نُشر في فكر تاني – أكتوبر 2025

قدر لي أن أدرك مبكرًا أن القتل الجماعي الذي يتعرض له الفلسطينيون منذ أكتوبر/تشرين أول 2023 هو مستقبل البشرية المشترك.

ترتبط الإبادة الجماعية في غزة بظاهرة أوسع نطاقًا تتمثل في القتل الجماعي الذي لوحظ في صراعات أخرى لا تزال مستعرة (اليمن والسودان ودول الساحل الإفريقي والمكسيك واوكرانيا…). يُظهر ذلك أن العنف المسلح اليوم يأخذ أشكالًا متنوعة، سواء كانت حروبًا تقليدية بين دول، أو حروبًا أهلية، أو عنفًا مرتبطًا بالجريمة المنظمة، مما يشير إلى أن القتل الجماعي قد يكون مستقبلًا مشتركًا للبشر جميعا.

غلاف كتاب "عالم ترامب" للمفكر الدكتور هشام جعفر الصادر عن دار روافد بالقاهرة

غلاف كتاب “عالم ترامب” للمفكر الدكتور هشام جعفر الصادر عن دار روافد بالقاهرة

غالبًا ما تعتمد مبررات القتل الجماعي على مفاهيم الدفاع عن النفس والأمن القومي ومواجهة التهديدات الوجودية المتصورة، والتي تتجذر في المعتقدات الأيديولوجية المتطرفة التي تشرع العنف ضد الآخر.

وانطلاقا من هذا الفهم سعيت في الفصل الأخير من هذا الكتاب* أن أقدم “إطارا تفسيريا شاملا” للإبادة الجماعية في غزة من خلال دمج العدسات التحليلية المتعددة والمترابطة للوقائع المقدمة في التقارير الكثيرة التي قامت بها مؤسسات بحثية وإعلامية وحقوقية مختلفة. تشير مجموعة المقالات في “الفصل الخامس”  إلى نهج متعدد الجوانب لفهم الإبادة الجماعية، واستكشاف أبعادها وتداعياتها المختلفة.

الخطير في غزة، وقد استمرت الإبادة -عند صدور هذا الكتاب- لأكثر من 24 شهرا وما يزيد عن 700 يوما، أنه تم تطبيعنا مع العنف الممنهج.

يشير التطبيع، في سياق الإبادة الجماعية، إلى العملية التي أصبح من خلالها النظام الدولي والمجتمعات، وخاصة المجتمعات العربية، معتادة على العنف المروع والتدمير المنهجي الذي يحدث هناك، مما يسمح للحياة بالاستمرار كالمعتاد على الرغم من هذه الفظائع. وهذا يشمل جعل الإبادة الجماعية المستمرة، مع التجويع المنهجي، وقتل الأطفال والنساء، وقطع المياه والكهرباء، وقصف المستشفيات والمدارس ودور العبادة، وتدمير أحياء وعائلات بأكملها …، تبدو وكأنها أمر طبيعي أو مقبول.

سمات الإبادة الجماعية

طوال هذه الفترة، عبرت العديد من التصريحات الصادرة عن صناع القرار الإسرائيليين والقادة العسكريين والمثقفين والإعلاميين عن نوايا إبادة جماعية. وقد نقلت هذه التصريحات وجهة نظر مشتركة مفادها أن معظم سكان قطاع غزة، أو جميعهم، مسؤولون عن أحداث السابع من أكتوبر أو يدعمونها.

أحد جنود الاحتلال في غزة (وكالات)

أحد جنود الاحتلال في غزة (وكالات)

إن نزع الصفة الإنسانية عن الشعب الفلسطيني وتشويه سمعته يعتبران شرطين أساسيين لتنفيذ الإبادة الجماعية والعنف الشديد ضد مجموعة محددة. وقد لوحظت هذه الممارسة منذ الأيام الأولى للاستيطان الصهيوني ضد السكان الفلسطينيين كجزء من عملية شاملة استهدفت التطهير العرقي والتهجير.

يفصل تقرير “إبادتنا الجماعية” عدة سمات بارزة للإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون. تُبرز هذه السمات نية العدوان ونطاقه وتأثيره، بالإضافة إلى آليات تنفيذه.

صدر التقرير في يوليو 2025، وتم نشره من قبل منظمة بتسيلم، وهي منظمة حقوق إنسان إسرائيلية تعمل مع الإسرائيليين والفلسطينيين، من قطاع غزة والضفة الغربية بالإضافة إلي القدس الشرقية. أهمية التقرير أنه ولأول مرة تقوم مؤسسة إسرائيلية بوصف ما يجري في غزة بأنه إبادة جماعية. صحيح أنه تأخر لأكثر من 20 شهرا، لكنه يظل يكتسب أهمية بالغة في ظل اجماع الإسرائيليين علي تجاهل وانكار ما يجري في غزة.

يسلط التقرير الضوء على “نطاق وخطورة الجرائم التي تُرتكب” ضد الفلسطينيين. ووصف تصرفات إسرائيل بأنها إبادة جماعية، ويؤكد أن النظام الإسرائيلي يتصرف بنية منسقة وواضحة لتدمير المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة. ويستنتج هذا القصد من إدراك القيادة الإسرائيلية للعواقب المدمرة لسياساتها المتمثلة في إطلاق النار والتجويع، والتدمير المنهجي للبنية التحتية المدنية، وقرارها بمواصلة الهجوم وتصعيده.

القيادة الإسرائيلية الحالية، التي تدعمها أغلبية “عنصرية متطرفة”، توصف بأنها تشبه “وحش البحر” من سفر الرؤيا، الذي يجسد سمات أعنف الحيوانات ويتفوق عليها في الوحشية.

القتل على نطاق واسع والإصابات الجماعية -سمة ثانية؛ فاعتبارًا من 23 يوليو 2025 ومنذ بدء العدوان في 7 أكتوبر/تشرين أول 2023، أفادت وزارة الصحة في غزة بمقتل ما لا يقل عن 59219 فلسطينيًا وإصابة 143045 آخرين، كان من ضمن القتلي أكثر من 18 ألف طفل.

وصفت طائرة إف-35 المقاتلة صراحة بأنها “أداة ذبح” ضد السكان في غزة، حيث أن “دقتها” هي “تعبير ملطف قاسٍ” عندما تكون الأهداف هي المنازل ومخيمات اللاجئين والأسر الهاربة والمدنيين. تحمل هذه الطائرات تسعة أطنان من القنابل والصواريخ التي تُستخدم لتدمير الأحياء وتنفيذ عمليات اغتيال في المناطق المكتظة بالسكان وحتى في “المناطق الآمنة” المُخصصة. يتضمن القصف المتواصل استخدامًا ممنهجًا لقنابل GBU-31 “الخارقة للتحصينات” التي تزن 2000 رطل، في المناطق المدنية، مما يجعل الموت الجماعي “نتيجة مُدبرة” .

من الأمثلة الواضحة، مجزرة المواصي في 13 يوليو/تموز 2024 ، وهي منطقة مُصنّفة كـ”منطقة آمنة”، حيث أسقطت طائرة إف-35 ثلاث قنابل زنة 2000 رطل، مما أسفر عن مقتل 90 فلسطينيًا على الأقل وإصابة 300 آخرين ، حيث أصابت خيامًا ومطبخًا للطعام ومحطة لتحلية المياه. وأفاد شهود عيان أن طائرات رباعية الدفع إسرائيلية أطلقت النار على المسعفين.

أدان مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان هجوم المواصي، مشيرا إلى أن استخدام مثل هذه الذخائر الثقيلة في منطقة مكتظة بالسكان يشير إلى “نمط من الانتهاك المتعمد” للقانون الإنساني الدولي.

سعت القيادة الإسرائيلية إلي جعل غزة منطقة غير قابلة للحياة من خلال:

◦ تدمير واسع النطاق للنظام الصحي ، مما أدى إلى وفيات الرضع والأجنة، ونقص في حليب الأطفال (وصفه طبيب متطوع في مستشفى ناصر بأنه سبب إضافي لوفاة الأطفال حديثي الولادة)، وزيادة بنسبة 300٪ في معدلات الإجهاض. واحدة من كل ثلاث حالات حمل عالية الخطورة، وواحدة من كل خمس ولادات مبكرة أو منخفضة الوزن.

◦ منعت إسرائيل أو قيدت أو أعاقت دخول الإمدادات الطبية الحيوية (مثل الأدوية ومسكنات الألم وأجهزة التنفس الصناعي)، وتم نهب جزء من الإمدادات المسموح بها قبل وصولها إلى وجهتها.

◦ فرض الجيش الإسرائيلي حصارًا ونفذ غارات على المستشفيات بدعوى خدمتها أغراض حماس العسكرية، وهو ادعاء ذكر مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أنه لم يكن مدعومًا بأدلة كافية في معظم الحالات ويتناقض مع القانون الدولي.

◦ تدمير الغذاء والزراعة: أدت القيود المفروضة على الوصول إلى الأراضي الزراعية والعنف المتزايد من جانب المستوطنين إلى جعل العمل الزراعي، وخاصة حصاد الزيتون، “شبه مستحيل”.

لقد شهدنا زيادة حادة في انعدام الأمن الغذائي بين الأسر في الضفة الغربية وغزة، حيث أحتاج ما لا يقل عن 700 ألف شخص إلى مساعدات غذائية في الضفة الغربية بحلول عام 2024 (زيادة بنسبة 100%).

◦ أطلق جنود الجيش الإسرائيلي ومرتزقة أمريكيون مسلحون النار على أكثر من ألف فلسطيني في مراكز توزيع الغذاء التي أنشأتها منظمة غزة الإنسانية مما أدى إلى مقتلهم.

◦ تدمير البنية التحتية: أكثر من 85% من المدارس في غزة تعرضت للضرر أو التدمير. جري تدمير أكثر من ثلثي المدارس البالغ عددها 345 مدرسة بالكامل. أصبحت العديد منها ملاجئ ولكنها دمرت على روؤس أولئك الذين لجأوا إليها، ومعظمهم من النساء والأطفال والمدنيين العزل. تم تدمير المنازل والمستشفيات والمدارس تحت القصف المستمر. قطاع غزة مدمر بنسبة تزيد عن 80%.

يعيش سكان غزة تحت قصف مستمر، ويبحثون عن ملاذ آمن “لم يعد موجودًا فوق الأرض”، حيث تحول كل شبر من الأرض إلى أهداف مشروعة أو غير مشروعة.

أدى الهجوم إلى “حالة من الفوضى على نطاق واسع” و”تفكك النسيج الاجتماعي”، حيث انقلب الناس على بعضهم البعض “في صراع من أجل البقاء”.

ظهرت عصابات إجرامية مسلحة في ظل الفراغ الأمني ، ولم تسمح إسرائيل لهذه العصابات بتراكم السلطة فحسب، بل دعمتها أيضًا.

أنس الشريف ومحمد قريقع من شهداء الصحافة الفلسطينة

أنس الشريف ومحمد قريقع من شهداء الصحافة الفلسطينة

شنت إسرائيل هجومًا على الصحافة المحلية في غزة ، مما أسفر عن مقتل 160 صحفيًا في الفترة من أكتوبر 2023 إلى يناير 2025، معظمهم أثناء تأدية عملهم وارتداء ستراتهم التعريفية. وهذا يجعل الهجوم الإسرائيلي على غزة الأكثر دموية بالنسبة للصحفيين في العقود الثلاثة الماضية. وهذا يشير إلى سمة أخري من سمات الإبادة وهي التحكم في السرد.

تجربة السجن تترك أثراً عميقاً على أجساد وأرواح السجناء، وقد أبلغ العديد منهم عن معاناتهم من أهوال بدنية ونفسية مستمرة بسبب سوء المعاملة في مراكز الاحتجاز. وثّقت تقارير منظمات حقوق الانسان، انتهاكات شديدة وسادية، وتعذيبًا، وضربًا، واغتصابًا في السجون الإسرائيلية، ووصفتها بأنها “انتقام سادي من نظام عنصري بغيض ومريض”.

إن هذه السمات، مجتمعة، ترسم صورة شاملة للطبيعة المنهجية والمتعمدة للأفعال التي تشكل الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، لكن السؤال الذي يجب أن ننشغل به هو فهم السر وراء إدامة هذه الإبادة واستمرارها حتي الآن والتي لا يبدو لنهايتها وقتا معلوما. وافق الكابينت الاسرائيلي الخميس 7 أغسطس 2025 علي احتلال مدينة غزة، ومن المتوقع أن يتحقق هذا في مدي خمسة شهور أخري علي الأقل من القتل الجماعي.

إدامة الإبادة

تتشابك هياكل السلطة والمصالح الاقتصادية تشابكًا عميقًا في إدامة الصراع ونزع الإنسانية والاستفادة منهما، كما يتضح من مفهوم نانسي فريزر “الرأسمالية آكلة لحوم البشر”

يلتهم هذا النظام بطبيعته مصادر دعمه غير الاقتصادية، بما في ذلك الأرواح البشرية والصلاحيات العامة، لتغذية تراكم الثروات، غالبًا من خلال نزع الإنسانية عن فئات سكانية محددة واستغلالها.

تعمل هذه الديناميكية من خلال المصادرة الهيكلية وإزالة الطابع الإنساني. تعتمد الرأسمالية على السكان “القابلين للانتهاك بطبيعتهم”. تري نانسي فريزر -الفيلسوفة النسوية البارزة- أن الرأسمالية تعتمد هيكليًا على الاستيلاء القسري على الثروة من الشعوب المستعبدة والأقليات، وهي “سمة ضرورية هيكليًا ومستمرة للرأسمالية”. ترتبط هذه العملية ارتباطًا وثيقًا بالقمع العنصري الإمبريالي، حيث تُصنف الشعوب على أساس عرقي على أنها قابلة للانتهاك بطبيعتها، وتُحرم من الحماية السياسية والقانونية، مما يجعلها عُزّلًا و”هدفًا مشروعًا للمصادرة – مرارًا وتكرارًا”.

متظاهر يحمل لافتةً تُصوّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على هيئة أدولف هتلر خلال مسيرةٍ مؤيدةٍ للفلسطينيين في شوارع ملبورن - 6 يوليو 2025 في خضمّ الصراع الدائر بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية (أ.ف.ب)

نزع الصفة الإنسانية عن الشعب الفلسطيني، والذي ينعكس في مصطلحات مثل “دون البشر” والحيوانات …هو “شرطٌ ضروريٌّ لتنفيذ الإبادة الجماعية”. وهذا يسمح بأعمالٍ مثل “حملة الإبادة الجوية ضد الفلسطينيين” وتدمير الأحياء ومخيمات النازحين.

يصف مفهوم “رأسمالية الموت”  مرحلة من الرأسمالية حيث “يصبح الموت والمعاناة البشرية سلعة أساسية للتبادل والاستهلاك”. يزدهر هذا النظام في ظل “مناخ من الكفاءة المفرطة، يُشبه الداروينية الاجتماعية، حيث يُبادل موت الآخرين كسلعة”.

الصراع في غزة، مثل الحرب في أوكرانيا، مورد رئيسي للشركات العاملة في قطاع السلاح، مما يسمح لها “باختبار المعدات والخدمات العسكرية في مواقف قتالية فعلية”.

تبين وفق دراسة صدرت يوليو ٢٠٢٥ لمشروع تكاليف الحرب في جامعة براون الأمريكية، أنه بين عامي 2020 و2024، تلقت خمس شركات كبرى عقودًا بقيمة 2.4 تريليون دولار من البنتاغون، وهو ما يمثل ما يقرب من 54% من إجمالي الإنفاق التقديري للوزارة البالغ 4.4 تريليون دولار خلال تلك الفترة.

حصلت هذه الشركات الخمس مجتمعة – وهي لوكهيد مارتن وبوينغ وRTX (المعروفة سابقًا باسم Raytheon) وجنرال ديناميكس وشركة نورثروب جرامان – على هذا المبلغ، وهو ما يفوق بكثير مبلغ 356 مليار دولار المخصص لميزانية الدبلوماسية والتنمية والمساعدات الإنسانية الأمريكية (باستثناء المساعدات العسكرية) خلال نفس الفترة.

تشير الدراسة إلى أن هذا الحجم الهائل من الإنفاق لا تستفيد منها شركات الأسلحة “الخمسة الكبار” التقليدية فحسب، بل أيضًا “قطاع التكنولوجيا العسكرية الناشئ”.

استفادت صناعة الأسلحة الأمريكية بشكل هائل من الزيادة الكبيرة في مبيعات الأسلحة الأجنبية المرتبطة بالحروب في أوكرانيا وغزة. ويوضح هذا كيف أن أولوية الإنفاق العسكري تمتد إلى الصراعات الدولية.

متظاهر يحمل لافتة "أوقفوا الإبادة الجماعية، غزة حرة" خلال مظاهرة برلين (رويترز)

متظاهر يحمل لافتة “أوقفوا الإبادة الجماعية، غزة حرة” خلال مظاهرة برلين (رويترز)

شركات الدفاع الإسرائيلية، مثل شركة إلبيت سيستمز، تستخدم حرب غزة صراحةً “كحقل تجارب لتطوير أنظمة الأسلحة” ، ثم تسوق هذه التقنيات “المُجرّبة في القتال” للعملاء الدوليين، وبالتالي “تستفيد من ذبح الفلسطينيين”. وهذا يوضح كيف يتم استغلال المعاناة وتحويلها إلى سلعة لتحقيق مكاسب اقتصادية.

تستغل الرأسمالية السلطات العامة وتسعى إلى “تفريغها” من صلاحياتها ومسئولياتها، بما في ذلك الأطر القانونية، والقوى القمعية، والبنية الأساسية، لتجنب الضرائب والتنظيم، وبالتالي تقويض الديمقراطية.وهذا يقلل من قدرة الدول على حماية سكانها.

تنخرط الحكومات في “عمليات تعتيم وتحريف منهجية”  لإرباك الرأي العام وإقناعه بأننا لا ندعم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل”. سمحت “الخدعة الإعلامية” للشركات الكندية -علي سبيل المثال- بمواصلة الاستفادة من الإبادة الجماعية الإسرائيلية، بينما ضللت الحكومة الفيدرالية الكنديين المواطنين بإيهامهم بأنها لم تعد تُسلّح قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة. إن مزاعم إرسال سلع عسكرية “غير قاتلة” فقط هي “فئات غامضة ولكنها مُختلقة بالكامل” تُستخدم “كمعلومات مضللة لتضليل الرأي العام”.

الحكومات الغربية، في حين أنها تدعم إسرائيل، إلا أنها في نفس الوقت قمعت الأصوات المؤيدة للفلسطينيين، باستخدام اتهامات “معاداة السامية” لإسكات المنتقدين و”تعميق الانقسام الرئيسي الذي يفصل بين المجمعات المختلفة. ويمتد هذا “الخوف” و”الرقابة الذاتية” إلى المثقفين والسياسيين والبرلمانيين.

تتم انتهاكات القانون الدولي من أجل الربح . على سبيل المثال، تُتهم كندا بانتهاك التزاماتها بموجب معاهدة تجارة الأسلحة وقانون تصاريح التصدير والاستيراد الخاص بها من خلال مواصلة “تدفق السلع العسكرية المصنوعة في كندا مباشرة إلى إسرائيل”، على الرغم من “الخطر الكبير” المتمثل في إمكانية استخدام هذه الأسلحة في انتهاكات خطيرة للقانون الإنساني الدولي. دعا خبراء الأمم المتحدة مرارًا وتكرارًا إلى فرض حظر كامل على الأسلحة على إسرائيل.

الشركات الكندية “متكاملة بشكل عميق” مع المجمع الصناعي العسكري الإسرائيلي، حيث توفر مكونات أساسية للأنظمة العسكرية القاتلة مثل طائرة إف-35 المقاتلة. يشمل ذلك شحنات الرصاص وقطع غيار الطائرات وأنظمة الرادار ومكونات الحرب الإلكترونية، مما يُمكّن إسرائيل بشكل مباشر من “القدرة على ارتكاب جرائم حرب والحفاظ على احتلالها للشعب الفلسطيني”.

تري فريزر أن “الأزمة العامة” التي نواجهها الرأسمالية هي “تشابك هائل من الخلل والهيمنة” حيث “يعني الظلم البنيوي استغلال الطبقات، بالتأكيد، ولكن أيضًا هيمنة النوع الاجتماعي والقمع العنصري/الإمبراطوري. هذه الأزمات، بما في ذلك عجز الرعاية الاجتماعية للأطفال، والتدمير البيئي، وتقويض السلطة العامة، متشابكة بشكل لا ينفصم مع الإمبريالية والقمع العنصري.

عملية إجلاء لطفل مصاب في غزة (وكالات)

عملية إجلاء لطفل مصاب في غزة (وكالات)

باختصار، تُديم هياكل السلطة والمصالح الاقتصادية الإبادة ونزع الإنسانية من خلال إنتاج طبقة من الرعايا “القابلين للانتهاك” هيكليًا من خلال نزع الملكية، وتسليع المعاناة والموت من أجل الربح، وتقويض المساءلة الديمقراطية والقانون الدولي بشكل نشط من خلال التعتيم الحكومي والتكامل العميق للمجمعات العسكرية الصناعية.

تسمح هذه الديناميكية النظامية لرأس المال بالتهام حياة البشر، والرفاهية الاجتماعية، والصلاحيات العامة، مستفيدًا بذلك من العنف الممنهج والظلم المستمرين.

إن ما يجب إن نهتم به إذن بعد شيوع العنف الممنهج والإبادة المستمرة، كيف أن الأنظمة الاقتصادية العالمية، مدفوعةً بمنطق رأسمالي “آكل لحوم البشر”، ومدعومة من قوى سياسية منخرطة في التعتيم والتواطؤ، تُختزل البشر بشكلٍ منهجي إلى فئات من الكائنات القابلة لاستخراج الربح منها، أو مُدخلات اقتصادية، أو مجرد مشاهد قابلة للمتعة….. وتُعدّ هذه العمليات ضرورية لنزع الصفة الإنسانية بما يساعد علي تمكين وإدامة العنف والاستغلال الذي يشهده المجتمع المعاصر.

منهج النظر إلى الإبادة

لا ينبغي أن يُنظر إلى الإبادة الجماعية في غزة باعتبارها حدثاً معزولاً، بل باعتبارها نتيجة معقدة لقوى تاريخية واقتصادية وسياسية وأيديولوجية مترابطة بعمق ، وكثير منها تفاقم بسبب التحولات العالمية المعاصرة ونهج السياسة الخارجية المحددة للجهات الفاعلة الدولية الرئيسية.

وفق هذا الرؤية، يمكن النظر إلي الإبادة الجماعية من خلال العدسات الست التالية:

1- المشروع الاستيطاني الاستعماري وتطوره إلى “اقتصاد إبادة جماعية” : إن الوضع في غزة متجذر في مشروع استيطاني استعماري راسخ.، تضمن تاريخيًا نزع ملكية السكان الأصليين لصالح المصالح التجارية. لقد تحول هذا المشروع الآن من “اقتصاد الاحتلال” إلى “اقتصاد الإبادة الجماعية”، مما يعني أن الفظائع المستمرة ليست مجرد نتيجة، بل هي مشروع مربح للعديد من الكيانات.

استفادت العديد من الكيانات التجارية، بما في ذلك شركات تصنيع الأسلحة وشركات التكنولوجيا وشركات البناء وموردي الطاقة والشركات الزراعية وتجار التجزئة والمؤسسات المالية، من الاحتلال الإسرائيلي والحملة الحالية في غزة ومكّنتهما.

الإبادة تتواصل في غزة (وكالات)

الإبادة تتواصل في غزة (وكالات)

يرتبط هذا بالأنماط التاريخية التي اعتمدت فيها الرأسمالية، وخاصةً “الرأسمالية العنصرية”، على الاستغلال ونزع الصفة الإنسانية لتأمين الموارد والحفاظ على السلطة.

2- نزع الصفة الإنسانية بشكل منهجي والتحكم في الرواية أو السرد: إن العنصر الأساسي الذي يسمح بارتكاب هذه الفظائع هو نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين ، وتصويرهم على أنهم أقل من البشر أو “وحوش” و”تهديدات”.

ويتم تحقيق ذلك من خلال:

◦ التلاعب باللغة : استخدام مصطلحات مثل “الإرهابيين” أو “النازيين الجدد” أو “المخربين” لتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم وتبرير العنف.

◦ السيطرة على الرواية : تعمل استراتيجية الدعاية الصهيونية التي يطلق عليها “الهسباراه” على تشكيل الرأي العام العالمي من خلال تقديم رواية إسرائيلية، وغالبًا ما تعمل على قمع أو تشويه الروايات المضادة وإنكار السياق التاريخي، وخاصة من خلال بدء الجدول الزمني للصراع من 7 أكتوبر 2023، وتجاهل عقود من الاحتلال.

◦ التعاطف الانتقائي : التركيز على معاناة الإسرائيليين مع التقليل من الخسائر والمعاناة بين المدنيين الفلسطينيين أو تجاهلها.

◦ قمع المعارضة : اتهام منتقدي السياسات الإسرائيلية بـ “معاداة السامية” لإسكات المعارضة، مما يؤدي إلى إلغاء الفعاليات والرقابة الأكاديمية والاعتداءات الجسدية على الناشطين المؤيدين للفلسطينيين.

3- انهيار النظام الدولي القائم على القواعد : تشير أحداث غزة إلى “نهاية النظام الدولي القائم على القواعد” الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية. يتميز هذا الانهيار بما يلي:

◦ تآكل الثقة في المؤسسات الدولية : تظهر الحكومات والجهات الفاعلة القوية، وخاصة في ظل نهج مثل نهج دونالد ترامب، ازدراءً للمؤسسات المتعددة الأطراف (مثل الأمم المتحدة أو المحكمة الجنائية الدولية) والمعايير الدولية، مفضلة الإجراءات الأحادية الجانب والعلاقات التبادلية القائمة علي الصفقات.

◦ المعايير المزدوجة : تقدم الحكومات الغربية الدعم العسكري والسياسي غير المشروط لإسرائيل، مدفوعة بالذنب التاريخي (على سبيل المثال، تكفير ألمانيا بعد الهولوكوست)، والمصالح الجيوسياسية، والعلاقات الاقتصادية (خاصة مع صناعة الأسلحة)، والتحيزات الأساسية مثل الإسلاموفوبيا والعنصرية المعادية للعرب. ويستمر هذا الدعم حتى عندما يتم إدانة أفعالها على نطاق واسع باعتبارها جرائم حرب أو إبادة جماعية.

◦ فشل “نهاية التاريخ”، و”نهاية الحداثة” : يكشف الصراع عن هشاشة رواية “نهاية التاريخ” التي سادت بعد الحرب الباردة، والتي افترضت انتصارًا عالميًا للديمقراطية الليبرالية. ويسلط الضوء على انهيار الأطر التقليدية لفهم التقدم والحوكمة، مما يؤدي إلى انتشار حالة من عدم اليقين وعدم الاستقرار.

4- ظهور حروب الهوية والدول الحضارية : يتم تأطير الصراع في غزة على أنه حرب هوية، مما يعكس اتجاهًا عالميًا أوسع حيث يتحدى مفهوم “الدولة الحضارية” نموذج الدولة القومية التقليدي. تعطي هذه “الدول الحضارية” الأولوية للهوية الثقافية والتاريخية على الحدود السياسية أو القانونية، مما يؤدي إلى صراعات على أسس أيديولوجية وحضارية. ويتجلى هذا في تصور إسرائيل لنفسها باعتبارها مدافعة عن “العالم المتحضر”.والسرد الأوسع حول “صراع الحضارات”.

5- الجغرافيا السياسية التفاعلية (نفوذ ترامب) : لقد أثر نهج دونالد ترامب في السياسة الخارجية، والذي يتميز بـ “أمريكا أولاً” والتركيز على الصفقات الاقتصادية والمعاملات الثنائية بدلاً من التحالفات طويلة الأجل أو حقوق الإنسان.

يؤثر هذا بشكل كبير على الديناميكيات الإقليمية. غالبًا ما يعطي هذا النهج الأولوية للمكاسب الاقتصادية الفورية والشراكات الاستراتيجية (على سبيل المثال، مع دول الخليج للاستثمار) على المعايير الدبلوماسية التقليدية أو اعتبارات حقوق الإنسان، مما يمكّن الأنظمة الاستبدادية بشكل غير مباشر ويساهم في عدم الاستقرار الإقليمي. تُعتبر سياساته بمثابة تحرك بعيدًا عن الليبرالية العالمية نحو موقف أكثر براغماتية وأحادية الجانب وحتى أيديولوجية؛ يركز على المصالح الوطنية والمنافسة بين القوى العظمى.

6- ديناميكيات العالم العربي والتواطؤ : يتطرق الكتاب أيضًا إلى العوامل داخل العالم العربي التي تساهم في استمرار الإبادة في غزة، ومنها:

◦ التقاعس الملحوظ من جانب الأنظمة العربية : على الرغم من الغضب الشعبي، يُنظر إلى العديد من الحكومات العربية على أنها تعطي الأولوية “لمصالحها الذاتية” و”البقاء في السلطة” على إيقاف الإبادة.

◦ الضغوط الاقتصادية والإرهاق الاجتماعي : يواجه المواطنون العرب صعوبات اقتصادية شديدة وقيوداً على حرياتهم، مما يؤدي إلى الشعور بالإرهاق والعجز الذي قد يطغى على إلحاح القضية الفلسطينية.

◦ “التكيف المعرفي” و”التباعد الاجتماعي” : يُظهر قطاع من الجمهور العربي انفصالًا نفسيًا، حيث يُنظر إلى الضرر المادي المباشر للإبادة الجماعية في غزة على أنه بعيد ولا يؤثر عليهم بشكل مباشر، مما يقلل من الضرورة الأخلاقية للتصرف. ويتفاقم هذا الوضع بسبب الاستقطاب السياسي وقمع الحريات العامة والخاصة.

وبعد، فإن الفكرة المركزية لهذا الكتاب هي أن نهج السياسة الخارجية غير المتوقع وغير القابل للتنبؤ الذي ينتهجه دونالد ترامب، والذي يتجسد في مبدأ “أمريكا أولاً”وجعلها عظيمة مجددا، يعيد تشكيل الشرق الأوسط بشكل جذري، مما يؤدي إلى عصر جديد يتميز بعدم الاستقرار الإقليمي. يجري هذا في سياق: تراجع النظام الدولي القائم على القواعد، وإعادة ظهور شكل من أشكال الإمبريالية المدفوعة بالربح والتي غالبًا ما تعمل على تطبيع العنف الجماعي بإزالة الصفة الإنسانية عن مجموعات من البشر، والتي لن يكون الفلسطينيون آخرهم.

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب (وكالات)

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب (وكالات)

وعلى الرغم من شيوع المفاهيم المتكررة حول “الشرق الأوسط الجديد”، فإن العديد من الديناميكيات الموروثة، مثل أوجه القصور في حقوق الإنسان، والمساءلة، وسيادة القانون، والاستبداد الواسع النطاق، والتوزيع غير المتكافئ للفرص والثروات والدخول، لا تزال قائمة. ومع ذلك، يسلط الكتاب الضوء على عدد من السمات البارزة التي تحدد الجوانب “الجديدة” للشرق الأوسط، والتي تتأثر بشكل خاص بالإبادة الجماعية في غزة، والنهج التعاملي لإدارة ترامب القائم على الصفقات.

وعلي الله قصد السبيل، ومنها جائر، والحمد لله رب العالمين

*مقدمة كتاب الباحث والمفكر هشام جعفر “عالم ترامب” الصادر عن دار روافد بالقاهرة.

Share: