نُشر في الجزيرة.نت – مايو 2024
علمتني خبرة أكثر من ثلاثة عقود من متابعة الجدل حول القضايا الدينية/الثقافية -سواء داخل البلدان المختلفة أو علي المستوي الدولي- أن ابحث عن السياسة الكامنة خلفها، ويرتبط بذلك تطور آخر برز علي مدار العقد الماضي وهو أنه اندلع صراع محتدم حول ما أطلق عليه “روح الإسلام” وهي معركة ندور حول أنماط التدين التي يجب أن تسود داخل البلدان العربية ويجري تصديرها دوليا.
إن الترويج لما يسميه الحكام العرب “الإسلام المعتدل” -الذي يدور صراع في المنطقة عمن يمثله- عن طريق مأسسة وتنظيم المجال الديني؛ يعني الوصول إلى صورة عن الإسلام لا تمثل تهديداً لكياناتهم السياسية وبقائها ونمط تحالفاتهم، وشبكات امتيازاتهم المالية والدولية،[والجديد خدمة مشاريع التطبيع مع الكيان الصهيوني] وليس إسلاماً يعيد توزيع السلطة والثروة في المجتمع -كي لا يكون دولة بين شبكات مصالح ضيقة- كما نصت آية سورة الحشر. يضاف إلي مسألتي السلطة والثروة إعادة تعريف العدو ليكون المقاومة -أيا كان اسمها ورسمها- لا إسرائيل.
رؤيتي -إذن- هي أن الصراع حول أنماط التدين المتعددة والجدالات الدينية والثقافية المحتدمة؛ هو صراع سياسي بامتياز يتلبس بلبوس ديني ثقافي. بعبارة أكثر وضوحا: السياسي اخترق الديني والثقافي ليعيد إنتاجهما علي مقاسه: تعبيرا عن مصالح من يقف وراءه، وما نشهده هو أزمات وصراعات سياسية ذات أبعاد دينية وثقافية تختبر أطرافها المختلفة فيها توازنات القوى والمصالح فيما بينها في ظل امتزاج شديد للمصالح بالمشاعر الدينية والثقافية.
مع غلبة السياسي -إذن- وتغوله يتم استدعاء الجميع علي أرضيته وهو ما يشعل خطوط التماس، ومن ثم فمن الضروري التمييز بين المستويات المتعددة -خاصة بين السياسي وبين الديني/ الثقافي مع إدراك أرضية السياسي التي يتحرك عليها الديني والثقافي.
ما هي أرضية السياسي -إذن- التي يتحرك عليها الجدل حول مؤسسة تكوين لتجديد الفكر العربي التي أعلن عنها عدد من المثقفين المصريين الأيام القليلة الماضية؟
أرضية السياسة في الجدل الحالي تدور حول عناصر ثلاثة:
أولا: اشتعال الجدل الديني وتأميم السياسي:
ففي الوقت الذي يجري فيه التعامل مع النقاش السياسي وإعادة هيكلة الاقتصاد بسياسات نيوليبرالية شرسة بمنتهي الحزم من قبل النظم العربية جميعا وفي مقدمتها المصري؛ يلاحظ احتدام الجدل الديني والثقافي في موجات متصاعدة لا تكاد تنتهي واحدة حتي تبدأ أخرى.
صحيح أن احتدام الجدل الديني يعكس عجز النظم العربية عن السيطرة الكاملة علي المجال الديني برغم نجاحهم -إلى حد كبير- في التحكم في المجالين السياسي والاقتصادي؛ إلا أن هذا الجدل يستخدم أيضا لخدمة مزيد من تصحير/إفراغ المجال السياسي؛ حين يصرف النقاش العام عن انكشاف الحكومات العربية أمام الإبادة الجماعية في فلسطين.
الزيطة -وهي كلمة عربية فصيحة تعني الجلبة والضوضاء- من التعبيرات العبقرية للمصريين التي عادة ما بيستخدمونها عندما يجدون شخصا أو مجموعة تستفيد مما يحدث أيا كان بأن تشارك في الزيطة فتعلي من الصوت أو تزبط دون تغيير حقيقي فيما تزيط منه أو له.
يؤدي طغيان الديني علي السياسي، والسياسي علي الديني إلي إرباك الجميع، والأهم هو التغطية علي أولويات الناس والقضايا؛ فالسقف المرتفع للجدل الديني لا يوازيه نفس السقف في السياسة، والجرأة علي الدين لا تناظرها جرأة علي انتقاد الحكام العرب في موقفهم مما يجري من توحش اسرائيلي.
ثانيا: الجدل الديني بين المحافظة والتجديد:
في الجدل حول المسائل الدينية؛ يبرز نمطان من الخطابات الدينية:
الأول: يدفع بالتدين إلي مساحات الشأن الفردي الخاص بما يتطلبه ذلك من سيولة في تفسير النص المنزل، ويستخدم في أحد مداخله الانتقاء الجاهل من التراث والتعددية الفقهية -التي تعد أحد سمات الخبرة التاريخية الإسلامية- لا ليدفع بقيمة التعددية قدما؛ ولكن ليملء مساحات الفراغ الديني التي يعاد تشكيلها الآن.
أظهر استطلاع الباروميتر العربي لعام ٢٠٢٢/٢٠٢١ عودة إلي التدين بين المواطنين العرب. شهد المغرب انخفاضاً بـ7 في المئة في عدد من وصفوا أنفسهم بأنهم غير متدينين بين كل الفئات العمرية، تليه مصر بانخفاض بنحو 6 في المئة، ثم تونس وفلسطين والأردن والسودان بانخفاض بنسبة 4 في المئة.
هذه العودة للتدين تقابلها أزمة هوية وتشظي في الخطابات الدينية دفعت به عوامل كثيرة، وأظن -وبعض الظن ليس بأثم- أن تكوين بشخوصها ومن يقف وراءها يقع في القلب من هذا التوجه.
الثاني: في مقابل هذا النمط الذي يستخدم الفقه والانتقاء من التراث لمزيد من السيولة الدينية؛ نجد نمطا يتمركز حول غلبة القراءة التراثية للنص المنزل، وهو نمط يحركه الدور التاريخي الذي أنيط به وهو الحفاظ علي التعاليم الإسلامية -كما يدركها.
أما لماذا هذان النمطان متشابهان من حيث طبيعة الموقف من مسائل التجديد؟ -فهو ما نناقشه في النقطة التالية.
إن خطابات الزيطة التنويرية تستثير في المقابل لها مساحات المحافظة الدينية والاجتماعية، وهو ما تنبه إليه كثير من رموز التجديد الديني حين حرصوا علي الجمع بين التجديد في بعض المسائل والقضايا وبين المحافظة علي المنهج التراثي في النظر؛ وهي مدرسة بدأت تظهر في النصف الثاني من القرن العشرين ولكنها تبلورت في الربع الأخير منه.
ثالثا: تكوين والتطبيع: تسييل الديني لإعادة تعريف العدو
هل يمكن فصل توقيت الإعلان عن تكوين عن التطورات الجارية فيما يتعلق بالموقف من مسألة التطبيع مع الكيان الصهيوني وفق اتفاقات آبرهام ودعاوى الدين الإبراهيمي. جوهر هذا كله -بغض النظر عن التفاصيل- هو “إعادة تعريف العدو”؟
هذه العلاقة تتحقق -في تقديري- من زاويتين تنبه إليهما تقرير صادر ٢٠١٧ عن معهد واشنطن لدراسات الشرق الادني -ذي التوجه الداعم لاسرائيل والمحافظين الجدد- بعنوان: “الاسترداد: سياسة ثقافية للشراكة العربية الإسرائيلية“.
الملمح الأول: “يعلم الأشخاص الذين يدرسون المنطقة أن العمل الثقافي هو وظيفة اساسية للدول العربية. بالإضافة إلى دور وزارات الإعلام والتعليم والشؤون الإسلامية العربية في السعي إلى مواءمة الثقافة مع أجندة الدولة، فإن الجيوش العربية والكوادر الأمنية وأقسام المخابرات تشغل آلياتها القوية الخاصة بالغرس [الثقافي] – في السراء والضراء.” -فهل يمكن أن تتحرك المبادرة بعيدا عن هذا التوجيه وفي هذا التوقيت.
يضيف التقرير: “أنه على الرغم من اتساع المجال المعلوماتي العربي، إلا أنه يظل في الغالب سلطويًا في هيكله وتهيمن عليه في المقام الأول الدول العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة” -وأضيف واسرائيل الآن أيضا.
الملمح الثاني: “أشار مجموعة من القادة العرب والمؤسسات مؤخرًا إلى انفتاح أكبر تجاه دولة إسرائيل واليهود بشكل عام.” – ومن ملامح ذلك كما ينص التقرير: “ومن بين أكبر المؤسسات التعليمية والدينية في المنطقة ، بدأ عدد قليل في تقديم أفكار تصحيحية للتحريض ضد اليهود…على سبيل المثال؛ حظيت بدايات محاولات تطهير محتوى الكتب المدرسية العربية من معاداة السامية باعتراف من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل -وفق التقرير.
تقدم الأنظمة العربية مبادراتها المتعلقة بدور الديني في السياسة والحياة العامة على أنها دعوة للحداثة والتسامح بين الأديان ومحاربة التطرف …، لكن هذه المبادرات قد تكون في حقيقتها محاولة لبسط النفوذ وإحكام السيطرة على مجمل المجال الديني، وجميع المؤسسات الدينية وإخضاعها لقيادتهم، وفي نفس الوقت دمج النخب الثقافية أو قطاعات منهم في شبكات تحالفاتها السياسية والمالية -وطنيا وإقليميا، ورعاتهم الدوليين.
أختم بالإشارة إلي أن تسييل التعاليم الدينية من المسائل الصعبة، ولكنه إن تم سهل عليك إعادة تعريف العدو، وإعادة صياغة المجتمع والدولة وفق ما تريد؛ وهو ما يجري علي قدم وساق في المنطقة من مداخل متعددة. التسييل مهمة مؤقتة غرضها احتلال المناطق المسيلة برؤي وتصورات نظم الحكم العربية بتحالفاتها القديمة والجديدة.