في هذا المقال الرابع من سلسلة، تناقش أوضاع العدالة الجنائية في مصر/ الجمهورية الجديدة، نناقش دور الحرب على الإرهاب في التطبيع مع حالة الاستثناء. يشكل الإرهاب تهديدًا للدولة، ويتطلب تدابيرا استثنائية، وضرورة منح السلطة التنفيذية المزيد من الصلاحيات والحرية؛ لاستعادة النظام، وإنهاء حالة الاستثناء في أسرع وقت ممكن. لكن وبعد دمج دولة الامتياز في الدولة المعيارية- كما ناقشت في المقال السابق- يصير من الضروري الحفاظ على الإشراف القضائي على الاستثناء، وكما يقول المصريون: “كله بالقانون”.
في الحرب على الإرهاب، كما في الحروب التي تعلنها الدولة المعاصرة مثل، الحرب على الهجرة غير المشروعة، والحرب على الجريمة المنظمة، والحرب على الوباء.. تستخدم الدولة المعاصرة- في حروبها تلك- آليات متشابهة لتحقيق النصر على عدو غير واضح المعالم والحدود، ويتم تعريفه وفق مصالح كل دولة؛ فكل يغني على ليلاه، وفي الحروب كل شيء مشروع، أو يمكن شرعنته؛ لتحقيق النصر الذي لا يأتي أبدا.
تسير الدولة الحديثة تجاه المختلف عرقيا أو ثقافيا أو دينيا، أو الإرهابي، أو المهاجر غير الشرعي، أو المجرم قانونا في مسارات متعددة، تبدأ بنزع الإنسانية، لتنتهي بنزع المواطنة الكاملة عن الشخص أو الفئات المستهدفة، وتستخدم في سبيل ذلك الآليات التالية:
١-نزع الإنسانية: فالأمريكان السود والمهاجر والإرهابي والسجين، مجردون من الإنسانية، ومن ثم، لا يجب أن يتم معاملة من نزع إنسانيته بالمساواة؛ لأنهم يعتبرون أقل قيمة، ويتم الاعتداء على هذه المجموعات تماما عن طريق تحويلهم إلى صور نمطية، أو أرقام لا معنى لها. عندئذ؛ يبدأ العنف الممنهج المبرر أو “المشروع”.
فتجاوزات مؤسسات إنفاذ القانون، لا يمكن لها أن تستمر في عنفها المنظم تجاه المسجونين، كل هذه السنين وبهذه الوتيرة من الاتساع والقوة، ولا يمكن لتابعيها أن يحافظوا على درجة هذه التجاوزات، واستمرارها دون نزع الإنسانية والمشروعية القانونية- كما برزت في تقاليد حقوق الإنسان، عن الطرف المقابل- الذي يتحول إلى عدو في حروب غير واضحة المعالم والأهداف.
المشكل أن الحروب التي لا تنتهي، تولد ما أطلقت عليه في مقالات سابقة “فائض القمع” الذي يمكن أن يمتد إلى قطاعات أخرى من المصريين. المثال الأبرز في ذلك، هو التلويح باستخدام القوة المفرطة تجاه تجاوزات البناء وتوظيفها، والتلويح باستخدامها عند نزع الملكيات الخاصة لبناء الطرق والمحاور والكباري، أو تسليمها لمستثمرين داخليين أو أجانب. يتفاقم القمع، إذا تم تحييد أو نزع المحددات التي يفرضها المجالان السياسي والإعلامي على هذه الإجراءات بمصادرتهما ومنعهما. هذه المحددات يمكن أن تفرض قيودا على استخدام هذا القمع وتوسعه.
٢-التجريم: فالمجرم مخلوق وفق الخيال القانوني باستخدام أدوات الدولة، ويأتي احتكارها للعنف من خلال مؤسسات إنفاذ القانون؛ ليضمن تنفيذ وتطبيق التجريم على فئات محددة. يتطور التجريم من خلال استخدام التقنيات التشريعية والإجراءات البيروقراطية لتصنيع الجماعات المجرمة، وتكون الدعايات والأيديولوجيات والأفكار لإضفاء الشرعية المعنوية على التجريم القانوني.
ثنائية المجرم/ غير المجرم، تخلق المعيارية المعنوية والتشغيلية- أي الصح والغلط والحسن والقبيح- للمجالين العام والخاص معا. وتستخدم الدولة مفاهيم، الحرب/ الأمن القومي، والسيادة لتعزيز نطاق هذه المشروعية، وتحديد الفئات/ الأفراد المشمولين بها والخارجين عنها.
الملاحظ، أن كثيرا من الإجراءات القانونية في الحروب المتعددة التي تشنها الدولة، تستند إلى الإجراءات الاستثنائية من عدم افتراض للبراءة (الإرهابي)، أو الحق في محاكمة عادلة، أو عدم إدانة أفراد الشرطة في الأحداث التي يجري فيها تجاوز منهم، لأنهم في حالة دفاع مشروع عن النفس، واستخدام السلاح تجاه متظاهرين، لا يتجاوز عددهم خمسة أفراد، وإطلاق يدهم في التعذيب، دون رقابة أو محاسبة.
جرى توسعة مفهوم الإرهاب في منظور السلطة المصرية؛ ليشمل جميع المعارضين أو المنتقدين لها، أو من يحمل رأيا مستقلا عنها، وبالطبع الإسلاميين، في تبنٍ واضح لمنطق الفسطاطين، فمن ليس معنا فهو ضدنا.
٣- تطور التمييز ليكون ثقافيا؛ فأوضاع الفقراء والفئات الضعيفة هو نتاج لطباعهم أو ثقافتهم، وليس محصلة لتخلي الدولة النيو ليبرالية عن سياسات الدعم الاقتصادي والاجتماعي للفئات الأكثر ضعفا في المجتمع، والإرهابيين- في سياسات الحرب على الإرهاب- تهديد للحضارة بحكم ثقافتهم/ قناعتهم الدينية، والفقراء باتوا عبئا، لأنهم لا يريدون أن يعملوا ويتناسلون بكثرة، وليس بسبب سياسات إعادة التكيف الهيكلي التي جعلتهم أكثر هشاشة، والإرهابي صار كذلك لا بسبب سياقات يمكن معالجتها، ولكن لطبيعة تدينه وأفكاره التي يعتنقها فقط.
منطق التفسير الثقافي الذي يتسم بالحتمية والاختزال، يخلق نقطا عمياء عديدة في النظر إلى الواقع. بات العامل الثقافي سبيلا لمصادرة الحديث عن إعادة هيكلة وإصلاح مؤسسات إنفاذ القانون- خاصة وقد علمتنا خبرة عقدين من الحرب الأمريكية على الإرهاب (٢٠٠١ -٢٠٢١)؛ أنها تخلق أوضاعا مؤسسية واقترابات وممارسات، يصعب النكوص عنها والتراجع فيها، إذا استمرت لسنوات عديدة وحكمها منطق الحرب الأبدية.
هل يمكن أن نفهم لماذا ركزت الاستراتيجية الوطنية المصرية لحقوق الإنسان (سبتمبر ٢٠٢١) على العامل الثقافي في معالجتها؟ وقفزت على العوامل الهيكلية التي أنتجت انتهاكات هذا المجال.
في الجمهورية الجديدة، أطلق على السجون- التي توسعت بكثرة- مراكز التأهيل والإصلاح. المطلوب فيها إعادة صياغة المحكوم سلوكيا وتربويا على مقاس سلطة، تحتاج إلى إصلاح وتأهيل. المجرم في هذه الحالة لا يقضي عقوبته؛ لأنه انتهك القانون، ولكنه يحتاج إلى إعادة تأهيل تربوي.
٤-صناعة التهديد: المهاجرون تهديد للوظائف ومستوى معيشتنا، والمسلمون تهديد للحضارة الغربية بقيمها، والسود تهديد لهيمنة الرجل الأبيض، والفيروس تهديد للاقتصاد والعولمة قبل البشر وصحتهم، والإرهاب تهديد للدولة الوطنية والاستقرار، والفقراء تهديد للنمو الاقتصادي… إلخ. هكذا يعيش الإنسان في الدولة المعاصرة في تفزيع وتخويف مستمرين؛ ليبقى الحال كما هو عليه، حين يتم إلقاء اللوم على الأقليات والفقراء والجماعات الإرهابية والعمال المهاجرين بديلا عن السلطة.
في سياسات التفزيع دائما، ما يتم استبدال شيء بآخر عبر ثنائيات متعددة، يتم إبراز التناقض والتعارض بينها: الحماية من الفيروس في مقابل انتهاك الخصوصية والتنازل عن بعض حقوق الإنسان، وفي الحرب على الإرهاب؛ الحفاظ على الدولة في مقابل القمع، وغلق المجال العام، وفي الهجرة؛ الرفاهية الاقتصادية في مقابل منع الهجرة.. إلخ.
المشكل، أن الحروب لا تنتهي ولا يتم تحقيق الهدف الذي تم التنازل له: حفظ الدولة أو القضاء على الفيروس أو الاستقرار أو زيادة الوظائف أو الرفاهية الاقتصادية.
هل يمكن أن تشرح لي استمرار التخويف من تداعيات تكرار ثورة يناير ٢٠١١ في مصر كل هذه السنين، برغم سرعة النجاح في القضاء عليها؛ مع حديث متكرر عن الخوف من انزلاق الأحوال إلى الفوضى؟
٥- نزع المواطنة أو انتقاصها عبر التصنيف/ الإزالة؛ فالدولة تستثمر قوتها في تحديد المشمولين بمواطنيتها، وتخلق الاستبعاد وتحوله إلى قواعد مؤسسية وقانونية، وهذا ربما يفسر إصرار السلطات المصرية على ضرورة تخلي مزدوجي الجنسية من المصريين عن جنسيتهم المصرية لإطلاق سراحهم. وفق قانون الإرهاب، لم يتبق لمن وضع على قوائم الإرهاب غير التفريق بينه وبين زوجته، وحرمانه من الأبناء، تضاف إلى قائمة العقوبات!
الدولة تخلق عملية إزالة موحدة من خلال توسعة الجرائم التي تؤدي إلى ذلك، فهي تستخدم- على سبيل المثال- آليات إثبات قانونية أقل للفئات التي تشن عليها الحرب، وتوفر حماية إجرائية أقل من القانون العادي لهذه الفئات. في مكافحة الإرهاب ومناهضة الهجرة غير الشرعية ومواجهة الاقليات.. إلخ. هناك اتساع دائم للسلطة التقديرية لمؤسسات إنفاذ القانون، أو مبالغة في استخدام العقاب.
يجب التنبه، إلى أنه في كل مرحلة من مراحل صراع الدولة المعاصرة مع قضية ما يترك لهذه القضية أن تقود المجالات الأخرى وتعيد تشكيلها. في الولايات المتحدة- على سبيل المثال- لم يتم صياغة سياسات جديدة للهجرة بعيدا عن الحرب على الإرهاب بعد ١١ سبتمبر. وفي مصر جرى تصحير/ تجريف المجال العام منذ ٢٠١٣ في إطار الحرب على الإرهاب، وما أسميته عقيدة/أيديولوجية الأمن القومي التي تقوم على التفزيع والتخويف من مصير سوريا وليبيا واليمن.
يلاحظ في هذا الصدد، أن زيادة التركيز بتخصيص الموارد لقضية ما؛ معناه الغفلة أو تقليل الاهتمام بالقضايا الأخرى التي تنازع هذا الاهتمام، وهنا يمكن أن يكون سد النهضة مثالا جيدا. ألهى الإرهاب الدولة المصرية عن الاهتمام بتهديدات الأمن القومي التي أحاطت بها من كل مكان.
انتقاص حقوق الفئات التي يتم شن الحرب عليها بتحويلهم إلى حالة اللا مواطنية؛ هي المقدمة الضرورية لانتهاك حقوق المواطنين أنفسهم، فقد أثبتت الدراسات، أن الحقوق التي يتم انتقاصها في هذه الأوقات- أوقات الحروب والأزمات- لا يتم استردادها؛ لأننا ننتقل من حرب لأخرى.
في سبيل الحفاظ على الدولة المصرية؛ فإنه يجب القضاء على وعدم تكرار المقدمات التي أدت إلي يناير من فتح للمجال العام، وحراك جماهيري في الشارع، وحرية رأي وتعبير في الصحافة والإعلام، وكذا السماح بتقوية المجتمع المدني والنقابات المهنية والعمالية، أو حتى القبول بقطاع خاص، يتمتع ببعض عناصر الاستقلالية عن الدولة. ولتحقيق هذا التصور يجب أن تكون هذه المكونات جميعا تحت ضغط دائم ومستمر، وبعضها لا بد أن يصل إلى حالة الإنهاك، وفي الأخير لا بد أن يتم القضاء عليه تماما.
اقرأ في هذه السلسلة:
١-استباحة العدالة الجنائية في مصر بعد ٢٠١٣
٢- محددات فهم النظام العقابي للجمهورية الجديدة
٣- العدالة الجنائية في مصر بعد ٢٠١٣: استراتيجيات الاستباحة الست