ما الذي يمكن أن يقدمه شيخ مثلي بلغ -هذا الأسبوع- الستين من عمره من شهادة فكرية وسياسية علي مجريات الأحداث في مصر والمنطقة والعالم؟
مثلت هذه المناسبة فرصة للتقييم الذاتي لما كتبت علي مدار السنين الخمس الماضية -مرحلة ما بعد السجن- والتي صدرت في كتب خمسة، بالإضافة إلي المشاركة في كتاب محرر بمناسبة مرور عقد علي الانتفاضات العربية.
كان الهاجس الذي تملكني وأنا أكتب بانتظام أسبوعيا في هذه السنين ألا أكون ظهيرا للمستبدين أو المجرمين أو المفسدين، وألا أتعرض لفتنتهم يصرفوني عما انحزت إليه في عمري كله: “ربي لا تجعلني ظهيرا للطغاة والمستبدين والظالمين، ولا تفتني بهم أو تجعلني فتنة لهم”، جرى بذلك لساني في غياهب السجون، وانعقد قلبي وفؤادي علي التمسك به.
ما اكتشفته من تجربة الحبس التي طالت أكثر مما ينبغي أن مفهوم الاستبداد يكتسب معني شاملا في حياتنا لا يقتصر علي تغول وطغيان السلطة العليا في الدولة؛ وإنما يتغذي ويتأسس على شيوعه في جميع مجالات حياتنا. يظهر في الاقتصاد، كما يبدو في علاقات الذكر والأنثي في المجتمع. تنفخ فيه مؤسسات التنشئة الاجتماعية -من أسرة ومسجد وكنيسة ومدرسة- من روحها التسلطية الأبوية المهيمنة فتعطيه قوته واستمراره.
يشيع الاستبداد في هياكل توزيع الثروة والموارد وبين أصحاب الحظوة التي تستأثر بهم فتجعله دولة بين شبكاتها وتحرم به فئات عريضة في المجتمع من العيش الكريم. هذه الشبكات ممتدة في هياكل الدولة التي تحللت إلي مجموعات مصالح متباينة، وتتعاضد مع أمثالها في الإقليم والعالم. بات التشبيك بينها عابرا للأوطان، ويبحث له عن تموضع في امتدادات النيوليبرالية المعولمة.
يتغذى الطغيان والاستبداد والأثرة من جوهر العمران، وأشكال البناء وتخطيط المدن، والهندسات الاجتماعية القسرية خلفها، كما يظهر في التهجير القسري لساكني المدن العربية. قدّرت إحدى الدراسات أنه تم تهجير ما يقارب الـ٢ مليون و ٣٠٠ ألف قاهري على مدار العقد الماضي، عُمر الجمهورية الجديدة بمصر، وهو بالمناسبة نفس العدد الذي هجّرته إسرائيل قسريا في غزة في شهرين.
هل ما ننتجه من معرفة، أو نساهم به في تشكيل النقاش العام ندعم به الهياكل التسلطية التي أحاطت بنا ولم تترك ركنا إلا احتلته، أم نساهم في تفكيكها؟
قواعد في إنتاج المعرفة من أجل التحرير:
أولا: إدراك جوهر المشكل التاريخي الذي نواجهه
المشكل كما برز في العقد الماضي هو إعادة بناء الدولة الوطنية بتجديد أصولها وإصلاح هياكلها من خلال بناء نظام ديمقراطي تشاركي تعددي قادر على أن يلبي الاحتياجات الأساسية للمواطنين، ويحقق تحرير الإرادة الوطنية من هيمنة شبكات المصالح الممتدة في هياكل الدولة والنيوليبرالية المعولمة، مرورا بقواها في المنطقة العربية.
المشكل التاريخي يتعلق -من وجهة نظري- الآن بالمسألة الديمقراطية بجناحيها السياسي والاجتماعي، والتي لا يمكن تحقيقها إلا في إطار تحرير الإرادة الوطنية من هيمنة الإقليمي والدولي.
أما المشكل التنظيمي فهو وجود حركات وطنية ديمقراطية ذات مرجعيات فكرية متعددة.
القراءة التاريخية لانتفاضات الربيع العربي -التي أعد طوفان الأقصي موجة من موجاتها المتعاقبة والتي لم تنته بعد- هي أننا أمام إعادة تشكل للتاريخ كله في المنطقة، نحن أمام محطة تاريخية فاصلة: فالقديم قاد إلي الانفجار، ولم يعد قادرا على تقديم استجابات لتحديات المجتمع والدولة؛ لكن الجديد لم يتبلور بعد، وهذه هي مهمتنا التاريخية -كما أعتقد-، واللحظة تمتلء بالكثير والكثير مما يصب في المستقبل، وبمقدار قدرة الفواعل الاجتماعية علي التقاط مقومات هذه اللحظة بمقدار ما سنكون على أول طريق المستقبل.
ثانيا: المعرفة منفعة عامة
وهذا يستدعي أن تكون سبيلا للتغيير لصالح فئات اجتماعية متسعة. المطلوب هو التأثير في السياسات العامة وأولوية الإنفاق العام ليكون أكثر تعبيرا عن تطلعات الناس العادية واحتياجاتهم الملحة.
فما يحدث هو انتقال من السياسة إلى السياسات، وفيه نشهد تحولًا من السياسة باعتبارها عملية مؤسسية تضطلع بها نخبة محدودة -هي عادة الرئيس/الأمير ومجموعة ضيقة حوله أو ما يطلق عليه نخب الحكم والمال- إلى عمليات سياسية متعددة يقوم بها أصحاب مصلحة كثر، وهي لا تدور حول قضايا محدودة أو موضوعات معينة، وإنما كثير من القضايا والموضوعات التي تتأثر بها حياة المواطن اليومية من الخبز إلى الحرب في غزة.
الحديث في السياسات يعيد صياغة سؤال المرجعية، التي هي عند المؤمنين بها مطلقات لا يجوز الحوار بشأنها إلا  في جدالات الفكر؛ لنصير أمام تشغيل المرجعية في الواقع فتجيب عن أسئلة الناس الصغرى لا أسئلة الوجود الإنساني في تجلياته الكبري.
ففي السياسة لا يجوز النظر للمرجعية منفصلة عن الواقع أبدا، وإنما يجب النظر إليها من خلال مؤداها الواقعي في ظروف الزمان والمكان الذي نعيش فيه أو مورست فيه أو ستمارس فيه، لا النظر إليها مجردة من الواقع التطبيقي، بل من خلال المؤدي العملي للأفكار.
المطلوب الآن ليس حديث في المرجعيات الأيديولوجية والأطر الفكرية العامة ولكن تقديم سياسات عامة وبرامج تفصيلية من شأنها أن تعالج مشاكل الناس الواقعية وتجيب علي أسئلتهم الصغري ،فالسياسة الآن باتت تدور حول معاش الناس وجوهرها: انتقال بالخاص إلى العام، وكيف يبدو تأثير العام في الشخصي.
ثالثا: خلق معيارية جديدة
وهي تظهر أكثر ما تظهر في السوشال ميديا التي لا يقتصر دورها على تفعيل الجدل العام فقط الذي تحاول أن تصادره السلطات في كل مكان؛ ولكن يجرى أيضًا خلق معايير جديدة يتم من خلالها تقييم المواقف والسلوكيات والسياسات والإجراءات، وتقديم سرديات بديلة تتحدى الروايات السائدة أو المهيمنة، ويجرى فيها القضاء على المركز والمرجعيات والرموز حيث لا قداسة لأحد، وإنما القناعة والقبول والنفع والعملية.

 

 

نؤكد أن المعايير المرجعية للسياسة لم تعد أيديولوجية؛ بل يومية حياتية، وهي لم تعد ثابتة غير قابلة للتغيير، ويختفي معها الإجماع المهيمن أو الرواية السائدة.
وأخيرا فإن ما يستحق المتابعة كيف يعاد صياغة وتشكيل الإطار المعياري في العالم -كما يجري في ردود الفعل العالمية علي الإبادة الجماعية في غزة- بين نموذجين: التنوع والتمرد من جهة، والضبط والتحكم من جهة أخرى؟
رابعا: إعادة تشكيل وصياغة النقاش العام
والمبرر هو التحولات الكبرى في الأوطان وفي الإقليم والعالم.
صارت الكلمات المفتاحية في التفكير الاستراتيجي هو عدم اليقين، والتعقيد. في النظم المعقدة يمكن لفعل بسيط أو فرد واحد (بوعزيزي مثالا) أن يغير النظام ككل،أو بعبارة أخرى فإن تحرك فرد واحد أو جماعة صغيرة (حماس في الطوفان) في نظام معقد متزايد الترابط من شأنه أن يؤثر في مجمل النظام بسرعة فائقة.
تشكيل النقاش العام يستدعي أربعة عمليات متكاملة:
١- التقاط الموضوعات الجديدة:
مثل تغير هيكل القوي في النظام الدولي، وتطورات التكنولوجيا، وتغير طبيعة الاقتصاد مع إعادة التفكير في العولمة، وتصاعد صوت الأجيال الشابة في السياسة، وتغير طبيعة هيكل الدولة نتيجة إعادة صياغة أدوارها ووظائفها وانسحابها من مجالات كانت حكرا عليها فيما مضي، وأخيرا وليس آخرا؛ وضع القضية الفلسطينية في أفق عالمي وإنساني متسع يشمل الحقوقي والقانون الدولي الإنساني، ويضم مفاهيم العدالة ومناهضة السلطة ورفض القوة، ويحتفي بالتعددية بكل أشكالها …إلخ.
٢- ضرورة إعادة صياغة الأسئلة والإشكالات وعدم استدعائها بشكل تلقائي:
في القرن العشرين -علي سبيل المثال- حكمتنا ثنائيات متعارضة من قبيل: نحن والغرب، الحداثة والدين، الوافد والأصيل، الاشتراكية والرأسمالية، والقومية والإسلام.. إلخ، لكننا منذ الألفية الجديدة نواجه مشكلًا جديدًا يتأسس على إنتهاء أهم صيغ القرن العشرين عندنا، وهي دولة ما بعد الاستقلال، والإسلام السياسي، والأيديولوجيات العلمانية، وهي صيغ تنطلق من أيديولوجيات شاملة قادرة على أن تنتظم جوانب الحياة جميعًا. نحن الآن بإزاء صيغ جديدة تقوم ببناء شبكتها غير الهرمية واللامركزية على قضايا جزئية محددة مثل التضامن مع غزة وحقوق الإنسان والجندر والبيئة.. إلخ
٣- استدعاء مستمر لأصوات جديدة للنقاش العام وتمكين الأصوات المهمشة:
إنتاج المعرفة لم تعد عملية مركزية يقوم عليها خبراء تحصلوا علي تكوين معرفي ومهني محدد؛ بل باتت عملية لا مركزية يشارك في صياغتها أناس كثيرون، لذا فمن المهم التنبه إلى السياقات المحلية في إنتاج المعرفة ودور الممارسة العملية في صياغتها.
أثبتت طوفان الأقصي قدرة المقاومة علي إنتاج التكنولوجيا في ظل قيود شديدة وحصار محكم بما يلبي احتياجاتها في مواجهة تكنولوجيا متقدمة لا تملك غير التوحش والإبادة الجماعية سبيلا. المعرفة خادمة للتحرر الإنساني قبل المادي. عجزت تكنولجيا التوحش -حتى الآن- عن القضاء علي المقاومة، ولا أظنها تحققه.
٤- التشبيك:
وهي عملية واسعة تشمل الباحثين والناشطين والفاعلين الاجتماعيين في المجتمع المدني وعلى المستوى المحلي أيضا بما يحدث تأثيرا تشاركيا ممتدا.
دشنت خبرة الربيع العربي نوعا جديدا من المعرفة لم تعرفه المنطقة العربية من قبل وهي اشتراك فواعل متعددة في إنتاج المعرفة الخادمة للتغيير، وهو ما مارسته كثيرا في أبحاثي ويطلق عليه البعض “البحث من أجل الفعل”، وفيها تجتمع الناشطية مع البحث مع مشاركة أصحاب المصلحة لإنتاج معرفة تخدمهم وتعبر عن تطلعاتهم. هذه المعرفة يشارك فيها المحلي أكثر من المركز، وينتجها أهل القرى والأرياف أكثر من المدن والعواصم الكبري.
٥- امتلاك شجاعة المراجعة والنقد الذاتي:
هل نحتاج لهزائم ونكسات على غرار هزيمة ٦٧، أو تعثرات في مسار الفترات الانتقالية -مثل ما شهدناه بعد الربيع- أو أزمات وطنية شاملة -وفق ما نشهده الآن في جل الدول العربية-، أو حروب أهلية…؛ لنقوم بعمليات المراجعة الوطنية لمجمل القواعد التي قامت عليها الدولة وتأسس عليها المجتمع، والمسلمات التي تحكم نظرتنا لأنفسنا والعالم المحيط بنا؟
صحيح أن الهزائم والتعثرات والمآزق الوطنية أحد شروط البدء في المراجعات، لكن السؤال الأهم لماذا لا نمارس عمليات المراجعة بشكل دائم ومستمر؟ ولماذا لا نتجنب الهزائم والنكسات والأزمات بالمراجعة؟ والنون هنا عائدة على الدولة والمجتمع والنخب والتنظيمات والكيانات.
أسئلة أخرى: لماذا لا يراكم العرب ولا يتعلمون من أخطائهم التاريخية أو حتى الأزمات التي تمر بهم، وبالتالي تصبح قدرتهم محدودة علي المراجعة ونقد الذات؟ وهل بات قدرنا أن نكون في دورة تاريخية لإعادة إنتاج النكسات والأزمات والمآزق الوطنية العامة دون هوادة ولا توقف؟
متطلبات أربعة للمراجعة:
١- استشعار نفسي وقيمي يشيع في المجال العام يدفع للمراجعة دون وجل ولا خوف
ولن يتحقق ذلك إلا بتجاوز مناخ الاستقطاب الذي يقوم بتوظيف هذه المراجعات في عمليات دعائية أقل ما يقال عنها أنها رديئة.
تعلمت من خلال تصميم عملية للنقد الذاتي للكيانات السياسية المصرية بعد ٢٠١٣ أن إطلاق هكذا عملية من شأنه أن يسترد الثقة في الكيان بين أعضائه أولا، ومن مناصريه ومؤيديه ثانيا، ويقوي المجال السياسي ويعززه ثالثا.
نحن نحتاج أن نسترد الثقة المفقودة لدى عموم المواطنين العرب في مؤسسات الدولة وتنظيمات السياسة ونخب الفكر والثقافة، وبدون ذلك ستظل في وضع إنهاك واضطراب مستمرين.
٢- إطلاق حالة حوار حقيقية
أدرك أن كلمة الحوار قد ابتذلت من الجميع، ولكني أعلم أيضا بحكم تخصصي وممارستي لتصميم عمليات الوساطة والحوار أن ما يطلق عليه حوارا ليس كذلك؛ وإنما توظيفات سياسية رديئة لعملية لها شروطها ومتطلباتها التي لم يحرص أحد على توفيرها، وأعلم أيضا أنه بدون بناء حد أدني من التوافقات، فإن أوطاننا والمنطقة لن تبرح مكانها متعثرة في أزماتها.
٣- مؤسسات وفاعلين اجتماعيين ونخب قادرة علي أن تسهم في هذا التجديد
وذلك بما تملكه من خبرات ومهارات وانفتاح علي العالم، وقدرة علي ترجمة التصورات والرؤى إلي برامج وسياسات.
٤- وجود هياكل سياسية قادرة على الاستفادة من هذه المراجعات بتحويلها إلي سياسات وبرامج
مما ميز كثير من بلدان المنطقة أن هناك اشتعال للجدل العام في كل الموضوعات والقضايا، وزادته أدوات السوشيال ميديا التهابا، لكنه في النهاية جدل عقيم لا تأثير له في الواقع المعاش، والسبب هو ضعف الهياكل السياسية، وزاد الطين بلة تصحير السياسة وإضعاف المجال العام على مدار العقد الماضي، لذا فإنه بدون استعادة السياسة وحيوية المجال العام فلن يكون لجدالاتنا الفكرية والسياسية أي أثر في الواقع إلا مزيدا من الاستقطاب.
استعادة السياسة ستجعل من المراجعات صفة لصيقة لحياتنا كلها. السياسة في أحد جوانبها بدائل متنافسة، ولن يتحقق لها ذلك إلا بنقد بدائل السلطة والمعارضة بما يدفع اصحابها للمراجعة كمقدمة ضرورية للإصلاح.
Share: