
الصادر عن منصة “فكر تاني” – يناير 2025
مصر بين مطلبي الإصلاح والتغيير
يكاد في هذه اللحظة يكون هناك إجماع بين قطاع واسع من المصريين على أن “الحياة لم تعد تلذ” -كما عبر لي أحد السائقين الذين أتعامل معهم دوريًا. يصف أبو حسام حياته غير اللذيذة من خلال معاناته مع ارتفاع الأسعار وتدهور الخدمات العامة من صحة وتعليم، وتغير طبع المصريين وسوء الأخلاق العامة والخاصة، وبرغم أنه يثني على مشاريع الطرق التي سهلت حركته في أنحاء القاهرة الكبرى وتنقله بين المحافظات؛ إلا إنه يرى وجوب توقف الإنفاق العام عليها “فلكل شيء نهاية”. هو يحمّلها بشكل كبير المسؤولية عن معاناته وأسرته.
بات السؤال المطروح على مصر الآن هو كيف نبدأ الإصلاح بجدية؟ “الإصلاح المُلّح” أو “الضروري” هو ما يجب أن نعتني به جميعا -مجتمعًا ودولة-، وهو ما يتطلب استبعاد الأصوات المتشنجة في كل ضفة. الاستبعاد لا يعني بالطبع الإقصاء بعصا السلطة أو القمع، ولكن يجري بزيادة الأصوات العاقلة التي يجمعها الإصلاح؛ وإن تفاوتت وتباينت رؤاها حول دروبه ومسالكه، وأولوياته ومداخله، وهو ما يعتني به هذا الكتاب.
يضم الكتاب بضعًا وعشرين علمًا من أعلام الحياة العامة المصرية. تنوعت مشاربهم السياسية والفكرية، وتباينت تخصصاتهم، واختلفت أجيالهم، إلا أن ما يضمهم جميعًا رغبةً في الإصلاح. هم لم يقفوا عند الأمنيات والرغبات ولكن قدموا توصيات، واقترحوا سياسات وإجراءات ومبادرات.
أسئلة الإصلاح -في تقديري- لم تعد أسئلة العقد الأخير من عمر حسني مبارك (1981-2011) التي تركزت حول: الحريات، وقمع الشرطة، والتوريث، والتزاوج بين المال والسلطة.. إلخ. أسئلة الزمن المعاصر هي الأسئلة التي فرضها العقد الأخير من عمر ما أُطلق عليه “الجمهورية الجديدة”، وهي في تقديري تتعلق بجوهر الوجود السياسي للمجتمع والدولة المصرية من قبيل:
1- ما هي طبيعة العقد الاجتماعي الذي يبدو الآن من خلال الممارسة جديدًا بالكلية، وإن لم تتم صياغته؟
2- معضلة التمثيل في مصر: من يمثل من؟ الدولة تخلت عن تمثيل مواطنيها، واحتلتها زمرة محدودة تسعى لتمكين مصالحها، وفي الوقت نفسه لا يزال هناك طلب من المصريين على الدولة لتقوم ببعض وظائفها، وهي في نفس الوقت غير راغبة أو عاجزة عن القيام بذلك.
3- كيف نوقف سياسة الإفقار لقطاع كبير من الطبقة الوسطى وما دونها، وقبل ذلك من المسؤول عن هذه السياسة؟ وهل هناك بدائل لها أم هي حتمية نتيجة ميراث ما قبل الجمهورية الجديدة؟ وما العلاقة بين الديمقراطية وبين إقرار السياسات العامة وأولويات الإنفاق فيها؟
4- كيف أصبح النظام قويًا والدولة ضعيفة متحللة؟ قدم العزيز سامر سليمان، أستاذ الاقتصاد السياسي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة -رحمه الله- إجابته من خلال عصر مبارك، ولكننا نحتاج -فيما أظن- تقديم إجابة جديدة تدرك ما طرأ على الدولة والنظام من تطورات.
5- ما هو الدور الإقليمي لمصر في ظل اللحظة أو الزمن الخليجي؟
6- كيف يمكن إحداث تجديد نخبوي في ظل ضعف وهشاشة الموجودة، وانغلاق أو انحباس الحراك الاجتماعي داخل المجتمع المصري الآن؟
هذه مجرد أمثلة لما ينبغي أن ينشغل به العقل المصري الآن، ويضم الكتاب مجموعة أخرى من الأسئلة والموضوعات.
بين الإصلاح المُلّح والتغيير الضروري
يمكن إبداء الملاحظات الست التالية فيما يخص مطلبي الإصلاح والتغيير في الواقع المصري:
أولاً: الطلب على الإصلاح
هناك إجماع بين قطاع من المصريين على الاستقرار والأمن خوفًا من انزلاق الأوضاع إلى حالة تشبه ما جرى في الفترة من 2011 إلى 2013، أو ما باتت تعانيه بعض دول الإقليم التي انزلقت إلى حروب أهلية.
أي اضطرابات اجتماعية -في إدراك المصريين الآن- ستكون أشبه بثورات الجياع التي لا يمكن لأحد “لمها” -على حد تعبيرهم.
في الوقت الذي تسيطر على هذه القطاعات هذه المخاوف؛ إلا أن الأسس التي يقوم عليها مفهوم الاستقرار لم تعد واضحة. أثبتت السنين العشرة الماضية من عمر النظام أن الارتكاز إلى عقيدة الاستقرار والأمن القومي التي رفعها لم تحقق لعموم المصريين العيش الكريم الذي وعدوا به.
أظن أن اهتزاز وعدم وضوح أسس الاستقرار تدفع لاقتران الإصلاح بالاستقرار؛ فقد باتا وجهان لعملة واحدة. كانت الانتخابات الرئاسية الأخيرة 2024/2023 آخر فرصة أُهدرت لحدوث هذا الإصلاح المقترن بالاستقرار. يرى البعض أنه لا يمكن استرداد جوهر هذه اللحظة إلا من خلال ممارسة مزيدًا من الضغوط للوصول إليها مرة أخرى.
نقص الموارد وسوء توزيعها وتطورات الإقليم من حولنا تزيد الضغوط، لكنها تحتاج استجابة راشدة من النظام، وقرارات نافذة عاجلة تدفع بالإصلاح قُدمًا. فهل نشهدها في قابل الأيام؟ -أرجو ذلك، كما يرجوه جل المصريين.
ثانيًا: الطلب على التغيير
هناك فجوة شرعية تتسع يومًا بعد آخر بين النظام والكتلة الأكبر من المصريين دون الثلاثين. تبلغ فئة الشباب في مصر أكثر من نصف السكان تقريبًا، فطبقًا لبيانات السكان عام 2022: بلغ عدد الشباب في الفئة العمرية (18 إلى 29 سنة) 21.6 مليون نسمة بنسبة 21% من إجمالي السكان، ويعتبر المجتمع المصري فتيا إذ تشكل الفئة العمرية (أقل من 15 سنة) حوالي ثلث السكان بنسبة 34.2%.
جذور الغضب متعددة لدى هذه الفئات وهي تجمع بين المعاناة الذاتية لهم. وبين انخفاض مستوى معيشة أسرهم، مع الغضب المتولد من الإبادة الجماعية في غزة.
أظهرت السوشيال ميديا بعضًا من سمات كتلة الغضب هذه: نبرة المعارضة لديها جذرية وأكثر شمولاً، وتتسم بنزعة انتقامية شبيهة بتجربة مصر الفتاة في الأربعينيات من القرن الماضي، ولا يوجد تمييز لديها بين الدولة وبين النظام؛ ساعدها على ذلك ممارسة النظام ذاته الذي قضى على الميراث التاريخي للتجربة المصرية التي تشكلت على مدار قرنين من السنين. سمحت هذه الخبرة التاريخية بتمتع بعض مؤسسات الدولة بالشرعية نتيجة استمرارها في أداء وظائفها وأدوارها بغض النظر عمن يشغل قمة النظام.
يلاحظ وجود طلب على السياسة لدى قطاع منها، كما جرى في تجربة المرشح الرئاسي المسجون حاليًا أحمد الطنطاوي. أظهرت حملته قدرة على اجتذاب فئات شبابية لم تمارس السياسة من قبل، كما اجتذبت الحملة أيضًا قطاعًا من إصلاحيي الشعب المصري الذين أشرنا إليهم عاليه.
ثالثًا: غياب البدائل السياسية
لا يريد النظام بديلاً، ويقضي على أية إمكانية لتشكله.
أما ما يطلق عليها المعارضة بتنويعاتها كافة فهي تعاني من: التشرذم والاستقطاب، فقدان الجرأة والرؤية السياسية، وتخضع أو تستجيب بعض مكوناتها للهندسة القسرية التي يمارسها النظام معها، وتغيب أو تضعف قدرتها على التمثيل لمصالح فئات اجتماعية محددة.
تدخل السلطة في المجال السياسي بالهندسة القسرية أو الطوعية يطرح معضلة التمثيل في المجتمع المصري؛ فالدولة غاب عنها التمثيل لشرائح اجتماعية محددة لتغير طبيعة العقد الاجتماعي بها، واحتلتها زمرة محدودة من تحالف الحكم الذي بات ضيقًا، ومع غياب الواجهة السياسية للنظام وضعف الأحزاب السياسية والمؤسسات الوسيطة من نقابات ومجتمع مدني؛ غاب التمثيل لمصالح المجتمع. لم يُنشئ النظام أية قنوات للتعبير عن المظالم الاجتماعية والمحلية والشخصية، أو على أقل تقدير ليست واضحة وغير معلوم مساراتها.
السؤال الذي نتقدم به بعد هذه النقطة هو: هل يمكن للمجتمع السياسي المصري بلورة بديل خلال السنوات الخمس القادمة -التي تبقت من الولاية الثالثة والأخيرة للسيسي- وهل هو قادر على أن يستجيب لمخاوف الفئة الأولى وطلبها على الإصلاح وفي نفس الوقت يستطيع أن يجتذب قطاعًا من الفئة الثانية لمشروعه، مع استفادته من ضغوطها نحو التغيير الشامل والجذري؟ أم أن الأحداث ستُفاجئ الجميع كما جرى في سوريا؟
رابعًا: الطلب الإقليمي والدولي على أدوار النظام رهبًا أو رغبًا
أما الرهب فهو الخوف من انزلاق الأوضاع في مصر إلى عدم الاستقرار تحت ضغوط الأزمة الاقتصادية وأحوال الإقليم المضطربة، خاصة بعد طوفان الأقصى وما أحدثه من تغير جيواستراتيجي في عموم الإقليم، ونهاية نظام الأسد وما طرحه من قضايا وإشكالات، يضاف إليها هواجس الاتحاد الأوروبي من قضايا الهجرة عبر المتوسط، وإن رأى البعض أن المصالح الأهم لبعض دول الاتحاد الأوروبي هي استمرار تدفق الأموال من المصريين لهم عن طريق الديون والتعاقدات على المشاريع الكبرى.
أدار النظام بمهارة فائقة هذه المخاوف لدى الأطراف الإقليمية والدولية بما سمح له بتأكيد مقولة: “مصر أكبر من أن تفشل”. تثبت التدفقات المالية الهائلة بعد حرب غزة (بلغت ما يفوق الـ58 مليار دولار) أن “مصر ليست أكبر من أن تُنقَذ، لكنها أثقل من أن تعوم”.
أما الرغب فيتأتى من بقايا أدوار أمنية وسياسية يمكن أن تساهم بها مصر في جلب الاستقرار للإقليم وتحقيق مصالح بعض الأطراف مثل دور الوساطة في غزة، أو الدور الأمني في اليوم التالي للحرب فيها، أو أمن البحر الأحمر، وبالطبع ما استقرت عليه مصالح الولايات المتحدة لعقود -أي حرية الملاحة البحرية والجوية، وأمن إسرائيل.
أدى امتزاج الرغب بالرهب لدى الأطراف الإقليمية والدولية إلى ثلاث عناصر متكاملة:
1- مزيدًا من حضورهم في السياسة الداخلية المصرية، خاصة أن شبكات مصالح هذه الأطراف ممتدة في هياكل الدولة، وتتشابك مع أطراف أخرى مُعولَمة.
2- تنافس واضح بين شبكات الامتياز هذه التي يمتزج فيها المصالح المالية برؤاها حول الأمن الإقليمي مع تصوراتها حول طبيعة السياسة والقيم التي يجب أن تحكم الإقليم، مع من له حق قيادة المنطقة.
التشققات بين شبكات الامتياز قد تدفع بالاضطرابات الاجتماعية قُدُمًا لكنها لن تؤدي إلي إصلاح أو تغيير. هي حتى الآن ترى في بقاء الحال على ما هو عليه هو السبيل للحفاظ علي مصالحها.
3- ارتهان النظام لعدم اليقين الاستراتيجي الذي هو سمة واضحة للعالم من حولنا والإقليم. الحرب الأوكرانية والطوفان وسوريا ومن قبل جائحة كورونا مجرد أمثلة يمكن أن يضاف لها عديد الأمثلة.
وعدم اليقين الاستراتيجي يعني مزيدا من التحديات والأزمات التي تحتاج إلى إدارة ديناميكية مبادرة.
الخلاصة: مصر كما هي قوة استقرار للإقليم؛ فهي في نفس الوقت مهدد له بحكم انكشافها الداخلي وأزماتها المتعاقبة.
خامسًا: أزمات متراكمة بعضها فوق بعض إذا أُخرجت يد الحل منها لا تكاد تراها
لن تكون أزمة المراجعة الدورية لصندوق النقد الدولي هي الأخيرة، فقد سبقتها أزمات العملة والتضخم وسد النهضة وغيرها، وستتلوها أزمات لأنها في النهاية تعبير عن عوامل هيكلية لا يتم التعامل معها، والأخطر أنها باتت أزمات تعمل كالمغناطيس الذي يجذب أزمات أخرى مثل: الديون وتوفير العملة الصعبة وسياسة الطاقة والعلاقة مع إسرائيل وطبيعة اتخاذ القرار وتقرير الإنفاق العام في الدولة…، والأخطر أن النظام لم يعد قادرا على أن يرسل إشارات إيجابية لمواطنيه بقدرته على التعامل معها وتدارك تداعياتها الحالية على المصريين.
يفتقد النظام الموارد السياسية -التي أهدرها على مدار العقد الماضي- للتعامل مع هذه الأزمات، وأصبحت السهام مصوبة نحو قيادته؛ فهي وحدها تتحمل المسئولية كاملة عما آلت إليه أوضاع المواطنين والوطن من إنهاك وانكشاف.
وكما قلت مرارًا وتكرارًا فإن الدولة، وفي قلبها النظام وقيادته، والمجتمع ندفع ثمنًا باهظًا لغياب وتصحير السياسة.
وهنا يثور السؤال: هل يمكن وفق منطق الأزمات المتراكمة أن تنجب الاضطرابات الاجتماعية المتسعة أو المحدودة؟ خاصة أن النظام -حتى الآن- عاجز وغير قادر لو أراد، عن أن يغير نمط الحكم وتحالفاته الذي قاد به السياسة والاقتصاد والعلاقات الخارجية للسنوات العشر الماضية.
الخيارات الاقتصادية والسياسية، الجديد منها والقديم نتاج التفاعل بين مجالات ثلاثة: تحالف الحكم الذي في قلبه المؤسسات التي يطلق عليها سيادية، وهيكل الرأسمالية الذي تبرز معه التحالفات المؤسسة على اختيارات اقتصادية محددة جوهرها نيوليبرالي، وشبكات الخارج الداعمة والمساندة للنظام وقيادته أو المعوقة لهما.
هل يمكن أن نشهد تغييرًا في هذه المكونات الثلاثة فيما تبقى من سنوات الولاية الأخيرة للسيد الرئيس؟ سؤال يستحق المتابعة ونحن مقبلون على انتخابات برلمانية في 2025.
سادسًا: استمرار التداعي الحر لأحوال العباد والبلاد
يمكن أن يستمر هذا التداعي حتى ما بعد 2030 سواء اختلف من تبوأ مقعد الرئاسة أو استمر، وهو أسوأ السيناريوهات لأنه يعني في نهاية المطاف دولة تحللت أركانها ومجتمعا أُنهكت قواه. وهي حالة من الاضمحلال لم يعد يجدي معها إصلاحًا ولا تغييرًا، وإمكانية الوصول فيها للاحتراب المدني -ولو بوسائل غير عنيفة- وارد جدًا.
تصاعدت معدلات الجريمة في المجتمع، وباتت التفاوتات في الفرص والدخول والثروات مستفزة، وتبرزها السوشيال ميديا بجلاء. وانتشرت المخدرات التي اتسع نطاقها لتشمل فئات لم تكن تتعاطاها من قبل، والرغبة في الهجرة متزايدة، وبطالة الشباب مرتفعة، ويتفشى الفقر بين قطاعات تصورت أنها محصنة ضده، وتدهور الأمن الغذائي لقطاعات من المصريين حين وصلت الأزمة الاقتصادية لمائدة طعامهم، وبرامج الحماية الاجتماعية لم تعد تُسعف. ونعاني من انقسامات اجتماعية حادة وعنيفة، وعدم وجود بنية ثقافية أو مؤسسية للحوار أو التنسيق وإيجاد تسويات معقولة.
ما الذي يمكن أن تنتجه هذه العوامل إذا تفاعلت فيما بينها؟
المراجعة شرط الإصلاح أو التغيير
هل نحتاج لهزائم ونكسات على غرار هزيمة 67، أو تعثرات في مسار الفترات الانتقالية مثل ما شهدناه بعد 2011، أو أزمات وطنية شاملة وفق ما نشهده الآن؛ لنجري عمليات المراجعة الوطنية لمجمل القواعد التي قامت عليها الدولة وتأسس عليها المجتمع، والمسلمات التي تحكم نظرتنا لأنفسنا والعالم المحيط بنا؟
صحيح أن الهزائم والتعثرات والمآزق الوطنية أحد شروط البدء في المراجعات، لكن السؤال الأهم: لماذا لا نمارس عمليات المراجعة بشكل دائم ومستمر؟ ولماذا لا نتجنب الهزائم والنكسات والأزمات بالمراجعة؟ و”النون” هنا عائدة على الدولة والمجتمع والنخب والتنظيمات والكيانات.
أسئلة أخرى: لماذا لا يراكم المصريون ولا يتعلمون من أخطائهم التاريخية أو حتى الأزمات التي تمر بهم، وبالتالي تصبح قدرتهم محدودة على المراجعة ونقد الذات؟ وهل بات قدرنا أن نكون في دورة تاريخية لإعادة إنتاج النكسات والأزمات والمآزق الوطنية العامة دون هوادة ولا توقف؟
قُدّر لكاتب هذه السطور وقد تجاوز عمره الستين قبل شهور قليلة أن يشهد أحداثًا كبرى كان يجب التوقف أمامها طويلاً. دخلت الجامعة أوائل الثمانينيات -بعد مقتل السادات أكتوبر 1981- مع بداية نظام سياسي جديد اندفع في مراجعة بعض السياسات واتخاذ بعض القرارات التي تحرره من الصورة التي رسمها سلفه. أطلق سراح المعتقلين السياسيين، وعقد مؤتمرًا اقتصاديًا ضم نخبة مصر المميزين في هذا المجال.. إلخ. النتيجة النهائية تكاد تكون محدودة؛ فلا الاقتصاد تغير، ولا السياسة اختلفت طبيعتها، ولا نزال في أزمات متوالية في هذين المجالين حتى الآن.
وكانت الحرب العراقية الإيرانية التي امتدت لما يقرب من عقد من السنين (1980-1988)، وحرب الخليج الثانية 1991، ثم غزو العراق 2003، مرورًا بالانتفاضات الفلسطينية المتعاقبة التي اندلعت أولاها -انتفاضة الحجارة- 1987 ولاتزال حلقاتها مستمرة منذ ذلك التاريخ حتى طوفان الأقصى أكتوبر 2023.
شهدنا انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة 1991/1990، وانفراد الولايات المتحدة بقيادة النظام الدولي، وتفجير برجي التجارة في سبتمبر 2001، وإعلان “الحرب على الإرهاب” التي شهدنا تحت ظلال صواريخها وقنابلها غزو العراق 2003 وأفغانستان 2001، ودعاوى الشرق الأوسط الكبير -كما صاغته كونداليزا رايس مستشارة الأمن القومي ووزيرة الخارجية في إدارة بوش الابن.
يمكن أن استطرد في سرد التحولات التي شهدناها؛ لنشير إلي الانتفاضات العربية بموجاتها المتعاقبة، والتطورات الجيواستراتيجية في الإقليم بعد الحرب الجارية على المنطقة، والحدث السوري المزلزل، وتطورات هيكل القوى في النظام الدولي الذي لم تعد فيه الولايات المتحدة منفردة بالقيادة، ولكني أخاف أن يمل القارئ، رغم ذلك فمن محاسن الأقدار أن كاتب هذه السطور وقد عاين بداية هذه التطورات الكبرى؛ فإنه يشهد الآن نهاياتها أو للدقة تحولاتها، والتي بات عنوانها الجديد القديم “الشرق الأوسط الجديد”، وهو مصطلح يدل على مدى السيولة التي نعيشها داخل أقطارنا، وفي الإقليم والعالم من حولنا.
سيولة الإقليم وعدم اليقين الاستراتيجي على المستوى الدولي، وأزمات الداخل تتطلب توفير شروط المراجعة الوطنية الخمسة:
1– استشعار نفسي وقيمي يشيع في المجال العام يدفع للمراجعة الوطنية دون وجل ولا خوف، ولن يتحقق ذلك إلا بتجاوز مناخ الاستقطاب الذي يقوم بتوظيف هذه المراجعات في عمليات دعائية، أقل ما يقال عنها أنها رديئة.
تعلمت من خلال تصميم عملية للنقد الذاتي للكيانات السياسية المصرية بعد 2013 أن إطلاق هكذا عملية من شأنه أن يسترد الثقة في الكيان من أعضائه أولاً، ومن مناصريه ومؤيديه ثانيًا. نحن نحتاج أن نسترد الثقة المفقودة لدى عموم المصريين في مؤسسات الدولة وتنظيمات السياسة ونخب الفكر والثقافة، وبدون ذلك ستظل مصر “دولة مُنهكة”.
2– إطلاق حالة حوار حقيقة. أدرك أن كلمة الحوار قد ابتذلت من الجميع في أعقاب الفترة الانتقالية التي انطلقت بعد 2011، ولن يكون آخرها الحوار الوطني الذي بدأت الدعوة له في أبريل 2022، ولكني أعلم أيضا بحكم تخصصي وممارستي لتصميم عمليات الوساطة والحوار أن هذه ليست حوارات وإنما توظيفات سياسية رديئة لعملية لها شروطها ومتطلباتها التي لم يحرص أحد على توفيرها، وأعلم أيضًا أنه بدون بناء حد أدنى من التوافقات، فإن هذا الوطن لن يبرح مكانه متدثرًا في أزماته.
السكون وعدم الحركة مدعاة للموت لأن العالم والإقليم من حولنا يتغير ويشهد تحولات عميقة استدعت أن تكون الكلمة المفتاحية فيه “عدم اليقين” -كما قدمت.
3– إعادة صياغة الأسئلة والإشكالات المرتبطة بها والتحرر من القديم منها، ويستدعي ذلك أمران بالغا الأهمية:
أ- الانطلاق من الواقع والوقائع لا من التصورات الفكرية عنه، خاصة أنها باتت قديمة عقيمة.
ساد تفكيرنا لعقود الثنائيات المتعارضة: نحن والغرب، الإسلامية والعلمانية، القطاع العام والخاص، الأصالة والمعاصرة، انسحاب الدولة من الاقتصاد أو تمددها، بيع الأصول المملوكة للدولة أو حرمة ذلك.. إلخ.
هذه الثنائيات سيطرت علي تفكيرنا على مدار القرن العشرين بأكمله، ولايزال كثير منها مستمرًا معنا. لم نلحظ مساحات التداخل والامتزاج بين هذه الثنائيات جميعًا: نحن نعيش في العرب والغرب يعيش فينا، والإسلامية والعلمانية في الواقع يختلطان؛ فقانون الأحوال الشخصية -مثالاً- مرجعيته الشريعة وتقره مؤسسة مدنية هي البرلمان، ويحكم به قضاة تلقوا تعليمًا وتدريبًا مدنيًا، وفي عتاة الرأسماليات الغربية لا تزال الدولة تقدم دعمًا لمواطنيها وبعض الصناعات فيها. تقدم إدارة بايدن مساعدة تصل إلي خمسة آلاف دولار لكل سيارة كهربائية تنتجها شركة فورد وغيرها من الشركات في إطار ما يطلق عليه “السياسة الصناعية الجديدة”، وهكذا في كل مجال لم تعد الثنائيات المتعارضة هي ما يحكم الواقع.
ب- لابد أن ترتبط الأسئلة والإشكالات باحتياجات الناس العادية وتطلعاتهم نحو العيش الكريم، لا متطلبات الدولة والسلطة فقط، أو قيود الأيديولوجيا. المنظور الذي يجب من خلاله المراجعة هو فهم أولويات الناس ودمجها في السياسات العامة.
في حوارات هذا الكتاب عدد من القضايا التي أشار المساهمون فيه إلى ضرورة مراجعتها، وهي تتنوع بين قضايا تخص الدولة المصرية، إلى قضايا تتعلق بتجديد فهمنا للسياسة المحلية أو الوطنية، وقضايا الاقتصاد، ومبادرات استعادة المسار الديمقراطي، بالإضافة إلى معضلات عمل المجتمع المدني وأوضاع حقوق الإنسان.
4– مؤسسات ونخب قادرة على أن تسهم في هذا التجديد بما تملكه من خبرات ومهارات وانفتاح على العالم، وقدرة على ترجمة التصورات والرؤى إلى برامج وسياسات. أظن أن مصر تمتلك من هذه النخب الكثير، والكتاب يقدم أمثلة عليهم، لكنها تحتاج إلى أن تنظم نفسها في مؤسسات وشبكات تدفع برؤاها الإصلاحية قُدُمًا.
وأحب أن ألفت النظر في هذه النقطة إلى ما يمكن أن تساهم فيه “الدياسبورا المصرية” من دور في هذه المهمة. المصريون المهاجرون تغيرت وجهتهم -خاصة الفئات الأكثر تعليمًا- نحو العالم المتقدم. راكموا من الخبرات والمهارات ما فاق كثيرًا نظراءهم في الواقع المصري المأزوم.
أتابع بعض إنتاجهم في حقل العلوم الاجتماعية؛ فأجد شبابًا نابهًا جديدًا يدرس موضوعات جديدة بمناهج وأدوات بحثية جديدة وهو جزء من حركة العلم في مجاله غير منفصل عنها أو متوجس منها بل مشارك فيها، والأهم أن هموم وطنه لا تزال من شواغله. صحيح أن التشبيك بينهم مفقود، وكتاباتهم لم تنقل إلى العربية بعد، بما يقلل الاستفادة من أدبياتهم، لكنهم من أهم الروافد -فيما أظن- لحركة المراجعة الوطنية المُلّحة.
5– وجود هياكل سياسية قادرة على الاستفادة من هذه المراجعات بتحويلها إلى سياسات وبرامج.
مما ميز مصر وكثير من بلدان المنطقة أن هناك اشتعال للجدل العام في كل الموضوعات والقضايا، وزادته أدوات السوشيال ميديا التهابًا، لكنه في النهاية جدل عقيم لا تأثير له في الواقع المعاش، والسبب هو ضعف الهياكل السياسية. وزاد الطين بلة تصحير السياسة على مدار العقد الماضي، لذا فإنه بدون استعادة السياسة وفق منظورات جديدة؛ فلن يكون لجدالاتنا الفكرية والسياسية أي أثر في السياسات العامة إلا مزيدًا من الاستقطاب.
استعادة السياسة لبر مصر ستجعل من المراجعات صفة لصيقة لحياتنا كلها. السياسة في أحد جوانبها بدائل متنافسة، ولن يتحقق لها ذلك إلا بنقد بدائل السلطة والمعارضة، بما يدفع أصحابها للمراجعة كمقدمة ضرورية للإصلاح أو التغيير.
وعلى الله قصد السبيل
ومنها جائر
هشام جعفر
15 ديسمبر 2024