
نُشر في فكر تاني – سبتمبر 2025
تراكمت علي المصريين علي مدار السنين القليلة الماضية طبقات من القلق الممتزج بالذعر والخوف. بناءً على مسح القيم العالمية للموجة السابعة (2017-2020)، أفاد عدد كبير من المصريين بمشاعر القلق والتوتر في مختلف جوانب حياتهم، وخاصة فيما يتعلق بالاستقرار الاقتصادي ومستقبل أطفالهم، فضلاً عن القضايا الاجتماعية والأمنية.
في هذا المسح، أعربت أغلبية كبيرة من المصريين عن مستويات عالية من القلق بشأن فقدان وظائفهم، أو عدم قدرتهم على العثور على وظيفة. 42.2% قلقون “بشدة”، و21.3% قلقون “بشكل كبير” بإجمالي 63.5%.
إن القلق الأكبر هو عدم القدرة على منح الأطفال تعليمًا جيدًا. 50.2% قلقون للغاية بشأن هذا الأمر، و29.9% قلقون “بشكل كبير”، وهو ما يمثل 80.1% من السكان.
وفي حين أن الأغلبية (93.6%) أفادوا بأنهم يشعرون “بأمان شديد” أو “بأمان تام” في حيهم، إلا أن نسبة كبيرة من الأفراد يتخذون الاحتياطات اللازمة بسبب المخاوف الأمنية.
أفاد 25.0% أنهم “لم يحملوا الكثير من المال” لأسباب أمنية. 19.6% “يفضلون عدم الخروج ليلًا” لنفس الأسباب، وعند سؤالهم عن شعورهم بعدم الأمان من الجريمة في منازلهم، أفاد 13.1% أنهم يشعرون بعدم الأمان “في كثير من الأحيان” أو “أحيانًا”.
رضا المصريين عن الوضع المالي لأسرهم منخفض نسبيًا، بمتوسط درجة 4.69 من 10، علاوة على ذلك، أشار 43.3% من المستجيبين إلى عدم رضاهم عن الوضع المالي لأسرهم. إن هذا الاستياء المالي الواسع الانتشار يساهم بشكل كبير في إثارة القلق.
نحو 24.7% من المصريين يعانون من أعراض نفسية، و7% لديهم اضطرابات تستدعي العلاج، وتشير تقديرات إلى أن 45% من المصريين سيعانون من مرض نفسي خلال حياتهم.
اضطرابات المزاج والقلق، هي الأكثر انتشارًا، وتصل نسبة المصابين بها أحيانًا إلى 20%. في دراسة أولية، بلغت نسبة اضطرابات المزاج 6.43% واضطرابات القلق 4.75%.
الاكتئاب؛ جاء في المرتبة الأولى بنسبة 43.7% من مجموع من يعانون اضطرابًا نفسيًا، وتشير تقديرات إلى أن 1 من كل 4 مصريين مصاب بالاكتئاب. اضطرابات تعاطي المخدرات في المرتبة الثانية بنسبة 30.1% من مجموع من يعانون اضطرابات نفسية. وانتشار الاضطرابات النفسية أعلى في المناطق الريفية.
قلق المصريين.. لماذا؟
تنبع الأسباب الرئيسية للذعر بين المصريين، من مزيج من الصعوبات الاقتصادية، والقمع السياسي، والتوترات المجتمعية، والتعرض للصدمات الخارجية. وكثيرًا ما تتفاعل هذه العوامل، مما يخلق حلقة مفرغة من السخط العام، وخوف الحكومة، والسياسات الانفعالية.
أدت عقود من السياسات الاقتصادية النيوليبرالية إلى زيادات حادة في التضخم، حيث ارتفع مؤشر أسعار المستهلك بنسبة 11% في عام 2004، وأكثر من 30% بحلول منتصف عام 2017، ليصل إلى 38% في سبتمبر 2023، مما زاد الضغوط على الأسر المصرية.
وقد رسخت ذكرى “انتفاضة الخبز” عام 1977، التي اندلعت بسبب تخفيضات الحكومة لدعم السلع الأساسية مثل الخبز والأرز والسكر، مخاوف عميقة من الحركات الاجتماعية لدى الحكومات اللاحقة، وقد جعلتها انتفاضة ٢٠١١ فوبيا من الجماهير.
أثرت أزمة الغذاء العالمية في عامي 2007 و2008، والتي نجمت عن ارتفاع أسعار القمح والأرز على المستوى الدولي، بشدة على مصر، أكبر مستورد للقمح في العالم. أصبح النقص الواسع النطاق في الخبز البلدي والطوابير الطويلة بمثابة “إنذار مبكر للاضطرابات الاجتماعية”. إن الاعتماد على واردات الغذاء إلى جانب السياسات المحلية غير الفعالة يؤدي إلى تضخيم التعرض لصدمات الأسعار العالمية.
بلغ المعدل العام لبطالة الشباب (15-29 سنة) 14.9% في عام 2024. إن ارتفاع معدلات البطالة، وخاصة بين الشباب وخريجي الجامعات، وانخفاض مشاركة القوى العاملة النسائية بشكل كبير، يؤدي إلى انعدام الأمن على نطاق واسع. مصر في المرتبة 139 من أصل 148 دولة في تقرير الفجوة العالمية بين الجنسين 2025، وهي ضمن أسوأ عشر دول عالميًا.
ارتفع معدل الفقر بشكل مطرد بين عامي 1999 و2017، مما أثر على ما يقرب من ثلث السكان، مما أدى إلى تقلص القدرة الشرائية للطبقة المتوسطة والطبقات الدنيا.
تعاني مصر من عبء ديون مفرط، مع تراكم الديون الخارجية بسرعة منذ عام 2015 واستهلاك نفقات الفائدة لأكثر من 50% من إيرادات الحكومة بحلول عام 2022.
تحولت مصر إلى مستورد صافٍ للنفط منذ عامي 2008 و2009. وفي عام ٢٠١٤ أضيف إليه الغاز، وتسبب ذلك في أزمات طاقة تعطل الصناعات وتزيد الأعباء على الأسر.
استخدمت الأنظمة المتعاقبة قيودًا شديدة على المجال العام، وزادت المراقبة الرقمية والعنف خارج نطاق القانون. استثمرت الدولة في “القمع”، بما في ذلك الاختفاء القسري، والتعذيب، والسجن، وبُنيت عشرات السجون الجديدة، واستقبلت ما تقدره بعض المنظمات بـ ٦٠ ألفًا، مما خلق مناخًا عامًا من الخوف والقلق.
31% من النساء تعرضن للعنف الأسري من الزوج، منها 25.5% عنف جسدي، و5.6% عنف جنسي، و22.3% عنف نفسي -وفق المسح الصحي للأسرة المصرية 2021. وحوالي 8 ملايين امرأة وفتاة تتعرض للعنف سنويًا في مصر، ونسبة كبيرة منه ضمن العنف الأسري.
عام 2023، بلغ إجمالي حالات الطلاق 265,606 حالات، بانخفاض 1.6% عن 2022. تركزت الحالات في الحضر (56.7%). وفي عام 2022: سجلت مصر 269,800 حالة طلاق، بزيادة 5.9% عن 2021. تحدث حالة طلاق كل 117 ثانية تقريبًا.
تعمل الحكومات بنشاط على تعزيز “القومية المفرطة”، وتصوير أي شكل من أشكال المعارضة على أنه “إرهاب”، وتزعم أن مصر تواجه “حروب الجيل الرابع” في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية، ومؤامرات من أهل الشر في الداخل والخارج.
وعلى الرغم من أن هذه الرواية تهدف إلى نزع الشرعية عن المعارضة وحشد الدعم للنظام، إلا إنها تسهم في ترسيخ شعور عام بالتهديدات الخارجية والداخلية.
كما تُلقي الإدارات المختلفة باللوم على الشعب المصري في المشاكل الاقتصادية، وتُنسب تحديدًا المشاكل المالية التي تعاني منها البلاد إلى تداعيات ثورة 2011 وإلى “الاكتظاظ السكاني”، في محاولةٍ لصرف الانتباه عن مسؤولية الحكومة.
حوالي 37% من المساحة الحضرية في مصر هي مناطق غير مخططة، و1% منها مناطق غير آمنة، وحوالي 40% من سكان القاهرة يعيشون في مناطق عشوائية أو فقيرة.
شهدت أحياء حول القاهرة الكبرى عمليات إخلاء وهدم من 2016 وحتى الآن لتوسعة الطرق وتطوير المناطق العشوائية، مما أدى إلى نزوح قسري لبعض السكان. قدرت إحدى الدراسات أن هناك ٢ مليون و٣٠٠ ألف تم تهجيرهم في القاهرة وحدها، بما يفوق عدد سكان غزة.
إن غياب حرية التعبير وتكوين الجمعيات وحرية الإعلام، إلى جانب تراجع سيادة القانون واستقلال القضاء، يجعل المواطنين يشعرون بالعجز ويزيد من تفاقم الذعر العام. وفق “مؤشر سيادة القانون” الصادر عن مشروع العدالة العالمي (World Justice Project – WJP)، حصلت مصر على درجة إجمالية قدرها 0.13 من 1.00 (حيث 1.00 يشير إلى أقوى التزام بسيادة القانون)، وبذلك احتلت المرتبة 135 من بين 142 دولة على مستوى العالم.
إن العنف الطائفي مثل الهجوم على الكنائس أو منع بنائها وترميمها أو الإفلات من العقاب، بالرغم من جهود الحكومة لمعالجته، يؤدي إلى تغذية الخوف وعدم الاستقرار.
تؤدي التخفيضات في الميزانية المخصصة للصحة العامة والتعليم، والتي تقع دون المتطلبات الدستورية، إلى تآكل القدرة على الوصول إلى الخدمات الأساسية والفرص لكل من الفقراء والطبقة المتوسطة، مما يسبب الذعر بشأن الرفاهة والآفاق المستقبلية.
إن الاقتصاد المصري معرض بشدة لصدمات الأسعار العالمية والتحولات الجيوسياسية، كما حدث مع الأزمة المالية العالمية عام 2008 والحرب بين روسيا وأوكرانيا في عام 2022، والحرب على غزة ٢٠٢٣ والتي تسببت في ارتفاعات متجددة في أسعار الغذاء والطاقة وتدفقات رأس المال إلى الخارج.
تؤدي الهجمات الإرهابية، والهجمات على الكنائس والمواقع السياحية، إلى إثارة الذعر بشكل مباشر وتعطيل مصادر الدخل الحيوية مثل السياحة.
إن اعتماد مصر منذ فترة طويلة على “الإيرادات” الخارجية (النفط، وقناة السويس، والسياحة، والتحويلات من المصريين بالخارج) والمساعدات/القروض الأجنبية يجعلها عرضة للضغوط والشروط الخارجية المرتبطة بالمؤسسات المالية الدولية. إن استمرار السياسات السيئة مثل الاعتماد على تدفق الريع من الخارج والمشاريع الضخمة غير المدروسة جيدًا، غالبًا ما أدى إلى تفاقم التشوهات والضعف الاقتصادي، مما ساهم في تكرار الأزمات والإحباط العام.
المصريون بين الذعر والخوف والقلق
على الرغم من وجود فروقات دقيقة وواضحة بين الذعر، والخوف، والقلق في اللغة العربية وعلم النفس؛ رغم ذلك، غالبًا ما تُستخدم هذه الكلمات بالتبادل في المحادثات اليومية، وعادة ما ينتقل المصريون بين هذه الحالات الثلاث باستمرار.
فبينما يُنظر إلى الخوف والقلق كاستجابات طبيعية لمواقف محددة أو احتمالات مستقبلية، يبرز الذعر كظاهرة أعمق ذات أبعاد نفسية واجتماعية وسياسية معقدة.
الخوف استجابة عاطفية طبيعية لتهديد معروف، ومحدد، وفوري وحقيقي. هو شعور قصير الأمد يزول بزوال المسبب، ويدفع الجسم لاستجابة “القتال أو الهروب”. يمثل الذعر درجة قصوى من الخوف.
إنه شعور شديد ومفاجئ، وغالبًا ما يكون مصحوبًا بأعراض جسدية حادة مثل تسارع ضربات القلب وضيق التنفس والتعرق الشديد.
يختلف القلق من جهة أنه شعور بالتوتر أو الخوف بشأن شيء غير محدد أو غير معروف وقد يحدث في المستقبل. غالبًا ما يكون سببه غامضًا، يتعلق باحتمالات مستقبلية أو مخاوف غير محددة. يمكن أن يكون القلق مزمنًا ومستمرًا لفترات طويلة.
وقد يتجاوز الذعر كونه مجرد شعور فردي ليصبح ظاهرة اجتماعية تُعرف بـ “الذعر الأخلاقي”. هذا المفهوم، الذي قدمه لأول مرة جوك يونج في عام 1971 وطوره ستانلي كوهين في عام 1972، يصف رد فعل المجتمع المبالغ فيه تجاه تهديد متصور، وهو أداة للسيطرة السياسية والمجتمعية.
يؤثر الذعر العام بشكل كبير على السياسة، حيث يمكن للسياسيين استغلاله لأغراضهم الاستراتيجية. قد تتلاعب المجموعات القوية بالقلق العام لتحويل الانتباه عن إخفاقاتها أو لتبرير سياسات معينة.
يمكن للذعر الأخلاقي -كما جرى بعد 2013- أن يؤدي إلى “لحظات استثنائية” تشرعن الإجراءات القسرية للدولة، مما قد يحول عمليات الدولة من “التوافق” إلى إدارة “أكثر قسرية”، ويؤدي إلى ظهور “مجتمع القانون والنظام”.
يؤدي الذعر إلى استقطاب المجتمع وتكثيف الانقسامات، حيث يتم حشد “الأغلبية الصامتة” حول قضايا القانون والنظام والحفاظ على الدولة.
تلعب وسائل الإعلام دورًا حاسمًا في تضخيم الأحداث وتشكيل الوعي العام والخطاب السياسي، مما يعزز دورها في بناء الذعر الأخلاقي.
تساهم نظريات المؤامرة في زيادة الذعر العام عن طريق إثارة القلق في غير محله وتحويل التركيز بعيدًا عن التهديدات الحقيقية. غالبًا ما تعتمد على منطق السبب والنتيجة الخاطئ، وتتميز بسرد درامي وواضح يجعلها مقنعة حتى لو كانت تفتقر إلى الأدلة. يمكن أن تؤدي هذه النظريات إلى “ركود مجتمعي” وتضخيم التهديدات. كما أن انتشارها عبر وسائل الإعلام والسوشيال ميديا يعزز من قدرتها على نشر الذعر المحتمل.
“شياطين الشعب” هو مفهوم محوري في الذعر الأخلاقي، ويشير إلى مجموعات يحددها المجتمع أو السلطة كـ “أعداء المجتمع المحترم”، وغالبًا ما تكون مهمشة اجتماعيًا. المهاجرون والمعارضة مجرد أمثلة في هذا المجال، حيث يتم تصويرهم كـ “تجسيدات للشر” وتُضخّم انحرافاتهم، ويصيرون كبش فداء تُسقط عليهم المخاوف والقلق المجتمعي.
إن فهم العلاقة المعقدة بين الذعر، والخوف، والقلق، وكيفية استغلال الذعر الأخلاقي والشياطين الشعبية، ونظريات المؤامرة، أمر بالغ الأهمية لتحليل ديناميكيات القوة في المجتمعات المعاصرة ومنها المصري، وتأثيرها على السياسة وتشكيل أشكال الحكم. فالذعر، في جوهره، ليس مجرد رد فعل عاطفي، بل هو ظاهرة متشابكة بعمق مع العمليات السياسية، وتؤثر على الرأي العام والإجراءات التشريعية وتحولات سلطة الدولة.
وهذا ما أناقشه -بإذنه تعالى- في مقالاتي القادمة عن فهم ظاهرة قلق المصريين.