يجادل كاتب هذا المقال بأن خبرة الربيع العربي -خاصة في الموجة الثانية منه- قد تجاوزت ثنائية العلماني الإسلامي التي حكمت الموجة الأولي وجعلها البعض عائقا كبيرا أمام التحول الديمقراطي ومصدرا رئيسيا لعدم الاستقرار السياسي في المنطقة، بل يزعم كاتب هذه السطور أن الاستقطاب الإسلامي العلماني ومنذ الموجة الأولي قد استخدم للتغطية علي الاستقطابات الحقيقية التي طرحتها سردية الانتفاضات العربية.

المفاهيم والمصطلحات
يجب ألا يُنظر إلى العلمانية والإسلاموية في سياق الربيع العربي على أنهما مفهومان متعارضان ؛بل هما أيديولوجيتان كبيرتان تهدفان إلى إعادة صنع الإسلام في العصر الحديث وفي أثناء القيام بذلك ، يخلطون المقدس بالعقل البشري مما أدى إلى ظهور العديد من الأيديولوجيات الفرعية التي تظهر عددًا من الاختلافات والتشابهات.
العلمانية -في هذا السياق-أيديولوجيًا سياسية أو نظرة عالمية – بأشكالها الشمولية – تهدف إلى إعادة تشكيل الإسلام على ظروف الحداثة، وتقييد وظائفه ومظاهره الاجتماعية والسيطرة عليها في المجالين العام والخاص. أما الإسلاموية فليست مساوية للإسلام ، وكمفهوم ، فهي أحد التجليات الحديثة للإسلام ، والذي يشير إلى أيديولوجية سياسية تشكل أفكارًا للتنظيم السياسي والاجتماعي مستوحى من تعاليم الشريعة، وحركة اجتماعية تشارك بشكل روتيني في الأنشطة السياسية والتعبئة باسم الإسلام.
إذا كان ذلك كذلك؛ نصبح بإزاء صراع علي أنماط تدين متعددة لها تجلياتها في الاقتصاد والسياسة كما في الاجتماع والثقافة؛ خاصة أن كلاهما ليسا فئات ثابتة متنافية ؛ بل مفاهيم أو لافتات كبيرة ، تتجمع تحتها اتجاهات وتوجهات مختلفة.
وهنا يصبح السؤال حول طبيعة الصراع الإسلامي العلماني كما ظهر في الربيع العربي، وعلي ماذا جري؟
يقدم لنا د. محمد عفان في أطروحته للدكتوراه التي تقدم بها لجامعة أكستر البريطانية(أغسطس ٢٠٢٠) وحملت عنوان : “العلمانية في مواجهة الإسلاموية:مسارات متباينة للمفاوضات الانتقالية في مصر وتونس”؛ يقدم لنا إجابة مفادها:”يمكن تلخيص الأسباب الجذرية لهذا الصراع في دراسات الحالة[يقصد مصر وتونس] في ثلاث قضايا رئيسية: الترتيبات السياسية لتقاسم السلطة خلال الفترة الانتقالية ، والأداء الضعيف للحكومات التي يسيطر عليها الإسلاميون ، والخلافات الأيديولوجية خلال الدستور :عملية صنع المواد المتعلقة بالدور السياسي والاجتماعي للإسلام ، وما إذا كان يجب أن يتم تكريس الشريعة في الدستور ، وعالمية حقوق الإنسان ، وحرية العقيدة”.
عند هذه النقطة يجدر بي تقديم الأطروحة الاساسية لهذا المقال وهي أن الصراع الإسلامي العلماني في الربيع العربي كان ولا يزال ذو طبيعة سياسية تختبر فيها أطرافه المتعددة موازين القوي فيما بينها في ظل هواجس ومخاوف متبادلة، وعدم يقين في نتائج العملية السياسية ، وامتزاج شديد للمشاعر الدينية بالمصالح السياسية ،وأن ماظهر من صراع حول موقع الشريعة من الدستور لم يكن -من وجهة نظري -إلا صراعا علي النفوذ وبحثا عن التأييد السياسي واستخداما للتعبئة والحشد للمؤيدين؛فالشريعة كانت أحد أدوات الصراع ولم تكن جوهره.
ولقد أبرزت الموجة الثانية هذه الحقيقة بجلاء؛ لأننا بتنا بإزاء فواعل يسيطر علي سلوكها السياسة أكثر من الايديولوجيا ،ففي الموجة الأولى ، كانت حركات الإسلام السياسي في المعارضة التي تكافح ضد الحكام والأنظمة القائمة. وفي الموجة الثانية؛
https://research.sharqforum.org/ar/2020/08/13/الإسلاميون-والموجة-الثانية-من-الربيع/
في ثلاث من الحالات الأربع التي جرت بها الاحتجاجات (لبنان والسودان والعراق)، نرى الإسلاميين إما حكامًا أو داعمين للنظام الحالي،وهذا يخلق ديناميكية مختلفة تمامًا للإسلام السياسي ؛ففي بعض البلدان ، حشدت فصائل الإسلاميين في المعارضة ضد أقسام أخرى من الإسلاميين في السلطة، ويمكن تفسير ذلك على أنه تعبير عن تعميق الانقسام داخل الحركات الإسلامية في العالم العربي أو كفرصة لعدد لا يحصى من الإسلاميين لتوضيح مواقفهم المتباينة بشأن القضايا السياسية الرئيسية،كما يتعلق الأمر بالتعددية التي باتت حقيقة واقعة في مجمل التيارات السياسية العربية. .
سردية الربيع العربي
يدرك كاتب هذه السطور بأن هناك سردية جديدة لانتفاضات الربيع العربي https://www.alaraby.co.uk/opinion/في-سؤال-استمرارية-نموذج-الربيع-العربي-الانتفاضي
تعلن نهاية صيغ القرن العشرين وفي القلب منها دولة ما بعد الاستقلال والحركات السياسية الإسلامية والعلمانية التي استندت إلي ايديولوجيات شمولية ،وأننا بصدد صيغ جديدة لم تتمأسس بعد؛فقد غلب عليها الاحتجاج وافتقدت إلي بلورة قاعدتها الاجتماعية الحاضنة والدافعة لها.
القراءة التاريخية لانتفاضات الربيع العربي ؛هي أننا أمام إعادة تشكل للتاريخ كله في المنطقة،نحن أمام محطة تاريخية فاصلة :فالقديم قاد إلي الانفجار ،ولم يعد قادرا علي تقديم استجابات لتحديات المجتمع والدولة. ولكن الجديد لم يتبلور بعد ،واللحظة ليست خواء كما يظن البعض ،بل تمتلء بالكثير والكثير مما يصب في المستقبل ،وبمقدار قدرة المؤسسات والقوي والأحزاب السياسية علي إلتقاط مقومات هذه اللحظة بمقدار ما سيستردون حضورهم وثقة المواطنين التي تؤكد عديد استطلاعات الرأي https://www.dohainstitute.org/ar/Lists/ACRPS-PDFDocumentLibrary/Arab-Opinion-Index-2019-2020-Inbreef-Arabic-Version.pdf
أنها تراجعت إلي حد كبير.
أنا أدرك أن مشاريع الماضي المرتحل لم تكن مجرد صياغات وعبارات عابرة تحملها قوة السلطة بالمعني الواسع لمفهوم السلطة،إنها شكل أو مقترح للحياة،ولطبيعة المجتمع بشبكة علاقاته وهي خطاب وممارسة لتصورات وخيال سياسي واجتماعي واقتصادي ، وتصور معرفي للحياة والدولة ،تنبثق عنهما أعراف وتقاليد ومؤسسات ولغة وتصور للمجتمع ولأفراده ،تصور للذات والآخر يعبر عن نفسه في قوانين وتشريعات ودستور وعلاقات انتاج.
سردية الانتفاضات العربية بحث عن عقد اجتماعي جديد يتم به إعادة بناء الدولة الوطنية بنخب جديدة ،ويستند هذا العقد إلي مقومات ثلاثة:الحرية/الديموقراطية ،والعدالة الاجتماعية/التوزيع العادل للموارد،وتحرير الإرادة الوطنية من الهيمنة الإقليمية والدولية.هذا الحلم يكاد يكون عليه توافق من الطبقة الوسطي والطبقات الدنيا وبعض شرائح من الطبقة الوسطي العليا، لكن قوته المحركة أجيال جديدة من الشباب مع حضور نسائي طاغ.
إعادة هندسة الاستقطابات
تقدم لنا دراسات الفترات الانتقالية سلسلة من اللحظات التي قد يستلزم كل منها ميثاقا أو اتفاقيات منفصلة،إلا إنه يمكن الحديث عن محطات مفصلية ثلاث:
١-اللحظة العسكرية ، حيث تدور المفاوضات حول الظروف التي سيمتنع فيها الجيش عن تعطيل عملية الانتقال والتخلي عن مطالبته بالحكم. تهدف هذه الشروط عادة إلى حماية الجنرالات من أي عمل انتقامي وحماية المصالح الحيوية للمؤسسة العسكرية.
٢-اللحظة السياسية التي تأتي بعد التأكد من عودة الجيش إلى ثكناته. الهدف من هذه المفاوضات هو وضع لوائح بشأن المنافسة بين النخب السياسية ، وتقاسم المنافع بينها بشكل متناسب ، والحد من أجندة سياستها ، وتقييد مشاركة المتطرفين في صنع السياسات.
٣- آخر ما سيأتي هو اللحظة الاقتصادية ، التي تهدف إلى المساومة على المصالح الطبقية وضمان حقوق الملكية للبرجوازية والطبقة العاملة وسياسات العدالة الاجتماعية.
إلا أن خبرة مصر في الربيع العربي تقدم لنا لحظة رابعة يقتضي فبها الأمر انشاء عدد من المواثيق ؛وهي اللحظة الاجتماعية التي تبرز فيها قضايا المرأة والأسرة https://www.slideshare.net/sawwaf/ss-58373972
بشكل كبير في ظل محاولة للتراجع عن المكتسبات التي تحققت في هذا المجال بحجة أنها من بقايا النظام البائد.
يدرك الكاتب أن دوافع الانتفاضات العربية شديدة التنوع والتعقيد ،واختلطت فيها اللحظات الأربع مع بعضها البعض؛ لذلك ، كان من الصعب تنظيم مفاوضات/حوار بجدول أعمال واضح،وبرغم هذا فإنه يمكن الاشارة إلي الملاحظات التالية:
١-من السمات البارزة أن سياسات العدالة الاقتصادية والاجتماعية كانت شبه غائبة عن جميع أجندة المفاوضات برغم أن الأداء الاقتصادي الضعيف وسياسات الضمان الاجتماعي غير الملائمة كانت أحد المظالم الرئيسية وراء انتفاضات الربيع العربي ، إلا أنه تم تجاهلها إلى حد كبير من قبل الإدارة الانتقالية.
٢-برغم أن الانتقال في كل قطر عربي كانت له خصوصيته ،إلا أنه من الملاحظ فيها جميعا أن النظام القديم نجح في الاحتفاظ بدرجة متفاوتة من النفوذ السياسي من خلال مؤسسات متعددة اختلفت من قطر لآخر ؛كان ذلك من خلال المؤسسات الوصية مثل المجلس العسكري في مصر ،بينما في بلدان أخري حافظ النظام القديم علي نفوذه من خلال الأحزاب أو رجال الأعمال ..إلخ.
استمرار النظام القديم كان يستدعي بالضرورة اعطاء الأولوية لتفكيك بنية الاستبداد التي هي عميقة وممتدة في الأنظمة العربية وتأخذ قوة دفع من خلال شبكات الامتياز الدولية والإقليمية.
كما أن هذا الاستمرار من شأنه أن يعيد تصنيف القوي والمؤسسات السياسية إلي قديم وجديد باعتبار أن الأخير تمثله قوي التغيير ،ومن شأن ذلك أن يعيد الفرز داخل الاسلاموية والعلمانية لأن كلا منهما يتوزع علي القديم والجديد أيضا.،ولقد مثلت جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية المصرية في ٢٠١٢ لحظة كاشفة لهذا التصنيف الجديد سرعان ما تم التراجع عنه لصالح الانقسام الإسلامي العلماني.
ولا نتجني هنا إن قلنا أن قلنا أن الانقسام الإسلامي العلماني كان أحد الاسباب الرئيسة وراء النكوص عن الثورة المصرية وسهل إعادة انتاج الاستبداد مرة أخري حين استطاع المجلس العسكري أن يوظف هذا الاستقطاب لصالح استمرار مشروعه لحكم مصر.
٣-تشابه الإسلاميون والعلمانيون-وإن بدوافع مختلفة-في تبنيهم لعقيدة شمولية تعلي من شأن السلطة علي حساب المجتمع ؛فالاثنان يجعلان منها المركز في تحويل مشروعهما إلي واقع :فالإسلاميون يقولون بمحورية السلطة لتطبيق الشريعة ،والعلمانيون نتاج نظرتهم الدونية لشعوبهم حين يصمون ثقافتهم بالتخلف عن للحداثة؛ فتصبح السلطة أداة اساسية لتغييره والوصول به إلي التقدم.
غابت عند مناقشة الدساتير حديث في طبيعة الدولة العربية في حقبة الربيع العربي خاصة في علاقتها بالمجتمع،وكيف يمكن بناء الديموقراطية التشاركية باعتبارها أحد أهم تجليات الحراك في هذه الانتفاضات.
وهكذا؛ استخدم الاستقطاب الإسلامي العلماني للتغطية علي أنواع أخري منه كانت أولي بالاهتمام مثل الصراع بين سياسة الشارع وبين بناء المؤسسات ،أو الصراع بين الجهوي/المحلي وبين المركزي ،والصراع بين الثوري وبين الاصلاحي ،وآخرًا وليس أخيرا بين المطالب الاجتماعية/الاقتصادية وبين السياسية.
ولايزال السؤال مطروحا :هل تبقي من الاستقطاب الإسلاموي العلماني شيئ إذا فصل بين السياسي وبين الثقافي/الدعوي الذي هيمن علي ممارسات الطرفين السياسية.
Share: