نُشر في الجزيرة.نت – أغسطس 2023

الدولة كيان اجتماعي متطور، لذا فقد تم وصفه بأوصاف عديدة اختلفت باختلاف المراحل التاريخية التي مرت بها والسياقات والتطورات التي أنشأتها، والمنظور الذي تنظر من خلاله.

أولا: دولة الرفاهية

هي التي انتشرت بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945) في الغرب، وهي نتيجة للحرب الشاملة الحديثة. تطلب اقتصاد الحرب الشامل مشاركة جميع المواطنين ومحو الفروق بين العسكريين والمدنيين. ومن ثم، فإن اقتصاد الحرب يستفيد من مساعدة السكان المدنيين، كما أن تداعيات الحرب، من نقص في السكان وتدمير المساكن والمباني الأساسية، تتطلب دولة قادرة على معالجة هذه التداعيات.

ثانيا: دولة المافيا

في السياسة، “دولة المافيا” -التي صاغها ألكسندر ليتفينينكو- هي نظام ترتبط فيه الحكومة بالجريمة المنظمة إلى الدرجة التي يصبح فيها المسؤولون الحكوميون والشرطة والجيش أو أحدهما جزءا من المشروع الإجرامي.

ثالثا: الكلِبتوقراطية أو حُكم اللصوص

هي حكومة يستخدم فيها القادة الفاسدون السلطة للاستيلاء على ثروة شعوبهم، عادة عبر اختلاس أو سرقة الأموال الحكومية على حساب عموم الناس. واللفظ مشتق من مقطعين باللغة الإغريقية: أولهما “كلبتو” ويعني “اللص”، والثاني “قراط” ويعني “الحُكم”.

رابعا: الدولة المفترسة

أما الدولة المفترسة، فيُقصد بها دولة تروج للمصالح الخاصة للجماعات المهيمنة داخل الدولة، مثل الأسر الحاكمة، والسياسيين، والجيش، والبيروقراطيين، أو المجموعات الخاصة المؤثرة التي تتمتع بسلطات ضغط قوية، مثل الشركات الكبرى أو بعض العائلات. وهنا، لدينا سلطة مفرطة لتحالف الحكم القائم، ويستخدمون هذه السلطة ليس فقط للحد من إعادة توزيع الثروة والدخل والفرص، ولكن أيضا لتشكيل قواعد اللعبة لمصلحتهم، ولمنع شبكات المصالح المتنافسة من منافستهم والاستحواذ على مصادر القوة كما يفعلون.

الدولة المفترسة تبني قواعدها وتشكل مؤسساتها وتصوغ قوانينها وترسم سياساتها بهدف تعزيز المصالح الخاصة لمجموعات الامتياز المهيمنة داخلها، أو المجموعات الخاصة المؤثرة التي تتمتع بسلطات ضغط قوية. الدولة الطائفية في لبنان، والدولة المتوحشة في سوريا، ودولة الكيزان في السودان هي مجرد أمثلة من بين الأمثلة التي تتكرر في المنطقة العربية.

هذه النوعية من الدول لا تختص بالنظم السلطوية أو الاستبدادية فقط، بل توجد أيضا في الديمقراطيات الراسخة. وارتبطت نشأة المفهوم -كما صاغه جيمس غالبريث- أساسا بالنظام الأميركي واستُخدم في تحليل البلدان الأخرى.

ازدياد التفاوتات وعدم المساواة في جميع البلدان هو المظهر البارز لهذا المفهوم. فالنيوليبرالية المستندة إلى فكرة “السوق الإله” لم تؤدِ إلى توزيع الثروة والدخل والفرص بين الناس، بل رسخت زيادة ثروات القلة بشكل دائم وإفقار كثيرين بشكل مستمر. استطاعت هذه القلة أن تزيد ثرواتها مع كل أزمة يتعرض لها الاقتصاد الوطني أو العالمي. وكانت أزمة كورونا آخر الأمثلة، إذ زادت فيها ثروات الأغنياء وتدهورت حياة الفقراء.

في حالة الافتراس، لا يكون عدم المساواة الاقتصادية من الآثار الجانبية للتنمية الاقتصادية، بل هو نتيجة للمصالح الخاصة الجشعة التي تستحوذ على المزيد لصالحها.

حالة الافتراس في المنطقة العربية

المنطقة العربية، وفقا لتقرير لجنة الأمم المتحدة لغرب آسيا هي الأقل مساواة في العالم. عام 2020، كانت نسبة 58% من الدخل القومي بأيدي أغنى 10% من السكان، مقابل 8% فقط بأيدي أفقر 50% من السكان. الفقر متوارث بين الأجيال، فإذا وقعت أسرة في هوة الفقر، فمن المرجح أن تبقى فيها لأجيال عدة. عدم المساواة بين الجنسين في المنطقة العربية سجل، باستمرار، مستويات أعلى من المتوسط العالمي، إذ تشير التقديرات إلى أن سد الفجوة بين الجنسين في المنطقة العربية يتطلب 179 عاما، مقارنة بنحو 142 عاما على صعيد العالم.

مع معدل عام يبلغ 39 درجة من أصل 100 للعام الرابع على التوالي، لم يسجل أي بلد في المنطقة العربية تحسنا ملحوظا في مؤشر مدركات الفساد لعام 2021. وتشرح منظمة الشفافية الدولية أن السلوك السياسي الممنهج والمصالح الخاصة التي يتم تحقيقها على حساب المصلحة العامة سمحت بتعرض المنطقة -التي دمرتها بالفعل صراعات طويلة الأمد- لمزيد من الدمار بسبب الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان.

يزداد احتمال الافتراس عندما يتسم السياق السياسي بانتشار الفساد وعندما تكون المحسوبية مقبولة.

تُصوّر الدولة في حالة الافتراس على أنها عصابة ثابتة تصمم مؤسساتها لتعظيم الموارد التي يمكنها نهبها من مواطنيها؛ الطبقة الحاكمة قادرة على استخدام المؤسسات السياسية لمصلحتها على حساب الآخرين. إن المؤسسات التي تسهل البحث عن الريع والاستحواذ تفيد بشكل منهجي أولئك الذين يسيطرون على السلطة السياسية -النخبة- على حساب الجماهير.

فاعلية الافتراس

فعالية الافتراس تتحقق من القدرة على حماية الفريسة من الحيوانات المفترسة الأخرى، وهي هنا شبكات المصالح التي تسعى لاقتناص أي فرصة للانقضاض.

هناك ثلاثة شروط للوصول الحصري للفريسة:

أولا: التدجين للحد من خيار خروج الفريسة عن ملتهمها

من الأسهل على الدولة المفترسة أن تفترس مواطنيها إذا نظروا إلى أنشطة الدولة باعتبارها شرعية. إذا اعتبر المواطنون أنفسهم فريسة، فإنهم سيقاومون الدولة المفترسة، ولن يُنتجوا كثيرا مما قد تستطيع الدولة أن تستخلصه منهم.

يتحقق التدجين من خلال مجموعة من المقولات الأيديولوجية والممارسات العملية التي تروّج لها الدولة في الفضاء العام، مثل الصالح العام، والوطنية، والممارسات الانتخابية. وهذه العناصر الثلاثة مترابطة في ما بينها، ويُضاف إليها مفهوم الأمن القومي ليزيدها تأكيدا.

تؤكد الدولة العربية قدرتها على نهب مواطنيها من خلال الشرعية الانتخابية، التي تُظهر أعمال الحكومة “المنتخبة” كأنها تنفذ إرادة الشعب وكأنها تعبير عن الإرادة العامة، وبالتالي تُضفي الشرعية على تصرفات الدولة. تجري الدول العربية جميعا انتخابات منتظمة في مواعيدها، وتحرص عليها، وتحشد الناخبين من أجلها. ورغم ذلك، فلا يترتب على هذه الانتخابات تغيير في قواعد اللعبة أو في طبيعة المؤسسات التي تحكم. ودائما ما يتم استبعاد أو إقصاء المنافسين الذين قد يمثلون تهديدا لهذه القواعد المستقرة.

وهكذا، فإن الانتخابات المنتظمة تضفي الشرعية على الإجراءات الحكومية التي تفرض تكاليف على البعض لمنفعة الآخرين، استنادا إلى فكرة أنها -عند القيام بذلك- تعمل من أجل المصلحة العامة، كما أظهرته المؤسسات المنتخبة.

ثم تكون خدمة الدولة من خلال خطاب الوطنية، فخلال معظم تاريخ البشرية، استندت أنشطة الدولة المفترسة إلى فكرة أن المواطنين كانوا خدما للدولة. في كل الدول العربية اليوم، نشهد حركة نشطة لإحياء الوطنية على أسس جديدة، هي حركة تمتد إلى الدول التي استقرت هويتها الوطنية لعقود طويلة، مثل مصر والمغرب، كما تطول دولا أخرى ما زالت أسس هويتها محل تشكل، مثل بعض دول الخليج.

تتمثل الدعاية والأيديولوجيا في نقطة انطلاق لزمرة الحكم في كيفية تقليل تكاليف الافتراس، عن طريق إقناع فرائسها بأنها ليست فريسة.

ثانيا: الاستقرار السياسي

إن تعظيم إيرادات الدولة يحتاج إلى استقرار سياسي طويل الأمد، ويمكن تحقيقه إذا لم تكن سلطة الحاكم الحالي وتحالف الحكم مهددين من قبل الرعايا المتمردين. الطلب على الاستقرار والاستثمار فيه لم يعد شأنا خاصا بطرف دون آخر، ويكاد يكون عليه إجماع من الجميع في الداخل والخارج، من الأوروبيين والأميركان، وكذلك من الصينيين والروس، ومن زمرة الحكم والشعوب على حد سواء، ولكن كلٌ يغني على ليلاه في تحديد مقوماته وبيان المقصود منه.

لخلق تماسك بين قاعدة الحكم وقمته حول مفهوم الاستقرار وتأكيد الطلب عليه، استُخدمت 3 إستراتيجيات:

  1. خطاب التفزيع والتخويف من الانزلاق إلى عدم الاستقرار، كما في سوريا واليمن وليبيا.
  2. الحرب على الإرهاب، وكما في مفهوم الاستقرار، فقد اضطلعت كل زمرة حكم بتحديد المقصود بالإرهاب الذي تجب محاربته، فقد يتسع ليشمل كل الإسلاميين، وقد يضيق ليضم أحزابا قومية أو طائفية بعينها. الحروب غالبا ما تمثل ذريعة ممتازة لزيادة ميزانيات الدول، التي عادة ما تُمول من جيوب المواطنين بفرض مزيد من الضرائب والرسوم، التي لن يتساءل أحد في أجواء الحرب عن سبب فرضها، ولا عمن تُفرض، ولا عن لمصلحة من تُنفق. هل هناك علاقة بين زيادة موازنات الأجهزة الأمنية والعسكرية وتقلص الإنفاق العام على الصحة والتعليم؟ وما علاقة ذلك بشيوع خطابات الحرب؟
  3. حديث المؤامرة، إذ يتم الادعاء بأن الكل يتآمر على الدولة، ويستخدمون أدوات متعددة من حروب الجيل الرابع إلى منع المعونات والحصار الاقتصادي.

أدى تأثير الحرب الشاملة على الإرهاب وعدم الاستقرار في مواجهة المتآمرين من الداخل والخارج -بهدف تحقيق الأمن القومي- إلى تجانس المجتمع وإخضاعه لسلطة الدولة. إن الدمار المادي والبشري للحرب، والتخويف والتفزيع من تداعياتها لهما أهمية بالغة، لدرجة أن الدولة تظهر كأنها الملاذ الأخير للأمن والاطمئنان في الحياة واستحالة العودة إلى النشاط الاقتصادي الطبيعي. في هذه الأجواء، يمتنع النقد للسياسات المطبقة والتساؤل عن الانحيازات الاجتماعية لها، وتغيب المراجعات التي هي شرط أساسي للإصلاح.

المطلوب من الجميع هو الاصطفاف الوطني وحماية الأمن القومي المهدد. ويتم في هذه الصيغة اختزال الوطن في فئة دون أخرى. يمثل الشباب في الشريحة العمرية بين 10 إلى 24 عاما نحو ثلث المجتمع العربي (29%)، وهم يعيشون ظروفا تاريخية صعبة، إذ إن ثلث الراغبين في العمل منهم عاطلون، ونصفهم يتطلع إلى الهجرة، وفقا لاستطلاع صدر يوليو/تموز الماضي.

أما الأمن القومي، فقد صار المقصود به إعطاء الأولوية لبقاء النظام وإعادة إنتاج الائتلاف الحاكم، المكون من الأجهزة الأمنية والرأسماليين المحسوبين عليها والمتحالفين معها وامتداداتهم الإقليمية والدولية.

ورغم المحاولات التي تجري في بعض دول المنطقة لجعل الاقتصاد يقود السياسة -استعدادا لمرحلة ما بعد النفط في الخليج- فإن السياسة -في المجمل- تهيمن على الاقتصاد في المنطقة، لذا فإن الأداء الاقتصادي للبلدان العربية سيظل سلبيا ومتواضعا.

ثالثا: تكاليف الفريسة

يجب على كل مفترس أيضا تحمل تكاليف حماية الفريسة من التهديدات المحتملة من الحيوانات المفترسة الأخرى. سيكون افتراس الدولة أكثر فعالية وكفاءة عندما يكون ثمن الحماية منخفضا، وتكون جودة الحماية عالية، مما يوفر الأساس المنطقي للافتراس. في العصور القديمة، كانت إحدى وظائف كبير المماليك أن يحمي أرباب الحرف والصنائع والزراعة من عسف وجور المماليك الآخرين، لتظل عجلة الإنتاج قائمة وتدور، فيستطيع من خلالها أن يجني المكوس والأموال والضرائب.

تميزت أدبيات الاقتصاد السياسي بين حالتي الافتراس النشطة والسلبية. ففي الأولى، يجري قمع المنافسين الاقتصاديين والسياسيين الآخرين، ومصادرة ممتلكات وثروات بعض المواطنين. واستُغلت الانتفاضات العربية وما أعقبها من ثورات مضادة لتحقيق ذلك، فتم استبدال رجال الأعمال الجدد بالقدامى لضمان استمرار الافتراس.

في المقابل، تعمل الحكومة المفترسة السلبية على قمع منافسيها من خلال آليات السوق وتطبيق مزيد من السياسات النيوليبرالية التي تزيد الاحتكار في القطاعات المختلفة، وتعمق المساواة في توزيع الثروة والدخل والفرص، حسبما أشرنا من قبل.

هناك علاقة طردية بين تصاعد النيوليبرالية في المنطقة وزيادة افتراس الدولة، وأبرز مظاهرها وجود احتكارات في عديد من القطاعات.

تشمل تشكيلة الدولة الاستعاضة عن قُطّاع الطرق المتجولين -الذين يهتمون أساسا بالافتراس- بحالة أطلق عليها بعض باحثي الاقتصاد السياسي اسم “قُطّاع الطرق الثابتين”. لدى هؤلاء اللصوص الثابتين حوافز لتشجيع تكوين الثروة حتى لو كانوا مستبدين، بشرط أن يتوقع الحكام بقاءهم في السلطة في المستقبل المنظور.

لا يعتمد مدى الافتراس على ما يستطيع المفترس التقاطه فحسب، بل يعتمد أيضا على قدرة الفريسة على التهرب من الأسر. يتقلص نطاق الدولة المفترسة عندما تكون هناك إمكانية لتهريب الأصول، ويتوسع على “الأصول الأسيرة”، مثل الأرض والنفط. وقد يفسر ذلك تركيز الاقتصادات العربية على الريع المتولد من العقارات والصناعات الاستخراجية على حساب الصناعة والزراعة.

من الملامح المهمة لتحقيق الافتراس هو إضفاء الشرعية القانونية عليه. هناك هوس لدى الأنظمة العربية بألا تخرج تصرفاتها -خصوصا الاقتصادية- عن القانون، وربما يجد ذلك تفسيره في الإصرار على استمرار إجراء الانتخابات وانتظامها، لأنها تحقق أحد مقتضيات الشرعية القانونية.

تتطلب مكافحة الافتراس أن ينشئ الأفراد مؤسسات للعمل الجماعي توفر باستمرار فرصا للفريسة للدفاع عن نفسها من الدولة المفترسة. القانون، في النهاية، هو تعبير عن توازن القوى بين أصحاب المصلحة فيه. غياب مؤسسات منع الافتراس يجعل القانون تعبيرا عن مصالح المفترسين الأقوياء.

مصالح الشركات الكبرى مقابل الشركات المتوسطة والصغيرة تُدير الدولة بطريقة تجلب لهم -فرديا وجماعة- أكبر قدر من المال. فالشركات الكبرى لها امتداد إقليمي ودولي، وتتحالف مع العقود الرئيسية في هياكل الدولة، مما يجعل الافتراس حالة مُعولمة وليست وطنية فقط.

ختاما، لم تعد الدولة في الحالة المفترسة هياكل مستقرة لها مصالح ثابتة متبلورة ومحددة، بل شبكات من مصالح متعارضة متنافسة لها امتدادها المحلي والإقليمي والدولي، وهي تسعي دائما إلى ضمان استمرار افتراسها ومنع المفترسين الآخرين من أن ينفردوا بالفريسة، لكن كيف يعمل الافتراس العربي؟ هذا ما سأستعرضه في مقالى القادم.

Share: