نُشر في فكر تاني – أغسطس 2025

صاغ عالم السياسة والاجتماع الأمريكي هارولد لاسويل هذا المفهوم في مقال مؤثر عام 1941 بعنوان “The Garrison State”.

هارولد لاسويل Harold Dwight Lasswell

هارولد لاسويل Harold Dwight Lasswell

يشير هذا المفهوم إلى نوع من الدولة أو المجتمع حيث يصبح “المتخصصون في العنف” (أي النخبة العسكرية والأمنية) هم القوة المهيمنة، وتطغى الأولويات العسكرية والأمنية على جميع الاعتبارات الاجتماعية والسياسية الأخرى.

وفي التاريخ الإسلامي، فإن “دولة العسكر والجند والقطائع” تشير إلى فترة تاريخية اتسمت بتزايد نفوذ الجيش والقادة العسكريين، والذين كانوا يسيطرون على مساحات واسعة من الأراضي (القطائع) كوسيلة لتعزيز قوتهم الاقتصادية والسياسية، مما أدى في النهاية إلى ضعف سلطة الخلافة المركزية وظهور الدول المستقلة في الأطراف، مثل الدولة الطولونية.

هذا النوع من الدول يختلف عن الدولة العسكرية، فالأخيرة تشير إلى نظام حكم تكون فيه السلطة السياسية والاقتصادية العليا بيد المؤسسة العسكرية أو القادة العسكريين. في هذا النوع من الدول، لا يقتصر دور الجيش على الدفاع عن الحدود، بل يتعداه إلى إدارة شؤون البلاد الداخلية والخارجية بشكل مباشر.

لقد تأثر لاسويل بتطور الحروب الجوية (كما حدث في الحرب الثانية) واعتقد أنها ستؤدي إلى انتشار التهديدات، و”تأميم المخاطر” من خلال مركزة السلطة مما يقلل الحريات الفردية لصالح الأمن القومي. وقد تم تطبيق هذا المفهوم على دول مختلفة في أوقات الصراع أو الاستقطاب الأمني الشديد، حيث تصبح الأولويات الأمنية هي المحرك الأساسي للمجتمع، بما يدفع لقبول هذا النمط من الحكم.

ترامب وهيمنة لوبي السلاح

يرى بعض المحللين أن دولة الجند والقطائع قد وصلت وتعززت مع ترامب، وهو ما يمثل تحقيقًا لما حذر منه الرئيس د. أيزنهاور في خطاب الوداع الذي ألقاه عام 1961.

في خطابه الأخير من البيت الأبيض، حذر الرئيس دوايت أيزنهاور من أن سباق التسلح من شأنه أن يستنزف الموارد من مجالات أخرى ــ مثل بناء المدارس والمستشفيات. بيل ألين/أسوشيتد برس

في خطابه الأخير من البيت الأبيض، حذر الرئيس دوايت أيزنهاور من أن سباق التسلح من شأنه أن يستنزف الموارد من مجالات أخرى ــ مثل بناء المدارس والمستشفيات. بيل ألين/أسوشيتد برس

سلط تحذير أيزنهاور الضوء بشكل خاص على المخاطر التي يشكلها “التأثير غير المبرر” للشراكة بين الجيش ومجموعة متنامية من شركات تصنيع الأسلحة الأمريكية، وهي الشراكة التي أطلق عليها بشكل ينذر بالسوء “المجمع الصناعي العسكري”.

في جوهرها، نشأت “دولة الجند والقطائع” مع تصاعد نفوذ المجمع الصناعي العسكري وقوته المالية، مما أدى إلى وضع ذي عواقب سلبية على الجميع تقريبًا، باستثناء المديرين التنفيذيين ومساهمي تكتلات الأسلحة الكبرى وقطاع التكنولوجيا العسكرية الناشئ.

يشير البعض إلى أن “دولة الجند والقطائع” نشأت لأن هذا المجمع نما إلى حجم وقوة غير مسبوقين، أبعد بكثير مما كان أيزنهاور يتخيله.

يفترض مفهوم “دولة الجند والقطائع”، كما وصفه هارولد لاسويل، مستقبلًا يصبح فيه “المتخصصون في العنف” – الجيش والأمن – أقوى مجموعة في المجتمع، مما يؤدي إلى تحول الهيمنة بعيدًا عن رجال الأعمال. تتميز هذه الدولة بالإنفاق العسكري المرتفع، ودمج مهارات الإدارة العسكرية والمدنية، والتلاعب بالرموز لرفع الروح المعنوية، و”تأميم الخطر” حيث تتداخل الوظائف المدنية والعسكرية، وحكومة مركزية ديكتاتورية تعطي الأولوية للإنتاج العسكري على الاستهلاك غير العسكري.

تبين وفق دراسة صدرت الشهر الماضي لمشروع تكاليف الحرب في جامعة براون الأمريكية، أنه بين عامي 2020 و2024، تلقت خمس شركات كبرى عقودًا بقيمة 2.4 تريليون دولار من البنتاغون، وهو ما يمثل ما يقرب من 54% من إجمالي الإنفاق التقديري للوزارة البالغ 4.4 تريليون دولار خلال تلك الفترة.

حصلت هذه الشركات الخمس مجتمعة – وهي لوكهيد مارتن وبوينغ وRTX (المعروفة سابقًا باسم Raytheon) وجنرال ديناميكس وشركة نورثروب جرامان – على هذا المبلغ، وهو ما يفوق بكثير مبلغ 356 مليار دولار المخصص لميزانية الدبلوماسية والتنمية والمساعدات الإنسانية الأمريكية (باستثناء المساعدات العسكرية) خلال نفس الفترة.

تشير الدراسة إلى أن “دولة الجند والقطائع” لا تستفيد منها شركات الأسلحة “الخمسة الكبار” التقليدية فحسب، بل أيضًا “قطاع التكنولوجيا العسكرية الناشئ”.

استفادت صناعة الأسلحة الأمريكية بشكل هائل من الزيادة الكبيرة في مبيعات الأسلحة الأجنبية المرتبطة بالحروب في أوكرانيا وغزة. ويوضح هذا كيف أن أولوية الإنفاق العسكري، وهي السمة المميزة لدولة الجند والقطائع، تمتد إلى الصراعات الدولية.

ترامب وسط تجمع حاشد للقوات في فورت براغ. (أليسون جويس / بلومبرج عبر جيتي إيماجز)

ترامب وسط تجمع حاشد للقوات في فورت براغ. (أليسون جويس / بلومبرج عبر جيتي إيماجز)

وعلى وجه التحديد، قدمت الولايات المتحدة أكثر من 18 مليار دولار كمساعدات عسكرية لإسرائيل في العام الأول فقط بعد أكتوبر 2023، مع ما لا يقل عن 30 مليار دولار من الالتزامات لمبيعات الأسلحة المستقبلية. هذا التحويل الضخم لأموال دافعي الضرائب يفيد بشكل مباشر شركات تصنيع الأسلحة الأمريكية الكبرى، مما يعزز الأسس الاقتصادية لـ “دولة الجند والقطائع”، حيث تتمتع النخب “بمصلحة مهنية في مضاعفة الأدوات المتخصصة في أعمال العنف”.

تم تقديم 66 مليار دولار من المساعدات العسكرية لأوكرانيا منذ الغزو الروسي عام 2022، كما تجاوزت مبيعات الأسلحة الممولة من الخارج للحلفاء الأوروبيين 170 مليار دولار في عامي 2023 و2024 وحدهما.

تسلط هذه المساعدات والمشتريات الضوء على جانب رئيسي من جوانب دولة الجند والقطائع: توجيه القدرات الإنتاجية نحو الأغراض العسكرية، غالبًا على حساب الاحتياجات المجتمعية الأخرى.

يُضاف إلى الشركات الخمس الكبرى عدد من شركات التكنولوجيا العسكرية الناشئة مثل Palantir وSpaceX وAnduril. تزعم هذه الشركات أنها تقدم “نسخة جديدة وأكثر فعالية وأقل تكلفة وأكثر مرونة من المجمع الصناعي العسكري”. يزعمون أن أسلحتهم التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، وشبه المستقلة – التي لا تحتاج إلى عنصر بشري – يمكن أن توفر جيلًا مستقبليًا من الأسلحة بشكل أكثر فعالية وبتكلفة أقل، ويمكنها توسيع الهيمنة العسكرية الأمريكية العالمية.

تستفيد أيضًا شركات التكنولوجيا الكبرى مثل أمازون، ومايكروسوفت، وجوجل، وأوراكل، وآي بي إم، حيث تقسم بشكل جماعي 10 مليارات دولار لبرنامج الحوسبة السحابية التابع للبنتاغون.

من التطبيقات المهمة في صراع غزة استخدام جيش الدفاع الإسرائيلي لتقنية بالانتير. استخدمت هذه التقنية لزيادة عدد الأهداف المدمرة خلال فترة زمنية محددة في حملتهم على المجازر الجماعية في غزة. ويجسد هذا الدور المباشر والفائدة التي يحققها قطاع التكنولوجيا العسكرية الناشئ في الصراعات المستمرة.

تكتسب شركات التكنولوجيا العملاقة الجديدة، مثل بالانتير (بيتر ثيل)، وسبيس إكس (إيلون ماسك)، وأندوريل (بالمر لوكي)، نفوذًا وعقودًا بمليارات الدولارات في مجال الذكاء الاصطناعي، والطائرات بدون طيار، والحوسبة المتقدمة، مما يعد بـ “نسخة جديدة، أقل تكلفة، وأكثر مرونة، وأكثر فعالية من المجمع الصناعي العسكري”. ويوضح تدخلهم في غزة المظهر العملي لهذا “العقدة” الجديدة.

إن استخدام الحرب التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي وتأميم الخطر، والتي قد تسهلها شركات مثل بالانتير، يشكل مخاطر كبيرة، بما في ذلك إمكانية تمكن الأسلحة الجديدة من اختيار أهدافها دون تدخل بشري. قد يؤدي هذا إلى زيادة احتمالية نشوب الحروب وزيادة فتكها.

يشير مفهوم لاسويل “لتأميم الخطر” إلى أن الحرب الحديثة، وخاصة الحرب الجوية (وفي واقعنا حروب المسيرات والذكاء الاصطناعي)، تميل إلى إلغاء التمييز بين الوظائف المدنية والعسكرية، مما يؤدي إلى تفوق الخسائر المدنية على الخسائر العسكرية. الاستخدام المكثف للذكاء الاصطناعي لزيادة كفاءة الاستهداف في غزة، يعني اتساع نطاق الخطر على جميع السكان.

إن مثل هذا الاستبداد التقني من المرجح أن يخدم مصالح نخبة صغيرة نسبيًا، بدلًا من أن يُساعد المواطن العادي بأي شكل من الأشكال.

طائرة بدون طيار على نقطة مراقبة على جبل الزيتون بالقرب من البلدة القديمة في القدس، 12 يوليو 2022. (ناتي شوحط/فلاش90)

طائرة بدون طيار على نقطة مراقبة على جبل الزيتون بالقرب من البلدة القديمة في القدس، 12 يوليو 2022. (ناتي شوحط/فلاش90)

النفوذ السياسي

قطاع التكنولوجيا “متجذر بعمق” في إدارة ترامب، مع وجود أفراد مثل نائب الرئيس جيه دي فانس على علاقة وثيقة مع بيتر ثيل – أحد مؤسسي شركة بالانتير. كما كان إيلون ماسك يلعب دورًا مهمًا بحكم الأمر الواقع في الإدارة. هذا الارتباط القوي يسمح لشركات التكنولوجيا العسكرية “بتأثير غير مسبوق على اللوائح والنفقات الفيدرالية”. ومن المرجح أن يمتد ذلك إلى القرارات المتعلقة بالمساعدات العسكرية ودعم الصراعات مثل صراع غزة.

هذا الانغماس السياسي يضمن – في كثير من الأحيان – أن “الأرباح هي التي تحرك السياسة”.

تحافظ صناعة الأسلحة على قوة سياسية كبيرة من خلال ملايين التبرعات للحملات الانتخابية، وتوظيف 950 من جماعات الضغط اعتبارًا من عام 2024، بزيادة عن عام 2020، بالإضافة إلى ظاهرة “الباب الدوار”، حيث ينتقل كبار المسؤولين الحكوميين والبنتاغون إلى مناصب مربحة مع هذه الشركات أو شركات رأس المال الاستثماري التي تستثمر في الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا العسكرية.

وأخيرًا وليس آخرًا، فإن هذه الشركات تقوم بتمويل مراكز الأبحاث المتشددة التي تدافع عن سياسات تخدم مصالحها، والخدمة في اللجان الاستشارية الحكومية التي تشكل سياسات الدفاع، حيث غالبًا ما يكون لأغلبية الأعضاء علاقات بصناعة الأسلحة.

تدعم هذه الشركات زيادة الحروب من خلال عدة آليات، مدفوعة في المقام الأول بالمصالح المالية، والتأثير السياسي، والترويج للتقنيات العسكرية الجديدة.

باختصار، إن “دولة الجند والقطائع” الأمريكية تؤثر على الصراع في غزة من خلال مساعداتها العسكرية الضخمة، والمشاركة التشغيلية المباشرة للتكنولوجيا العسكرية الأمريكية، والنفوذ السياسي الذي تمارسه شركات الأسلحة الأمريكية، وخاصة شركات التكنولوجيا الناشئة، التي تستفيد بشكل كبير من الحرب المستمرة. يتماشى هذا مع رؤية لاسويل لمجتمع يكتسب فيه المتخصصون في العنف والصناعات المرتبطة بهم التفوق، مما يؤدي إلى سياسات تعطي الأولوية للفعالية العسكرية والتقدم التكنولوجي في الحرب على الاحتياجات المجتمعية.

Share: