا نتحدث عن أن الإسلام السياسي في مرحلة إخفاق وأفول، فإن هذه التيارات أيضًا تم تجاوزها، وفكرة القبول الاجتماعي لديها انتفت.
الإخفاق والأفول لم يطل الإخوان والإسلام السياسي في جزء منه وحسب، ولكنه طال التيارات السلفية كذلك.
انظر إلى السعودية -المعقل الرئيسي للوهابية في المنطقة- إنها تعيد الآن صياغة علاقاتها بالسلفية مرة أخرى من مدخل متعلق بالاقتصاد، وهي تريد الاندماج في الاقتصاد العالمي، وبالتالي فالخطاب الوهابي لم يعد مناسبًا للمرحلة.
تحدثت عن هذا بالتفصيل في كتابي “الصراع على روح الإسلام في المنطقة العربية”، وذكرت عدة ظواهر في مستقبل الحالة الإسلامية.
طوفان الأقصى والإسلاميون
في هذا السياق، هل تشكل معركة “طوفان الأقصى” قُبلة حياة للإسلاميين في دول المنطقة؟
هذا يمكن أن يرتبط بما أشرنا له من إمكانية تقديم الإسلاميين لأنفسهم في دول المنطقة، هل ستكون استجابتهم مختلفة أم استجابة بذات المنهجية القديمة.
توقعي فيما أشاهده، أن “الإسلامية” كفكرة ستظل محل قبول مجتمعي لا يمكن تجاوزه، ولكن التعبيرات السياسية عن هذه الفكرة ستظل في مكانها القديم. وبالتالي، ستتواصل الفجوة وعدم الحضور المؤثر.
هل يمكن أن تصحح معركة “طوفان الأقصى” مسار البندقية، وتقوض أفكار “الداعشية” والعنف المسلح المنطلق من أفكار دينية متطرفة؟
للأسف، توقعي أن النزعة القتالية في الحالة الإسلامية ربما تتصاعد وتكتسب أشكالًا أخرى، خاصة في ظل وجود مساحة غضب لدى الشباب، مع عجز في الاستجابة العربية للتعامل مع العدوان المتوحش في غزة، ولأن المشهد الذي يبدو فيه طوفان الأقصى ممتلئ بهجمة شرسة من بعض الحكومات الغربية وخاصة التحالف الأمريكي البريطاني الفرنسي الألماني، وهذا من شأنه زيادة النزعة القتالية، للأسف.
ولذلك كنا ولا نزال دائمًا نقول إن فتح مساحات للتعبير عن الغضب الجماهيري والشبابي، يستوعب مساحات الغضب ضرورة، ولكن للأسف تتم مصادرة هذه المساحات في كثير من دول المنطقة، لدرجة أننا ندرك الآن ذكاء نظام مبارك مثلًا -رغم ما عليه- في إدراك أهمية تلك المساحات للتنفيس والاستيعاب والاحتواء.
إن حالة العجز العربي مع مصادرة السياسة في المنطقة العربية خطر كبير أحذر منه، لأنه سيؤدي إلى جذب قطاعات إلى النزعات القتالية، للأسف.
أظن أن المنطقة مقبلة على حالة من عدم الاستقرار على مدار العقد القادم في حال استمر الوضع على ما هو عليه.
اقرأ أيضًا: الحشاشين.. الدراما والتاريخ والفلسفة
تجديد الخطاب السياسي قبل “الديني”
نذهب إلى مطالب تجديد الخطاب الديني.. وما شهدته الأيام الماضية من ضجة كبيرة حول تأسيس مركز “تكوين” الثقافي لهذا الغرض.. ما تعليقك؟
هناك نقطة محورية في هذا الإطار، وهي أن التجديد يجب أن يتم في الخطاب السياسي قبل الديني؛ فالديني في علاقة طردية مع السياسي، يتجدد بتجدده، وإن كان السياسي لا يتجدد بتجدد الديني.
اختصارًا، التجديد يجب أن يطال البنى والهياكل الواقعية، وليس المسألة الثقافية، وهذه من الدروس الأساسية التي استخلصتها من خلال حركة المراجعة الذاتية التي أجريتها على مدار 3 سنوات ونصف السنة في السجن، حيث انشغلنا بالمسألة الثقافية عن تجديد الخطابات السياسية والهياكل السياسية والبنى السياسية والبني الواقعية المتعلقة بالاقتصاد والمجتمع، فاستمر الوضع على ما هو عليه من دوران في حلقة مفرغة.
الحديث الدائر الآن حول تجديد الخطاب الديني أظن أنه مجرد رطانات وصراع حول النفوذ والسياسة، وهو ما ثبت فشله، ولقد سمعنا ذلك الحديث منذ كنا أطفالًا، وبقى دون جدوى.
دعاوى تجديد الخطاب الديني لن تحدث أثرًا ولا نتيجة، لأنها متلبسة بالصراع والنفوذ السياسي، وبنخب لا تملك القدرة والإمكانية على إحداث هذا التجديد، فضلًا عن مساندتها من قوة دفع إقليمية ودولية تريد أن تعيد صياغة قيمنا السياسية وثوابتنا السياسية عبر “تسييل المجال الديني”، بمعنى أنها تُحدث سيولة في المجال الديني كي تُحدث هيكلة ترغب فيها للمجال السياسي.
وسأضرب مثالًا بما يحدث الآن في مأساة غزة، في تعريف “من العدو؟”، فقد أصبح واضحًا للجميع من العدو، ورغم ذلك يحاول البعض” تسييل المجال الديني” لإعادة هيكلة المجال السياسي، بتغيير تعريف من هو العدو.
هذا الشكل المطروح يثير أزمة قديمة وتحديًا تحدثنا عنه كثيرًا، وهو أن تكرار هذا السياق المأزوم يثير حفيظة المحافظين في المؤسسات الدينية والمتدينين في المجتمع على السواء، ويعرقل تمامًا أي محاولة حقيقية للتجديد، سواء في إطار المؤسسات الدينية أو في إطار الفضاء الإسلامي العام، مما يدفع إلى تراجع التجديد.
وأظن أن ردة فعل الأزهر من هذا القبيل، في وجه الحملات المتكررة لتجديد الخطاب الديني، فهو يريد أن يحافظ على ثوابت الدين كما يدركها ويعرفها، وفي مثل هذه السياقات المأزومة تكون ردة فعل الأزهر مقبولة اجتماعيًا، خاصةً وأن التهديد ليس متعلقًا بالثوابت الدينية أو المسألة الدينية، ولكن متعلق كذلك بالتهديد السياسي والتهديد الحضاري، وهو ما يظهر جليًا في مأساة غزة، مع استدعاء خطاب الحروب الصليبية، وخطاب معاداة الغرب.
الأزهر في سياق معقد
البعض يرى أن الأزهر تأخر في أخذ زمام المبادرة في مجال تجديد الخطاب الديني.. كيف تُعلق؟
الأزهر في سياق مركب ومعقد، وهو مرتبط بسياق العقد الماضي، الذي تعامل معه شيخ الأزهر الشيخ أحمد الطيب بذكاء شديد وفق تقديري، وقد كتبت في هذا المعني مقالًا بعنوان “الطيب.. امتلاك الذات حصن الاستقلال”.
الشيخ الطيب حاول طوال الفترة الماضية أن يسير على خط رفيع من الاستقلال للأزهر كمؤسسة تاريخية، منوطة وفق الدستور والقانون، بأن تحافظ على تعاليم الإسلام وثقافته، إلى جانب انفتاحه على العالم عبر إصدار العديد من الوثائق المتعلقة بالتعايش والتسامح في مواجهة هجمة شرسة على المستوي الدولي فيما يتعلق بهذا الجانب، وفي الوقت نفسه يحاول المحافظة على استقلاله بعيدًا عن أي سيطرة.
وقد استجاب شيخ الأزهر لدعوة التجديد ولكن في إطار ضوابط حاكمة.
وهنا، يجب أن أشير إلى أنه في سياق تصحير السياسة، يتحول كل خطاب إلى فعل سياسي، وهذا ما جعل مؤسسة الأزهر تتحمل عبء غياب السياسة، فأي خطاب يتحدث به فضيلة الإمام يتحول إلى خطاب سياسي، رغم أنه ليس مقصودًا به أن يكون خطابًا سياسيًا، وإنما يحدث هذا لغياب السياسة.
التعددية واجبة حتى في الخطاب الديني
هل الخطاب الديني الإسلامي تحديدًا يحتاج إلى إعلاء فكرة الجماعة الوطنية؟
شخصيًا ناديت بهذا، وكتبت فيه تحت عنوان “نحو مجال إسلامي ديني حر ومستقل”، وفكرتي الأساسية، أنه إذا لم يتم الاعتراف بفكرة التعددية كفكرة وثيقة بالحالة الدينية سواء الإسلامية أو المسيحية، سيكون تفكيرنا تقليديًا وسنظل في مساحة الصراعات والتنافس القائمة بين تصورات وأنماط متعددة للتدين.
على الأزهر أن يلعب دورًا في إعادة صياغة تصوره حول المجال الديني، وهو دور مطلوب منه باعتباره أحد مؤسسات الدولة المصرية.
لا يمكن لدولة أو لسلطة أو مؤسسة دينية أن تسيطر أو تتحكم في المجال الديني؛ فهو مجال متعدد على مدار تاريخنا الحضاري، وتعدد المذاهب أحد أشكاله، وتعدد أنماط التدين في الشكل الراهن أحد مظاهره، ومحاولة مصادرة هذا التعدد أو التحكم فيه أو السيطرة عليه لن ينجح بأي حال من الأحوال، وإن نجح سابقًا في سياقات بعينها متعلقة بالخمسينيات والستينيات.
أقول إن اليوم مختلف ولن يستطيع أحد التحكم في المجال الديني كما كان يحدث في الماضي.
ومن هنا، نريد صياغة علاقة بين المجالين الديني والسياسي. وأرى أنه لا يمكن أن نوظف المجال الديني في صراع سياسي، وهو ما يجب أن تنشغل به النخب المصرية ومؤسسات الدولة فيما هو قادم من أيام.
ملف الحريات ومبادرة نجاد البرعي
تحدث عنك الحقوقي نجاد البرعي عضو مجلس أمناء الحوار الوطني خلال طرحه لتشكيل لجنة حقوقية لمعالجة أزمات المفرج عنهم.. ما رأيك في مبادرته؟
في تقديري هذه مبادرة محمودة، وهي وغيرها من المبادرات التي تسير في الاتجاه نفسه من الإفراج عن سجناء الرأي أو التسوية القانونية للمفرج عنهم، لكنها تظل مبادرات تحتاج إلى امتلاك تصور شامل لما يجب فعله على أرض الواقع.
أثمن بذل أي جهود في مساحة التعامل مع هذا الملف، سواء كانت فردية أو من مجموعات، ولكن إذا تحدثنا عن الدولة، فينبغي أن يحسم النظام سياساته في هذا الملف وأن يبني قواعد أساسية في معالجة هذا الأمر، لأننا إزاء ملف أنهك المجتمع والدولة ونال من مصداقيتها على المستوى الدولي، وسيكون له تداعي خطير مع استمرار غياب مساحة العدل.
والأمر ليس متعلقًا بمساحة العدالة في المسائل السياسية فقط، أو حرية الآلاف من نزلاء السجون أو المفرج عنهم، أو مصادرة أموال البعض أو منع السفر للبعض الآخر أو حتى ما يتعلق بحق زوجتي الأكاديمية في تنفيذ الأحكام الصادرة بحقها وتعطيلها بالجامعة لأسباب سياسية، ولكنه أمر يتعلق أيضًا بانتشار الظلم داخل المجتمع في مستويات متعددة.
الأمر متعلق بمسائل العدالة في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، لأننا إزاء تفاوت داخل المجتمع في الفرص والدخل والثروات.
هناك 40% من المصريين تحت خط الفقر، لا تكفيهم إجراءات الحماية الاجتماعية الحالية، التي لا تؤدي إلى تغيير حقيقي في أحوال الفقراء والمهمشين.
التعامل بقواعد عامة مهم لفكرة الدولة
البعض يتحدث عن صعوبة الاستجابة الحكومية لمبادرات “تصفير السجون” المطروحة في الفضاء العام بسبب استثناء سجناء الإسلام السياسي.. ما تعليقك؟
أعود هنا إلى فكرة الاستثناء، ليكن السؤال: هل سيتم التعامل مع هؤلاء السجناء باعتبارهم مواطنين أم لا؟ ولا أحد يمكنه الإجابة هنا سوى مؤسسات الدولة.
المهم بالنسبة لفكرة الدولة، أي دولة، هو بناء سياسات عامة في أي ملف بلا استثناءات، تطبق على الجميع.
وكما تعلمنا؛ القاعدة القانونية عامة ومجردة، فلابد في هذا الملف من بناء القواعد القانونية وإعلاء مبادئ المواطنة. وقد حذرت مرارًا من أن فكرة الدولة الحديثة تمارس استثناءات متعددة ليست متعلقة فقط بمسألة الحريات السياسية، ولكن أن نراها في فكرة المهاجرين في أوروبا وأمريكا، والذين يتعاملون معهم على أنهم “استثناء”، وهذه عقبة في فكرة الدولة الحديثة ذاتها، وإلا لماذا نشطت حركة “حياة السود مهمة” إلا لأنها تعبير عن رفض الاستثناء.
زوجتك الأكاديمية الدكتورة منار الطنطاوي، تعتبرها مؤسسة “حرية الفكر والتعبير” أحد ضحايا أزمة إهدار الحريات الأكاديمية بالجامعات المصرية.. ما تطورات الأزمة؟
أزمة زوجتي أمر يجب أن تترفع عنه الدولة المصرية، فلا يمكن أن نلجأ لمؤسسة القضاء، ونحصل على حكم نهائي وبات من المحكمة الإدارية العليا بعدم الاعتداد برفض ترقيتها لدرجة أستاذ، التي حُرِمت منها، بسبب الرفض الأمني، ولا يتم تنفيذ الحكم إلى الآن لأسباب سياسة لا تزال متصلة بدفاعها عن حريتي أثناء فترة سجني.
نحن نتكلم عن ولاية رئاسية جديدة، وجمهورية جديدة، إذن، يجب أن يكون هناك إقرار لسيادة القانون واحترام لأحكام القضاء. هذا لا يليق، وغير مقبول بأي حال من الأحوال أن تستمر تلك الانتهاكات وغياب الحريات الأكاديمية بالجامعات المصرية.
احتجاجات أمريكا تُعيد تشكيل المشهد
عقد البعض مقارنة بين الجامعات الأمريكية والمصرية.. كيف ترى المشاهد القادمة من جامعات عريقة مثل كولومبيا؟
أرى الأمر من زاوية مختلفة؛ هذا مشهد طبيعي للاحتجاج في الوقت الحالي، حيث نشهد نمطًا مختلفًا من الاحتجاج عن الأنماط التي شاهدناها من قبل في انتفاضات الربيع العربي أو “حياة السود مهمة” أو مناهضة الحرب على العراق في 2003.
هناك نمط جديد للاحتجاج له خصائص جديدة، سيساهم في إعادة تعريف السياسة، التي ستتأثر بتشكيل الجيل الشاب الجديد وخصائصه وصفاته، وفكرة التعددية التي يؤمن بها، ووحدة الأهداف المشتركة وتحديدها في مطالب واضحة وقابلة للتنفيذ، وقدرة الشبكية على التحريك في ظل عدم وجود قيادة مركزية.
ومع ذلك، لا تزال قدرة هذا الجيل على تغيير المشهد السياسي ضعيفة، في ظل قدرة المؤسسات داخل الدول القوية على استيعاب هذا الحراك، حتي في ظل الأنظمة التي يطلق عليها “ديمقراطية” كالنظام الأمريكي الذي نحتاج إلى إعادة توصيفه من جديد بعد العدوان على غزة.
يجب على الجميع أن يتوقف عند هذه المشاهد، لأن تداعياتها سيكون لها ما بعدها.
العدالة الانتقالية إقليميًا مرتبطة بموازين القوة
بحكم تخصصك في حل النزاعات.. هل يمكن أن يكون لتفعيل مسار العدالة الانتقالية فائدة في حل الأزمات السياسية بالمنطقة ما بعد الربيع العربي؟
للأسف، العدالة الانتقالية بحاجة إلى سياقات مساندة، وهي تتأثر بموازين القوة بين الأطراف المختلفة المتفاعلة.
ملف العدالة الانتقالية هو تعبير عن موازين القوة التي يمكن أن تدعم هذا الملف أو تناهضه، وظني أن هذه السياقات لم تتوفر بعد، وإذا تم التعامل وفق السياقات الحالية فلن يتجاوز الأمر المظهرية الشكلية الخالية من المضمون الحقيقي.
في تجربة تونس -على سبيل المثال- بعض السياقات توافرت، فأعطت قوة دافعة في المرحلة الأولى من تنفيذ العدالة الانتقالية، ولكن كل شيء تراجع بعد ذلك وتم إفراغه من مضمونه.
ويبقى نجاح تجارب جنوب إفريقيا ورواندا وغيرهما مرتبط بتوافر سياقات داعمة لها، وبالتالي، أعتقد أنه مع عدم إجراء تسويات بين الأطراف الفاعلة في المنطقة يستمر عدم الاستقرار لعقد جديد.
تجربة البلشي إيجابية ورسالة للدولة
ترشحت نقيبًا للصحفيين من محبسك.. كيف ترى النقابة في عهد النقيب الحالي الكاتب الصحفي خالد البلشي؟
أرى أن البلشي قدم تجربة إيجابية وجيدة، يحاول فيها أن يستعيد دور النقابة على مستويات متعددة، سواء الأدوار الاجتماعية والاقتصادية أو محاولة استرداد دور النقابة الوطني، وأن تكون ساحة لاستعادة النقاش والجدل، إلى جانب دوره المهم في استعادة الحريات.
إشارات هذه التجربة يجب أن تلتقطها الدولة؛ فهي تجربة ذات رسالة سياسية بالغة الأهمية، مفادها أنه يمكن أن نعبر عن مصالح فئات اجتماعية دون أن يكون هناك صدام مع الدولة. وهذه رسالة مهمة لبعض أطراف الدولة، بأنه ليس بالضرورة أن كل سياسة لا تسيطر عليها ولا تتحكم فيها تحمل ما يمكن أن نطلق عليه “نفسًا مناهضًا” للدولة، بل على العكس قد تكون مساعدة للدولة.
الملمح الإيجابي الآخر هو أن تجربة الصحفيين يمكن أن تفتح الباب لباقي النقابات المهنية المختلفة كشكل من أشكال استيعاب التواترت المجتمعية الموجودة، لأن هذا دور المؤسسات الوسيطة مثل الأحزاب والنقابات وغيرها، بما يؤدي إلى صرف هذه التواترات في إطار سلمي، دون خلق شكل من أشكال عدم الاستقرار.
وهنا أقول أن من يرى في نفسه إمكانية تحقيق الاستقرار بالسيطرة والتحكم غير مدرك للحظة، وأن استقراره مؤقت قابل للانفجار في أي وقت، وأن فتح المجال العام هو شرط رئيسي للاستقرار واحتواء جزء من التوترات الموجودة في المجتمع في إطار مؤسسات وسيطة يمكن أن تخفف حدة الاحتقانات.
لا صحافة بلا حرية
لك تجربة صحفية مهمة.. كيف ترى مستقبل الصحافة المصرية في ظل الوضع الراهن؟
أعتقد أننا إزاء مشهد مرصود منذ عام 2019، يحمل قدرًا من التطور الإيجابي، من حيث أن لدينا العديد من المبادرات التي تحاول تقديم صحافة مستقلة قادرة على أن تعبر عن جزء مهم من أصوات الناس والمجتمع، وهذا جزء مهم من رسالة الصحافة، يحتاج إلى استكمال.
ولكن الصحافة قرينة الحرية، ولا صحافة ولا إعلام بلا حرية، وبمقدار ما تتسع مساحة الحرية بمقدار ما نرى من مساحة الصحافة الحقيقية.
في مصر بحاجة إلى تجديد الجدل العام في موضوعاته وقضاياه ونخبه ومقارباته، خاصة في ظل أن العالم يعيش في حالة “عدم يقين استراتيجي”، وهو ما يستدعي حوارًا دائمًا، والصحافة الحرة المستقلة قادرة على إجراء هذا الحوار ورعايته.
نحتاج إلى حسم خياراتنا تجاه تركيا وإيران
فيما يخص الوضع الإقليمي.. كيف ترى تطورات العلاقات المصرية التركية؟
أظن أن الدولة المصرية تحتاج إلى حسم خياراتها فيما يتعلق بسياسياتها الإقليمية، وفي هذا الإطار، هناك دولتين من الدول الأركان لابد من إعادة النظر إليهما: تركيا وإيران.
في الملف التركي، استطاعت الدولة المصرية أن تحسم خياراتها، ولكنها في الملف الإيراني لا تزال متأخرة في حسم تصوراتها.
والسؤال الرئيسي الآن: هل نحن قادرون على الاستفادة من العلاقات المصرية التركية في المسألة الاقتصادية على الأقل أو الملفات الإقليمية الأساسية، مثل ليبيا وإثيوبيا والصومال؛ فتركيا تشتبك في هذه الملفات وتتداخل فيها بشكل كبير؟
وهنا، أقول إنه من غير حوار إقليمي جاد لتوفير نظرية جديدة للأمن الإقليمي بين الأطراف الفاعلة؛ السعودية والإمارات ومصر وتركيا وإيران، فإن الأمور ستظل رهن أزمات غياب الرؤية وعدم الاستقرار، وأنا دعوت لهذا الحوار منذ العام 2015، وأجدد دعوتي اليوم للتأكيد على المشترك والاتفاق على كيفية إدارة المختلف فيه.
هذه النظرية التي أتحدث عنها يجب أن تحسم مواقفها من ثلاث نقاط، هي: الكيان الصهيوني، ودور المزود الخارجي للأمن الإقليمي وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية، وتحديد الموقف من الأمن الإنساني للناس في المنطقة، القائم على حقوقهم وتطلعاتهم.
البعض يتحدث عن لعنة العقد الثامن للكيان الصهيوني وقرب زواله مع انتصار السردية الفلسطينية وحقها في الاستقلال الكامل في أرجاء العالم.. ما تعليقك؟
أنا متحفظ على هذه التصورات، وأقول بوضوح إن طوفان الأقصى فرض تحديات كبرى على الكيان الصهيوني، ولكن لا يمكن بأي حال من الأحوال القفز من هذا إلى مسألة النهايات ولأسباب كثيرة.
هناك تحديات كثيرة، أهمها مدى استمرار قوة الدفع الحكوماتية الغربية للكيان الصهيوني من عدمه، وفرص نجاح محاولات دمج الكيان الصهيوني في المنطقة تحت لافتات الاتفاقيات الإبراهمية، وما هي تصورات الأنظمة العربية لمستقبل الكيان؟
أعتقد أن التحدي الأساسي هو تغيير طبيعة المشروع الصهيوني، من خلال تصدير فكرة الدولة الواحدة الديمقراطية التي صرت أكثر حماسًا لها الآن، بحيث تضم الجميع، وتكون نهاية لدولة “إسرائيل” وبداية لإعلان دولة ديمقراطية واحدة، وفي هذا الإطار أعتبر أن الحديث عن الدولتين حديثًا فارغًا، ولا توجد سياقات لحدوثها بالأساس.
ماذا تقول في هولاء؟
المستشار الراحل طارق البشري:
نحن بحاجة إلى حكمته في أيامنا هذه، بحيث نؤكد الثوابت الوطنية التي يجب أن نتمسك بها في ظل ما أطلقت عليه “تسييل الثوابت الوطنية”.
عندما كان يشتد الخطب كنا نلجأ إلى “الحكيم البشري” لتأكيد ثوابتنا الوطنية.
علاء عبد الفتاح:
تعرض لكم كبير من الضغوط، ويحتاج إلى إطلاق سراح سريع.
عصام سلطان:
فرج الله عنه وأطلق سراحه قريبًا.
نعمت شفيق:
تستحق الشكر، لأنها بسياساتها الخاطئة زدات من اشتعال الجامعات الأمريكية، ولكنها في ذات الوقت نمط للسلطة التي تتصرف بغباء في كل مكان، بغض النظر أن فلان تعلم في جامعة “كولومبيا” أو “اكسفورد”، فنفس الاستجابة السلطوية حدثت رغم اختلاف منابع التعليم.
نساء مصر:
يتحملن الآن عبئًا أكبر مما نتخيل، ويدفعن ثمن أزمات المجتمع ككل، وثمن أنهن نساء تُمارس ضدهن سياسات عدم المساواة في التعليم والوظائف، ويدفعن تكلفة أكبر من الرجال في أزمات المجتمع في التعليم والصحة.
في ختام الحوار.. كيف ترى مستقبل مصر؟
ربما يكون عنوان كتابي الجديد الذي لم ينشر بعد هو إجابة السؤال
أقول في العنوان: “مصر المنهكة.. المراجعة شرط الإصلاح”. وهذا مفتاح المستقبل.
أرجو أن يكون حواري هذا سبيلًا لنشره، وإزالة الصعوبات التي يجدها الناشر في إصدار الكتاب، ونحصل على رقم إيداع.