نُشر في الجزيرة.نت – يوليو 2024
(النسخة أدناه هي النسخة الأصلية للكاتب التي تتضمن فقرات غير منشورة في موقع الجزيرة)
كان السؤال الذي أهمني في الأيام الماضية هو: كيف جري تطبيعنا نحن العرب مع الإبادة الجماعية الجارية علي قدم وساق منذ مايزيد علي تسعة أشهر علي أرض فلسطين؟
التجويع الممنهج، وقتل الأطفال والنساء، وقطع الماء والكهرباء، وقصف المستشفيات والمدارس التي تأوي النازحين، وتدمير أحياء بأكملها، ومحو أسر عن بكرة أبيها من السجلات…وغيره كثير مما يبث مباشرة علي الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي علي مدار ٢٩٠ يوما أو يزيد؛ وبرغم هذا فإن الحياة تسير كالمعتاد ولم تتوقف.
ادرك الفلسطينيون في حرب الإبادة أنهم وحدهم؛ فلم يسعفهم تضامن الآخرين: لا مظاهرات الجامعات الأمريكية، ولا قرارات محكمة العدل والمنظمات الدولية، ولا مساندة الشعوب، ولا تصريحات المسئولين، ولا الاعتراف بدولتهم … فالمعاناة والمأساة التي يكابدونها في كل لحظة هي معاناتهم ومأساتهم وحدهم.
لندخل في صلب الموضوع: كيف وصلنا نحن الشعوب العربية إلي هذه الحالة؟ وما تأثيراتها المستقبلية علينا كبشر، وعلي أوطاننا؟ وماذا ينتج عن اللامبالاة بما يجري للفلسطينيين عليهم أنفسهم؟
تشير نتائج دراسات الإبادة الجماعية إلى تأثيرات كبيرة طويلة المدى على التفضيلات المعادية للمجتمع والمخاطر المرتبطة بالتعرض المباشر للعنف الإبادي.
إن الأفراد الذين تعرضوا للعنف بشكل مباشر خلال فترة الإبادة الجماعية يظهرون سلوكيات معادية للمجتمع بعد عقود من الزمان. هذه التأثيرات خافتة نسبيًا بين الأفراد الذين لم يتعرضوا بشكل مباشر للعنف الإبادي.
تتابع هذه الدراسات في بيان التأثيرات المستقبلية فتقول: السلوكيات المعادية للمجتمع، مثل انتهاك القواعد الاجتماعية، والخداع، والسرقة، والتهور، قرارات صريحة لإيذاء الآخرين، وأحيانًا حتى عندما لا تخلق مثل هذه الأفعال أي مكاسب خاصة أو مجتمعية واضحة. وبالتالي فإن كون المرء معاديًا للمجتمع هو خطوة مميزة بعيدًا عن كونه أقل اجتماعية، لأن هذه القرارات الضارة بلا شك يمكن أن تؤثر على النسيج الأخلاقي للمجتمع، مما يؤدي إلى عدم النضج والكفأة في التبادلات الاجتماعية والاقتصادية.
العرب وعقد من التطبيع مع العنف
علي مدار ١٠ سنين أو يزيد تم تطبيعنا -نحن الشعوب العربية- مع الإبادة الجماعية وعنف الدولة والمجموعات، ومن ثم كانت الحرب علي الفلسطينيين بعد طوفان الأقصي -للأسف- أحد الحلقات المستمرة لعملية التطبيع هذه. يبدو الفاعل مختلفا هذه المرة، وتتباين الشعوب التي تتعرض لها؛ لكن تظل التأثيرات واحدة والتداعيات مشتركة ومستمرة.
أكدت مفوضية الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية أن الصراع في اليمن أودى بحياة 233 ألف شخص خلال نحو 6 سنوات.
وثق المرصد السوري لحقوق الإنسان، -بعد ١٠ سنين من الحرب- مقتل 389 ألف شخص، منهم 117 ألف مدني، من بينهم 22 ألف طفل، و14 ألف امرأة، و81 ألفا من الرجال. تعد حصيلة القتلى من المدنيين الأعلى، خاصة إذا ما أضيف لها عشرات الآلاف من المواطنين الذين توفوا تحت التعذيت في معتقلات النظام السوري، ومقاتلي حزب العمال الكردستاني، والمختطفين على يد تنظيم داعش.
رصدت اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا خلال الفترة من 3 أبريل/ نيسان 2019 إلى 3 أبريل/ نيسان 2020، حصيلة الخسائر، إذ بلغ ضحايا الحرب والنزاع المسلح بطرابلس من طرفي النزاع والمدنيين (4387 قتيلا، من بينهم 506 مدنيا، و41 عنصرا طبيا و64 سيدة و8 أطفال، و12753 جريحا من بينهم 800 مدني). وبلغ إجمالي أعداد النازحين والمهجرين، 342.000 شخص من عديد المدن الليبية، وسجل نزوح وتهجير 57.000 ألف أسرة، من بينهم 90 ألف طفل، وبلغ عدد المحتاجين للمساعدات الإنسانية الطارئة 800 ألف شخص في عموم البلاد، ورصد حرمان عدد 200 ألف طفل من الدراسة، بسبب أستهداف المدارس والمرافق التعليمية، والمخاطر الأمنية على الطلاب.
بلغت حصيلة يوم واحد من القتلي المصريين علي يد السلطات ألف شخص علي الأقل -وفق تقدير منظمات حقوق الإنسان التي وثقت ما جري في فض رابعة في أغسطس ٢٠١٣.
وصفت لجنة الإنقاذ الدولية ما يجري في السودان هذه الأيام بـ”السقوط الحر”، وحذرت من أن الأزمة الإنسانية في البلاد ستتفاقم أكثر ما لم يتخذ المجتمع الدولي إجراءات حازمة لمعالجة الوضع الذي مزقته الحرب المستمرة منذ منتصف أبريل 2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع.
وأشارت اللجنة في تقرير أصدرته إلى أن تقديرات ضحايا الحرب في السودان تصل إلى 150 ألف شخص، أي أعلى بكثير من التقديرات المعلنة والتي تتحدث عن 15 ألف قتيل.
يواجه السودان بالفعل أزمتين مزدوجتين تتمثلان في أكبر عدد من النازحين داخليا في العالم، حيث فر 12 مليون شخص من بيوتهم منذ بدء الاشتباكات، منهم 10 ملايين داخل السودان ومليونان إلى بلدان مجاورة. كما أن 25 مليون شخص من سكان البلاد البالغ عددهم نحو 42 مليون نسمة في حاجة ماسة إلى المساعدة الإنسانية والحماية، في حين يواجه 18 مليون شخص انعدام الأمن الغذائي الحاد في ظل نقص الغذاء والمياه والدواء والوقود.
في نهاية عام 2023، بقي علي المستوي العالمي 68.3 مليون شخص في عداد النازحين داخلياً بسبب الصراعات والعنف. واضطر ما يقدر بنحو 9.1 مليون شخص للنزوح داخل السودان، وهو أكبر عدد من النازحين داخلياً أفيد عنه على الإطلاق، تليه سوريا (7.2 مليون)، وجمهورية الكونغو الديمقراطية (6.7 مليون).
برغم هذا التطبيع المستمر مع عنف الدولة وعنف الأطراف المصطرعة في الحروب الأهلية والذي سبقته سنوات من الحرب الأهلية في العراق بعد الغزو الأمريكي ٢٠٠٣، وعنف داعش في سوريا والعراق؛ إلا إن التطبيع مع الإبادة الجارية في فلسطين الآن تحتاج إلي تفسير، وهو ما نجتهد في تقديم بعض عناصره في هذا المقال، لكن أتصور أنه يحتاج إلي جهود كثير من الباحثين في دراسته، لأنه يتعلق بإنسانيّتنا، قبل أن يختص بمستقبل أوطاننا وعلاقتنا بالعالم من حولنا.
أولا: التباعد الاجتماعي: وهو ما يقلل ضغط المسئولية الأخلاقية تجاه الآخر أو يلغيها.
يتفشي ادراك عند قطاع كبير من العرب -وإن تعاطفوا معنويا وماديا- بابتعاد الضرر المباشر عنهم، فكل ما يتعرض له الفلسطينيون يظل ضرره المادي المباشر بعيدا عن جل العرب ولا يطالهم، ومن ثم فان ما يكابدونه من شقاء لا يهم غير الفلسطينيين أنفسهم.
تدلنا أدبيات عديدة علي كيفية نشأة الفراغ الأخلاقي حين تشير إلي أنه كلما زادت المسافة النفسية والمكانية والتأثير بين ما يجري في فلسطين وبين الفرد؛ كلما انتفي الوازع الأخلاقي أو يتلاشي أو يقل.
هناك تناسب طردي بين التضامن مع الاشخاص والجماعات وبين القرب الاجتماعي: فمن السهل أن تتضامن مع شخص تسمعه، ولكن هذا التضامن يزداد مع شخص تلمسه وتسمعه معا. سعت الدعاية المؤيدة والمضادة للفلسطينيين أن تخلق مسافات بيننا وبينهم..
الدعاية المضادة مفهومة، لكن المؤيدة كيف فعلت هذا؟
جري ذلك عبر نزع الصفة الإنسانية عنهم حين أبرزت صمودهم وتمسكهم بأرضهم وبطولاتهم وهي كذلك بالفعل، ولكنها في نفس الوقت لم تظهر اختلافاتهم ولا ضعفهم، ولا سلوكهم كبشر.
يميز علماء النفس بين نوعين من عدم الإنسانية: النوع الأول ينكر الصفات الإنسانية الفريدة للآخرين من خلال مقارنتهم بالحيوانات (النوع الذي استخدمه الخطاب الرسمي الإسرائيلي)، والنوع الثاني ينكر الطبيعة البشرية للآخرين من خلال مقارنتهم بالأشياء (المعروف أيضاً بالتشييء ويطبق عادة، على الأقل في مجتمعنا مثل النساء)، لكني أشير إلي نوع ثالث وهو اضفاء صفة القداسة والبطولة علي قوم أو مجموعة من البشر بما يخرجهم عن طبيعتهم الإنسانية.
يظل في النهاية أن اللانسانية أحد نتائج التباعد الاجتماعي. ويؤكد علماء الاجتماع أن نزع الصفة الإنسانية ليس مجرد اعتقاد خاص؛ بل هو سبب ونتيجة لرسم حدود المجموعات الاجتماعية وتمييزها عن بعضها البعض، كما يمكن أن تصبح وجهات النظر المتطرفة طبيعية عندما يصبح نزع الصفة الإنسانية محورًا للخطاب السياسي.
تساعد الدعاية التي تنزع الصفة الإنسانية عن الضحايا في تزويد المشاركين بروايات ثقافية تؤطر العنف باعتباره الشيء الصحيح أخلاقيا، ويمكن أن تساعد آخرين علي التغلب على مقاومتهم الأولية لقتل الجيران نتيجة لذلك.
ثانيا: التكيف المعرفي مع الإبادة عن طريق تزويدنا بروايات سياسية لقبول العنف
مثل: عمل المقاومة لصالح إيران وبقرار منها، أو أنها حين قامت بعملية طوفان الأقصي لم تستشر الفلسطينيين، أو إنها من جماعات الإسلام السياسي وفصيل من الاخوان الموصومين بالارهاب، أو إنها غير وطنية أو علي أقل خرجت عن الإجماع الوطني، أو إنهم يستحقون ما يتعرضون له؛ فعلي نفسها جنت براقش، وأخيرا وليس آخرا؛ شريكة في الإبادة مع الاسرائيليين -كما صرحت السلطة الفلسطينية.
لايزال قطاعا هاما من العقل العربي عالقا في لحظة السابع من أكتوبر/تشرين أول. ففي الوقت الذي يركز الخطاب الغربي المؤيد للكيان الصهيوني علي أن الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين بدأ مع اقتحام حماس للغلاف والمستوطنات المحيطة بغزة؛ بغية تبرير حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها؛ نجد أن جزءا مهما من العقل العربي وقع في نفس الشرك، ولكن من زاوية أخري؛ هو يتساءل عن جدوي هذا الفعل، وعن الأثمان الرهيبة التي دفعت مقابله، وعن تأثيره علي القضية الفلسطينية …إلخ
هي أسئلة مشروعة ومهمة، لكن الإشكال أنها تتعامل مع حدث انطلقت عرباته بالفعل، ولا يمكن إيقاف تداعياته، والملح هو ضرورة التعامل مع مأساته التي نشهدها يوميا، وتقليل آثاره السلبية وتعظيم إيجابياته.
إذا استقال العقل عن الفعل، ولم يلحظ تفاعلات الواقع؛ فإنه في هذه الحالة يسأل الاسئلة الغلط.
أرسل إلي أحد الأصدقاء من أيام قليلة كلام الشيخ يوسف القرضاوي -رحمه الله- عن حكم الجهاد إذا ترتب عليه إبادة عامة للمجاهدين وجماعتهم المساندة، والعلماء لا يجيزونه قطعا. لكن بعد تسعة أشهر من الإبادة لأهلنا في فلسطين هل يحق لنا أن نتساءل عن ذلك، أم يجب أن تتضافر الجهود لوقف هذه الإبادة؟، ولن أناقش أن هذا الحكم الشرعي تحكمه تقديرات السياسة، وقراءة الواقع، ولا يمكن أن نتنبأ بتداعيات -خاصة إذا خرج عن المتوقع.
يجري إخفاء الضحايا والتحلل من المسئولية الواجبة بالدعاية أو اثارة الجدل السياسي أو الاستقطاب أو تحميل المسئولية للآخرين أو بإثارة الاسئلة الغلط في اللحظة التي يتعرض لها البشر للإبادة.
ثالثا: كتم أنفاس التراحم بالعقلانية:
عادة ما يجري التفلت من التضامن الحميمي بخطاب العقلانية المزعومة: التأكيد علي استمرار اتفاقات التطبيع من كل الدول العربية التي وقعت عليها برغم انتهاكها الواضح من الكيان الصهيوني، وتوسعتها مستمرا لتحقيق أهداف الفلسطينيين في إقامة دولتهم، برغم أن شعب الدولة المزعومة يتعرض للإبادة والتهجير وتوسيع المستوطنات. تتدفق التجارة بين الكيان الصهيوني وبين بعض الدول العربية؛ فالمصالح المالية والاقتصادية فوق اعتبارات واحتياجات البشر. لا حديث عن حق تدفق الإغاثة مقابل التجارة، ولكن ربح وأموال تدخل جيوب اصحاب الشركات.
شروط الفعل العقلاني هو تحصينه ضد قيم التضامن والتراحم والتعاون والمساندة الي غير ذلك من القيم التي تحكم الأفعال التراحمية.
رابعا: المواطن العربي المنهك: شعور بالمأساة، ولكن هناك أولويات وضغوط أخرى
اجتمعت علي كثير من المواطنين العرب. ضغوط كثيرة فهو يرزح تحت وطأة سياسات اقتصادية ذات طبيعة نيوليبرالية شرسة تدفع بطبقاته الوسطي والدنيا إلي الانصراف إلي توفير الحياة الكريمة -في حدودها الدنيا- لهم ولأسرهم، وتحيط به الصراعات في كل مكان -كما اشرت سابقا. أما الدول التي لاتزال أنظمتها مستقرة أو تتمتع بوفورات مالية؛ فهي تعيد صياغة عقودها الاجتماعية بما يغير من طبيعة الدولة وحقيقة أدوارها، وهويتها الوطنية.
يجري كل هذا في وقت لايزال خيال المواطن العربي يتطلع لدولته لتقوم بتوفير بعض مقومات الحياة، وهي العاجزة أو غير الراغبة في القيام بذلك. تتراكم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بما يفاقم الأعباء علي المواطنين العرب بأشكال متعددة، ولكنها أزمات يستدعي بعضها بعضا، وتتراكم فوق بعض إذا أخرجوا يدهم منها لا يكادون يرونها من ثقلها وكثافة تأثيرها.
يضاف إلي هذا مصادرة امكانيات الفعل من السلطات الحاكمة، وشعور بالعجز المولد للغضب، ولكن كيف سيجري تصريف طاقة الغصب هذه -خاصة لدي الفئات الشابة- إذا اجتمعت وامتزجت فيها المأساة الخاصة المتعلقة بالمعاناة الذاتية مع تدفق صور الإبادة للفلسطينيين؟