نشر في مدى مصر بتاريخ مارس 2021

يرى خبراء دراسات الشرق الأوسط غيابًا تامًا لتأثير مصر في الإقليم أو ما اصطلحت عليه النخبة المصرية -رسمية وغير رسمية- في «الريادة الإقليمية»، ففي ترتيبهم لدول الشرق الأوسط الأكثر تأثيرًا رأي 50% منهم أن مصر تحتل المرتبة السابعة والأخيرة في التأثير، في حين رأي 20% ؜منهم أنها تحتل المرتبة السادسة قبل الاخيرة، ولم ير غير 5% منهم فقط أن مصر يمكن أن تحتل المراتب الثلاثة الأولي في التأثير (1% للمرتبة الأولى ومثلها للثانية، و3% للمرتبة الثالثة). هذه الحقيقة تدعو النخب المصرية لأهمية إدارة حوار حول سبل استعادة هذا الدور في ظل بيئة دولية وإقليمية متغيرة تفرض ضرورة تجديد العديد من المقولات الوطنية التي لم تعد من المسلمات.

ولكن ما هي ملامح المنطقة في السنوات العشر القادمة؟

يرسم خبراء الشرق الأوسط ملامحه من خلال استطلاع أجري في الفترة من 8-15 فبراير 2021 حول سياسات قائمة وتوقعات مستقبلية لخمس من القضايا الأساسية: القضية الفلسطينية، والانتفاضات العربية، والاتفاق النووي الإيراني، ونفوذ الدول الكبرى في المنطقة، وأخيرًا أي دول الإقليم أكثر تأثيرًا فيه.

أهمية الاستطلاع الذي قام عليه شبلي تلحمي ومارك لينش؛ وهما من أهم خبراء المنطقة، تنبع من عدة أسباب: أهمها أنه بات باروميتر دائمًا باسم «Middle East Scholar Barometer» له تأثير في صنع السياسات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، خاصة أن إطلاقه جاء في بداية إدارة بايدن التي تعيد صياغة علاقتها تجاه المنطقة على الأقل في ما يخص ملفاتها الأساسية. كما اتسم الاستطلاع بالجمع بين معرفة اتجاهات الخبراء في السياسات القائمة وتوقعاتهم المستقبلية، وأخيرًا فإن هذا الاستطلاع تم توزيعه على 1293 خبيرًا من أعضاء جمعية دراسات الشرق الأوسط «MESA»، وقسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في الجمعية الأمريكية للعلوم السياسية «APSA»، وهما من أهم المجتمعات التي تضم خبراء المنطقة، وقد استجاب 40% منهم أي 521 عالمًا وباحثًا.

لمن التأثير اليوم؟

من حيث التأثير الإقليمي الحالي، احتلت الأولوية كلا من إيران (73%)، والسعودية (69%؜)، وإسرائيل (63%)، وتركيا (51%)، في حين جاء تاليًا كلا من الإمارات العربية المتحدة بنسبة 23%، وقطر 7%، وجاءت مصر في المرتبة السابعة والأخيرة بنسبة 5%؜.

يتفاعل نفوذ دول الإقليم مع بيئة دولية متغيرة أبرز ملامحها -كما أوضح الخبراء:

 ١- استمرار نفس التأثير للقوى الدولية في سياسات المنطقة مقارنة بما كان عليه الحال قبل عشر سنوات إن لم يزد، ففي حين يرى 42%؜ أن القوى الدولية لها نفس التأثير، يرى 29% زيادة في التأثير في مقابل 28% يرون أن تأثير القوى الدولية سيكون أقل مقارنة بالأعوام العشرة الأخيرة.

٢- ويلاحظ مع استمرار نفوذ القوى الدولية في المنطقة، إلا أنه يتسم بتعدد الأقطاب: تظل الولايات المتحدة القوة الأكثر هيمنة على سياسات المنطقة -وفق رأي هؤلاء الخبراء، ففي حين يري 54% منهم تمتع كلا من الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي بالإضافة إلي الولايات المتحدة بالنفوذ، فإن 38% يرون الولايات المتحدة هي القوة العظمى الأكثر نفوذًا في المنطقة. وبرغم ذلك فإن ثلاثة أرباعهم يرون تراجع النفوذ الأمريكي مقارنة بعشر سنوات مضت، في حين يرى الخمس تقريبًا (21%) بقاء نفس النفوذ مقارنة بالعقد الماضي.

هذه الاتجاهات وإن كانت تبرز معضلة  الهيمنة والانسحاب التي تواجهها السياسة الأمريكية في حقبة ما بعد ترامب، إلا إنها بالنسبة لدول المنطقة تمثل فرصة على مستويين مترابطين ومتكاملين: بناء نظام للأمن الجماعي في المنطقة من خلال إعادة صياغة علاقة أطرافها الأساسية بالقوى الدولية، ويدعم هذا التوجه أن هناك طلبًا متصاعدًا على الاستقرار من القوى كافة، إقليمية، ودولية، ومحلية، بغض النظر عن اختلافها في تحديد المقصود بالاستقرار وهو ما سيكون محل حوار في أية صيغة للأمن الجماعي.

تقع قضية العلاقة مع إيران في صلب الأمن الإقليمي، صحيح أن الاستطلاع جرى من منظور السياسة الأمريكية تجاه الملف النووي الإيراني، إلا أن الاتجاهات التي سيسير فيها بالمستقبل من شأنها التأثير على مجمل أوضاع المنطقة.

يري ثلاثة أرباع المستطلعين (75%) أن عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي الإيراني بعد انسحابها منه في عهد ترامب هي الإستراتيجية التي من شأنها أن تقلل احتمال حصول إيران على سلاح نووي، خاصة أن 67% منهم يرون أن هذه الإستراتيجية من المرجح أن تحقق مصالح الولايات المتحدة.

 وتفضل نسبة الربع تقريبًا (23%) التفاوض على صفقة أوسع تشمل الصواريخ البالستية الإيرانية وكذا الأمن الإقليمي. ولكن يلاحظ أن إدارة بايدن قد حسمت خيارها الإستراتيجي نحو العودة لاتفاق «5+1» مع إمكانية التفاوض على توسيعه مستقبلًا.

 وهنا يصبح التساؤل مطروحًا، هل إعادة إحياء الاتفاق النووي من شأنه أن يزيد النفوذ الإيراني في المنطقة وتصاعد التنافس الإقليمي فيها ويساعد علي مزيد من التطبيع مع الكيان الصهيوني، أم يكون مقدمة للحوار حول نظام للأمن الجماعي؟

الانتفاضات العربية مستمرة

ثلاثة أرباع علماء المنطقة المستطلعين يرون أن الانتفاضات التي يصادف هذه الأيام عقد على اندلاعها لا تزال مستمرة: فقرابة النصف (46%؜) يرونها جارية لم تتوقف، في حين يرى 30% احتمال عودتها مرة أخرى في السنوات العشر القادمة، وهذه النسبة إذا أضيف إليها 17%؜ يرون احتمال عودتها في ما بعد العقد القادم نكون بإزاء تأكيد لاستمرارية لهذه الانتفاضات.

البحث في سؤال الاستمرارية مما اختلفت فيه تفسيرات الباحثين، فالبعض يرجعها لبقاء الأسباب والظواهر التي أنتجتها، وربما كانت الموجة الثانية التي اندلعت العام الماضي وشملت أربع من دول المنطقة تأكيد لهذه الاستمرارية التاريخية لهذه الظاهرة، ويرجع البعض الآخر مرد ذلك إلى انتمائها إلى قيم وممارسات القرن الواحد والعشرين باعتباره نموذجًا معرفيًا مختلفًا عما قبله.

هذه الاستمرارية التاريخية ليس معناها -وفق رأي الخبراء- إحداث تأثير تحويلي عميق؛ فعلماء المنطقة يدركون حدود النموذج الانتفاضي العربي. إذ يرى قرابة (54%؜) منهم أنها ستكون لها تأثيرات عميقة ولكن ليس تحويلية، في حين يرى 29% منهم أنها ستكون ذات تأثير تحويلي، في مقابل 17% لا يرون إلا إنها ذات تأثير محدود على المدى الطويل.

وبرغم عدم وضوح ما يعنيه الخبراء بالتأثير  العميق أو التحويلي، إلا إني أري أن معيار تقويم مسار هذه الانتفاضات هو طبيعة العقد الاجتماعي الذي ستسفر عنه تطورات المنطقة، فسردية الانتفاضات العربية تبحث عن عقد اجتماعي جديد يتم به إعادة بناء الدولة الوطنية بنخب جديدة، ويستند هذا العقد إلى مقومات ثلاثة: الحرية/الديموقراطية، والعدالة الاجتماعية/التوزيع العادل للموارد، وتحرير الإرادة الوطنية من الهيمنة الإقليمية والدولية.

القضية الفلسطينية ونهاية الأساطير

يطرح الاستطلاع قضية بالغة الأهمية تستدعي إعادة التفكير والحوار من القوى الوطنية الفلسطينية والعربية حول الحل الذي يمكن المراهنة عليه في ظل أوضاعها التي انتهت إليها الآن من استيطان وتطبيع وانقسام فلسطيني وتداعيات الربيع العربي.. إلخ.

يؤكد النصف تقريبًا (52%) أن حل الدولتين لم يعد ممكنًا، في حين يرى 42% منهم أنه ممكن لكنه غير محتمل التحقق في غضون العشر سنوات القادمة، في مقابل 6% فقط؜ يرون إمكانية تحققه في العقد الجاري.

والأهم من وجهة نظري والذي يمكن أن يعطي قوة دفع كبرى للنضال الفلسطيني أن هؤلاء الخبراء يقرون بطبيعة الكيان الصهيوني باعتباره دولة فصل عنصري، فعند سؤالهم عن الممكن خلال العقد القادم في علاقة إسرائيل بالضفة وغزة، يري ثلاثة الأرباع تقريبًا (77%؜) أننا سنكون بازاء دولة واحدة شبيهة بالفصل العنصري. في حين يرى 17% أن الوضع سينتهي إلى دولة واحدة مع تزايد عدم المساواة، في حين أقرت أقلية ضئيلة (3%) أن الحال سيؤول إلى الكونفيدرالية.

اعتراف الخبراء بمسألة الفصل العنصري للكيان الصهيوني بمثابة تحول تاريخي هام ستكون له تداعيات مستقبلية على التعامل مع القضية الفلسطينية إذا حسن استثماره من القوى الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني، ولكنه يثير التساؤل حول طبيعة الحل الذي تقدمه هذه القوى: حل الدولتين لشعبين منفصلين أم حل الدولة الواحدة الديمقراطية ذات القوميات المتعددة؟

Share: