نُشر في فكر تاني – سبتمبر 2025

في كل مرة يحاول فيها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو استعادة الردع الاسرائيلي بعد السابع من أكتوبر/تشرين أول؛ فإنه يقوض مكانة إسرائيل ويزيد عُزلتها الدولية، ويفاقم عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، ويعرقل مبادرات السلام بما فيها اتفاقات إبراهام.

إن الإجراءات العدوانية الإسرائيلية في قطر فاقمت عدم الاستقرار الإقليمي، وعمقت انعدام الثقة تجاه الضمانات الأمنية الأمريكية، وعقّدت آفاق السلام الدائم.

لقد أعادت استراتيجية إسرائيل الأمنية المتطورة، وخاصة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تشكيل علاقاتها الإقليمية وجهودها الدبلوماسية بشكل كبير، وانتقلت من نهج “الوضع الراهن” إلى نهج “القوة التعديلية“.

يعطي هذا التحول الأولوية للقوة العسكرية وتحقيق “النصر الكامل” على المشاركة الدبلوماسية، مما يؤدي إلى نتائج معقدة ومتناقضة في كثير من الأحيان فيما يتعلق بمكانتها في المنطقة.

نهج جديد للأمن

بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تخلى صناع القرار في إسرائيل عن نماذج الأمن القديمة، وخلصوا إلى أن احتواء جماعات مثل حماس أمر مستحيل دون المساس بالأمن القومي.

تتضمن الاستراتيجية الجديدة استخدامًا أكثر استباقية للقوة العسكرية لتشكيل نظام إقليمي جديد يحمي مصالح إسرائيل ويضمن لها الأمن الدائم.

لم تعد إسرائيل ملتزمة بـ “الخطوط الحمراء” السابقة، حيث تقوم علنًا بتنفيذ عمليات اغتيال مستهدفة لقادة الجماعات “المعادية”، بغض النظر عن مواقفهم السياسية أو مواقعهم، إذا اعتُبرت متورطة في أنشطة “إرهابية” معادية لإسرائيل.

تتجلى هذه الاستراتيجية في التدخلات العسكرية الأوسع -كما يظهر في العمليات البرية المستمرة في غزة، والجهود الرامية إلى إضعاف قدرات إيران النووية والصاروخية الباليستية (بما في ذلك الاغتيالات)، والضربات في لبنان لمنع إعادة تسليح حزب الله، والوجود العسكري والتدخل في سوريا، والهجوم المستمر علي الحوثيين في اليمن، والضربة الأخيرة في الدوحة، قطر.

أصبح القادة الإسرائيليون الآن مستعدين لوضع أهداف حرب أكثر طموحًا، حتى لو كانت مكلفة وتتطلب عملًا عسكريًا مستدامًا ومتعدد الجبهات، وإعطاء الأولوية لهذه الأهداف على التنازلات الدبلوماسية مع ما يعتبرونه شركاء غير موثوق بهم. ويُنظر إلى هذا على أنه ضروري للأمن والاستقرار على المدى الطويل.

يبدو أن قرار نتنياهو، الذي تجسد في الضربة التي شنها في قطر، خطوة مدروسة لإعطاء الأولوية للأهداف العسكرية وتقويض الجهود الدبلوماسية بشكل فعال. هذا النهج يعيق بشدة التمويل والإرادة السياسية اللازمين لإعادة إعمار غزة ويسهل تهجير أهلها، وذلك من خلال تنفير المانحين العرب الرئيسيين الذين يطالبون بحل سياسي.

وفي الوقت نفسه، يدفع هذا النهج احتمال قيام دولة فلسطينية بعيدًا عن المتناول برفضه التفاوض، وتشجيعه ضم الضفة الغربية، وترسيخه استراتيجية عسكرية على حساب جهود التطبيع، ما يعمق عدم الاستقرار الإقليمي.

تأثيرات عميقة

وقد كان لهذا الموقف العدواني تأثيرات عميقة على علاقات إسرائيل في مختلف أنحاء الشرق الأوسط.

شكلت الغارة الجوية الإسرائيلية في الدوحة، التي استهدفت قيادة حماس، تصعيدًا استراتيجيًا وأدت بشكل مباشر إلى تعليق قطر لجهود الوساطة من أجل التوصل إلى وقف إطلاق نار محتمل وإطلاق سراح الرهائن. أشارت قطر، الوسيط الرئيسي إلى جانب مصر والولايات المتحدة، إلى عدم إحراز تقدم، والتراجعات الإسرائيلية المتكررة عن المقترحات المدعومة من الولايات المتحدة، والمخاوف الأمنية الخطيرة بعد قصف قلب العاصمة الدوحة.

إن الضربة التي وقعت على الأراضي القطرية، كسرت تفاهمًا طويل الأمد للحفاظ على القنوات الدبلوماسية.

وقد أدانت قطر ذلك ووصفته بأنه “إرهاب دولة” و”عدوان غادر وإجرامي”، مؤكدةً على حقها في الرد. وكانت قطر قد تلقت تأكيدات من الاستخبارات الإسرائيلية والبيت الأبيض بأن مثل هذا الهجوم لن يحدث على أراضيها، وهو ما ثبت أنه وعود فارغة.

أثارت الضربة “غضبًا” واسع النطاق و”إدانة حادة” من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وكل دول الخليج، ما أدى إلى تجدد الشعور بالوحدة والتضامن بين دول مجلس التعاون الخليجي. إن هذا العرض العلني للدعم، بما في ذلك زيارة محمد بن زايد -رئيس الإمارات- إلى الدوحة، يشير إلى تفاهم مشترك مفاده أن الهجوم على أراضي أحد أعضاء مجلس التعاون الخليجي يهدد جميع الدول الأعضاء.

الهجوم الذي وقع في قطر (حليف رئيسي للولايات المتحدة خارج حلف شمال الأطلسي)، قوض بشدة مصداقية الولايات المتحدة كضامن أمني لشركائها في الخليج. وقد أدى هذا إلى تساؤل دول الخليج عن قيمة شراكتها مع الولايات المتحدة.

هزّت هذه الحادثة الثقةَ بشدة في موثوقية الضمانات الأمنية الأمريكية. وتتشكك دول الخليج الآن في قدرة الولايات المتحدة أو رغبتها في كبح جماح إسرائيل، لا سيما وأن قطر تستضيف أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في المنطقة. ويدفعهم هذا إلى تنويع تحالفاتهم العسكرية، كما جرى في الاتفاق السعودي الباكستاني مؤخرًا، أو السعي للحصول على ضمانات أمنية أقوى وأكثر رسمية من الولايات المتحدة.

إن تصرفات إسرائيل تعزز التصور بأنها تعمل كـ”قوة عسكرية غير مقيدة” تسعى إلى زعزعة استقرار المنطقة بدلًا من التكامل كشريك أمني ضد التهديدات المشتركة.

تشترط دول الخليج الغنية، وخاصةً المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، تقديم إسرائيل لخطة واضحة “لليوم التالي” تتضمن إطارًا لدولة فلسطينية ونزع سلاح حماس بالكامل، ورفض أي حكم مستقبلي لحماس. ويُنظر إلى موقف نتنياهو العدواني وأفعاله في الدوحة على أنها تقوض الثقة والتعاون اللازمين لمثل هذا التمويل.

إن ضرب الدوحة والإجراءات العدوانية الأوسع نطاقًا التي اتخذتها إسرائيل تهدد بشدة تقويض الإطار الهش لاتفاقيات “إبراهام” وجهود التطبيع الأوسع مع الدول العربية.

تظهر الإجراءات أن اتفاقيات التطبيع قد لا تقيد السلوك العدواني لإسرائيل، حتى بين الشركاء المفترضين، إلى جانب تزايد رفض الرأي العام العربي للتطبيع بسبب العدوان الإسرائيلي. يواجه القادة العرب قيودًا أكبر في التعامل مع إسرائيل. تنظر الإمارات العربية المتحدة إلى الضم الإسرائيلي المحتمل للضفة الغربية، إلى جانب إجراءات مثل ضرب الدوحة، على أنه “خط أحمر” من شأنه “أن ينهي رؤية التكامل الإقليمي”.

لا تشعر إسرائيل بالأمن. ينظر قادتها باستمرار إلى الأمن كمعضلة وجودية، ما يستلزم اتخاذ إجراءات استباقية ضد التهديدات المُتصوَّرة، مثل البرنامج النووي الإيراني. هذا النقص الأساسي في الأمن المتأصل يمنع إسرائيل من تحقيق الاستقرار الذي يميز قوةً مهيمنةً حقيقية، ويزداد الأمر تعقيدًا بسبب التنافس على المصالح مع مصر وتركيا.

تشكل الضربة تحذيرًا مباشرًا لتركيا ومصر، اللتين تستضيفان أيضًا قادة حماس، ما يثير المخاوف بشأن التوسع الإسرائيلي المحتمل للعمليات في أراضيهما.

إن هذا التصعيد، إلى جانب التوترات القائمة (على سبيل المثال، التوترات الإسرائيلية التركية بشأن سوريا، والمخاوف المصرية بشأن التهجير)، قد يؤدي إلى صراع إقليمي أوسع نطاقًا.

تواصل إسرائيل حملتها لإضعاف القدرات النووية والصاروخية الباليستية الإيرانية، وعزل النظام الإيراني. وعلي الرغم من وجود اتفاق لوقف اطلاق النار مع لبنان، إلا أن إسرائيل صعدت هجماتها على حزب الله بهدف شل حركته. وتؤثر استراتيجية الأمن المتطورة لإسرائيل بشكل عميق على الجهود الدبلوماسية بعدة طرق تؤدي إلي تعطيل عمليات السلام.

إن الاستهداف المتعمد لمفاوضي حماس أثناء محادثات وقف إطلاق النار النشطة التي تدعمها الولايات المتحدة يسلط الضوء على تفضيل النصر العسكري على التسويات التفاوضية، ما يؤدي فعليًا إلى تقويض القنوات الدبلوماسية التي ترسخت علي مدار سنين طويلة. وهذا يجعل تحقيق وقف إطلاق النار في غزة وإطلاق سراح الرهائن أكثر صعوبة بشكل كبير.

استراتيجية نتنياهو، بما في ذلك قصف الدوحة والعمليات العسكرية المستمرة، تعوق بشكل خطير إقامة دولة فلسطينية، وهو هدف اساسي لحكومته. وهذا يتناقض بشكل مباشر مع الشروط التي وضعتها دول الخليج لمشاركتها في إعادة الإعمار.

وردت تقارير تفيد أن قرار تنفيذ ضربة الدوحة اتُخذ على الرغم من اعتراضات قادة المؤسسات الأمنية وكبار قادة الجيش الإسرائيلي الذين دعوا إلى استنفاد المفاوضات أولًا وحذروا من المخاطر التي قد تهدد صفقات الرهائن. ويشير هذا إلى تحول إستراتيجي يعطي الأولوية للعمل العسكري، حتى ولو كان ذلك بتكلفة دبلوماسية كبيرة.

لقد ألحقت أفعال إسرائيل، بما في ذلك الخسائر الكبيرة في صفوف الفلسطينيين واتهامات الإبادة الجماعية، أضرارًا بالغة بصورتها العالمية وتآكل الدعم حتى بين حلفائها القدامى. وهذا يجعل من الصعب علىيها تعزيز موقفها من خلال الدبلوماسية أو القبول الإقليمي الأوسع.

ساهم ضرب الدوحة في مزيد من عزلة إسرائيل الدبلوماسية. أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بما في ذلك الولايات المتحدة، بيانًا نادرًا أعرب فيه عن “القلق العميق” وأدان الضربة الإسرائيلية باعتبارها “انتهاكًا صارخًا لسيادة قطر” وتهديدًا لجهود الوساطة. إن هذه الإدانة الدولية الواسعة النطاق تعزل إسرائيل دبلوماسياً وتضر بصورتها العالمية.

في جوهرها، أدت استراتيجية الأمن المتطورة التي تنتهجها إسرائيل، والتي تتسم بالعمل العسكري العدواني الأحادي الجانب الذي يهدف إلى إعادة تشكيل النظام الإقليمي، إلى تعميق انعدام الثقة بين الدول العربية وإسرائيل، وتعليق جهود الوساطة، وتقويض مصداقية الولايات المتحدة بشكل كبير باعتبارها ضامنة للأمن الإقليمي.

وفي حين أن هذا النهج كان يهدف إلى تعزيز أمن إسرائيل وتأكيد قوتها، إلا أنه أدى بشكل متناقض إلى زيادة العزلة الدبلوماسية وعدم الاستقرار الإقليمي، مما قد يدفع السلام طويل الأمد بعيدًا عن متناول اليد.

استعادة الردع

لم تستعد إسرائيل قوتها الرادعة بعد الضربة على قطر؛ بل يبدو أن الضربة قوضت هذه القوة بعدة طرق حاسمة وأدت إلى زيادة عدم الاستقرار الإقليمي والعزلة الدبلوماسية.

كانت الضربة تستهدف كبار قادة حماس في الدوحة، لكنها فشلت في قتل أهدافها الرئيسية. بدلًا من ذلك، قُتل أعضاء من رتبة أدنى في حماس ومسؤول أمني قطري. إن هذا الفشل التكتيكي يقوض بشكل مباشر تصور قوة الردع الفعالة.

كان الاحتفال الفوري من جانب رئيس الوزراء نتنياهو بنجاح الضربة سابق لأوانه، وسرعان ما تحطم الوهم بأن إسرائيل قادرة على استخدام القوة أينما ومتى شاءت.

هذا الإجراء خطأ تكتيكي إسرائيلي وخطوة متهورة أظهرت الافتقار إلى ضبط النفس، بدلًا من الردع الاستراتيجي، ويبدو أن إسرائيل وكأنها فقدت عقلها في جهودها لإظهار قوتها.

أدت الضربة إلى توتر العلاقات التي اكتسبتها إسرائيل بشق الأنفس في الخليج، وتفاقم التوترات مع دول مثل الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية التي كانت على طريق التطبيع.

تعتبر دول الخليج، بما في ذلك تلك التي سبق أن طبّعت العلاقات مع إسرائيل، الضربة قوة مزعزعة للاستقرار وتهديدًا مباشرًا لسيادتها واستقرارها. وقد أعرب قادة هذه الدول عن إدانتهم الشديدة وتضامنهم مع قطر. إن الضربة بمثابة تناقض مباشر مع تطلعات دول الخليج إلى خفض التصعيد الإقليمي بقصد تحقيق التنويع الاقتصادي.

هناك قلق متزايد بين قادة الخليج من أن إسرائيل أصبحت “قوة عسكرية مهيمنة غير مقيدة” تتصرف بطرق تهدد الاستقرار الإقليمي. يؤدي هذا التصور إلى الخوف وعدم الثقة، بدلًا من إقامة علاقة رادعة مستقرة وقابلة للتنبؤ.

وبدلًا من تعزيز الشعور بالأمن، فإن تصرفات إسرائيل، وخاصةً في عهد رئيس الوزراء نتنياهو الذي يسعى لتأكيد الهيمنة العسكرية من خلال الاستخدام العدواني وغير المقيد للقوة في جميع أنحاء المنطقة، تدفع الشرق الأوسط الأوسع نحو المزيد من الفوضى وعدم الاستقرار، ما يتناقض مع أهداف الأمن طويل الأمد والتكامل الإقليمي.

تكمن دوافع نتنياهو في الرغبة في تجنّب المفاوضات، وتحقيق أهداف قصوى في غزة، وتحسين مكانته السياسية الداخلية، بدلًا من إقامة رادع مستدام.

وبينما قد تكون إسرائيل سعت إلى إظهار قدرتها وردع الهجمات المستقبلية بعد الضربة على قطر، إلا أن النتائج تشير إلى خسارة صافية في القوة الرادعة الشاملة، ولا سيما في النفوذ الدبلوماسي والاستقرار الإقليمي، مما يؤدي إلى مزيد من العزلة وانعدام الثقة، بدلًا من إعادة ترسيخ موقف رادع مستقر وموثوق.

ويُضاف إلى ما سبق أن الهيمنة الإقليمية لإسرائيل تواجه، على المدى الطويل، تحديات كبيرة تنبع من الديناميكيات الجيوسياسية الخارجية والخيارات السياسية والاستراتيجية الداخلية. وعلى الرغم من امتلاك إسرائيل قوة عسكرية متفوقة، فإن عدة عوامل تشير إلى أنها لن تضمن لها هيمنة إقليمية حقيقية، وقد يؤدي مسارها الحالي إلى تفاقم العزلة وعدم الاستقرار بدلًا من تحقيق هيمنة مستدامة.

إن طموح إسرائيل في الهيمنة الإقليمية يعوقه بشكل كبير اعتمادها على القوى الخارجية -خاصة الولايات المتحدة، وقدرة شعوب المنطقة علي توليد مقاومتها بشكل مستمر، والافتقار إلى القبول الإقليمي لأفعالها العدوانية، والقوى السياسية الداخلية في إسرائيل التي تعطي الأولوية للحلول العسكرية على التكامل الإقليمي والاستقرار على المدى الطويل.

Share: