
يسعي هذا المقال إلي اثارة قضية هامة تأخرت اكثر مما ينبغي تتعلق بمدي امتلاكنا نحن المصريون ؛مجتمعا ودولة لأجندة حوار جادة تتعامل مع تداعيات فيروس كورونا ،فكثير من المحللين يرون أن الجائحة ستغير العالم حقا ،وان ما كنا نعرفه ربما لن يكون موجودا في السنوات القليلة القادمة.
أقول اننا تأخرنا لان الحوارات في العالم قد انطلقت من شهرين أو يزيد ،وهي تدور حول شكل العالم ما بعد كورونا ،وبعضها الآخر اتخذ موضوعًا أو نطاقا محددا يناقش تأثير الفيروس علي عمله ،فقد قدر لي أن اتابع الحوارات الدائرة حول مدي تأثر حقل حل النزاعات وبناء السلام بالفيروس.
أما في مصر فقد غلب علينا النقاش من منظور المكايدات السياسية ، وبات الاستقطاب الذي يسيطر علي الأفئدة والعقول يغطي علي إمكانية بدء حوار جاد حول مستقبل الوطن في ما بعد كورونا ؛ فالأمر أجل وأخطر من أن نتعامل معه وفق هذا المنظور الانتهازي الضيق ،ولحسن الحظ فقد لاحظت أنه بدأت بعض الأصوات في الايام الأخيرة تتعالي لتطرح بعض الموضوعات الجديرة بالنقاش.
دعنا نرصد بعض القضايا والموضوعات التي بدأت تناقش في الإطار الاستراتيجي الدولي وسيكون لها تأثيراتها علي منطقتنا وأوطاننا:
١-إعادة التفكير في العولمة:هل تستمر قوة الدفع فيها أم يتم الانكفاء الداخلي ؛أي داخل الأوطان ووفق أسس قومية؟-وهل يتم التراجع وأفول التنظيمات الإقليمية (الاتحاد الأوربي مثالًا) أم يعطي للتعاون الدولي قوة دفع أكبر (من الملاحظ غياب جامعة الدول العربية عن المشهد تماما ) ،خاصة أن الأزمة أظهرت مدي تأثر العالم وارتباطه ببعضه البعض (تأمل بيان الاتحاد الأوربي عن تأثير تفشي الوباء في أفريقيا علي أمنه الذاتي ،فلا يمكن حماية أمنك بمفردك )؟-هل يجب أن نتجاوز حوكمة العولمة ،أي نتحدث عن مؤسسات جديدة بعد أن ثبت عدم فعالية المؤسسات التي نشأت في العقد الأخير من القرن العشرين؟
بعبارة موجزة هل تتراجع العولمة أم تستمر مع تغير أشكالها ،أي نهاية العولمة كما نعرفها ؟
٢-التحول العالمي في النفوذ والقوة ؛بمعني هل نشهد تراجع الغرب بقيادة الولايات المتحدة لصالح الشرق بقيادة الصين؟ أم يظل التفوق الأمريكي مستمرا استنادًا إلي تفوقه العسكري والعلمي / التكنولوجي؟
٣-دور الحكومات ومدي كفاءتها في إدارة الأزمة ،فقد تتطلع الناس إلي حكوماتهم لحمايتهم ،وتدخلوا بإجراءات عديدة تحيط بالناس من كل جانب وتتدخل في مساحات الخصوصية. فهل يستمر هذا الدور وبهذا الحجم من التدخل أم لا؟
٤-طبيعة النظام الرأسمالي وجوهر نمطه الاقتصادي ،وما يرتبط به من أولويات الإنفاق علي السياسات العامة :ما هو مستقبل التصنيع العالمي المعتمد علي سلاسل الامداد لمسافات طويلة ؟ بمعني توزع مراحل الإنتاج الصناعي علي بلدان كثيرة وفق الميزة النسبية لكل بلد ،فقد أجبر الفيروس الحكومات والشركات والمجتمع علي التعامل مع فترات من العزلة.
وتري بعض رموز اليسار أن الفيروس لم يكتف بضرب صحة الناس ؛بل ضرب النيوليبرالية بمقتل وأظهر أزماتها المتتالية، ويظل السؤال مطروحا حول إمكانية أن تجدد الرأسمالية نفسها بأن تطعم بمنزع اشتراكي الفترة القادمة كما شهدنا بعد الحرب العالمية الثانية دولة الرفاه؟ ويثار في هذا الصدد التساؤل حول نوعية الحركات السياسية التي ستشهد جماهيرية وشعبية خلال الفترة القادمة ؟
٥-وهناك جدل وصلت إلينا أصداؤه ؛فأيهما أفضل النظم الديموقراطية ام التسلطية في التعامل مع الأزمات ؟ وهنا أحب أن أشير أن هناك بعض المقالات العلمية التي تتحدث عن المسئولية القانونية للصين عن تفشي الوباء في العالم نتيجة عدم شفافية المعلومات وتأخرها في التعامل مع الفيروس ،وتناقش هذه المقالات إمكانية مطالبتها بدفع تعويضات للمضارين.
ويوجد نقاش بالغ الأهمية حول تغول الدولة وزيادة هيمنتها علي مواطنيها في ظل قبول مجتمعي لهذا التدخل في حياتهم والرقابة علي سلوكهم.
٦- التأثير علي الدول الضعيفة/الهشة ،فقد أشار البعض الي أننا سنشهد مزيدًا من الدول الفاشلة خلال الفترة القادمة.
ويثار السؤال حول شرعية النظم في هذه الدول ومستقبلها في ظل فشلها أو نجاحها في إدارة الأزمة ؟
هذه بعض نماذج من القضايا المثارة في العالم الآن ، يضاف إليها بالطبع اهتمام كبير بتأثيراته الاقتصادية في المدي الطويل والمتوسط ،وتعاظم دور الأون لاين في الفترة الحالية ومستقبلًا ،كما تمت الإشارة الي بعض المداخل الهامة التي يجب أن تحكم اختياراتنا وبناء نظمنا الاقتصادية والتعليمية والصحية.
ويظل السؤال مطروحًا هل يمكن أن تكون لنا أجندة مصرية للحوار حول الفيروس ،أم أنه كورونا أصاب نظمنا المعرفية والفكرية والمجتمعية قبل أن يصيب ابداننا ؟
وإذا قدر لنا ان نرسم منهج نظر يساعدنا في تحديد ملامح هذه الأجندة ؛فانه يمكن الحديث عن محددات أربعة :
أولًا:الفيروس كاشفا وليس منشئًا :فهو لم يظهر الأشياء من فراغ ،ويمس جميع المجالات ،ويفعل ذلك من خلال إبراز الديناميكيات الموجودة بالفعل ،ولكنه ايضا يخرج التطرف في كل شيئ ومن كل شيئ. هو يؤدي إلي تسريع العديد من القوي الموجودة مسبقًا ،فهو وان كان كارثة عالمية تتعلق بالصحة العامة،إلا أن له ابعاد تطال أشياء كثيرة ،فهو يهدد عدد لا يحصي من الأرواح وفي نفس الوقت يدمر اقتصادات ،ويضغط علي مؤسسات وطنية ودولية إلي حد الانهيار ،وحتى بعد انحسار الفيروس فإن الحطام الذي يتخلف في كل مجال من الدولة الي المجتمع ،وفي النظام الدولي ،والاقتصاد والسياسة؛ سيكون عميقا.
وإذا كان الفيروس كاشفا وليس منشئًا ،وعميق التأثير ،وفي كل مجال ؛فإن الأجندة المقترحة يجب ان تلتقط العناصر الجوهرية في مجالات خمس : الصحة والاقتصاد والمجتمع والنظام الدولي والسياسة.
ثانيا :طريقة ادارة الأزمة :يجب ان نؤكد أننا حتي الآن في مرحلة من انتشار الفيروس تسمح بالقدرة علي التحكم في تداعياته الصحية ،لكن إذا تطور الوضع -لا قدر الله-إلي تفشي واسع الانتشار فإن القدرة علي التعامل ستكون محل شك كبير.
وإذا اردنا ان نحدد النمط او النموذج الذي تم به التعامل حتي الآن ،فاننا يمكن ان نشير إلي النقاط التالية:
١- لأول مرة تبرز أشخاص اخري في المشهد بجوار شخص الرئيس(رئيس الوزراء )،كما تقدمت مؤسسات -لأول مرة- علي المؤسسة العسكرية في التعامل مع الأزمة(المؤسسة الصحية ). صحيح انه تم تدارك ذلك سريعا لكن الرسالة وصلت.
٢-اضطراب في المدخل او الاقتراب الحاكم للازمة ؛فقد تغلب المدخل الصحي في الأسابيع الأولي من ادارة الأزمة ،ولكن مع بداية هذا الشهر تصاعد الاقتراب الاقتصادي ليكون له الغلبة علي التعامل مع المشهد. وقد غاب التحديد الواضح لطبيعة العلاقة بين المدخلين الصحي والاقتصادي.
٣-استدعاء متأخر للعمل الأهلي للتعامل مع التداعيات الاقتصادية المباشرة للازمة علي الفئات الأضعف والأشد فقرًا في المجتمع.
٤-غياب اية استراتيجية للشراكة المجتمعية ،وإنما اكتفاء بدعوته للالتزام بالإجراءات التي تقرها الحكومة.
٥-ادارة الأزمة بمعزل عن الاعتبارات السياسية(تجاهل تام للمؤسسات السياسة وضعف حضورها ،ناهيك عن توفير الشروط السياسية اللازمة لمعالجة الجائحة ) ،ومقتضيات الامن القومي (سد النهضة).
ثالثًا : الفيروس سيغير العالم للأبد :كان هذا هو عنوان الملف الذي افتتحت به مجلة الفورن بوليسي حوارها حول تاثير كورونا (نشر في الثلاثين من شهر مارس الماضي )حين قامت باستطلاع رأي ١٢ مفكرًا وباحثًا من تخصصات متعددة وانتماءات جغرافية واسعة ،وبغض النظر عما طرح من آراء في هذا الملف ؛فإن الجائحة قد أظهرت مدي ترابط العالم ،فقد امتد تاثير الفيروس في حلقات وعواقب متتابعة عبر قنوات ومسارات العولمة ليطال كل ارجاء المعمورة.
في العالم الذي سيتغير سيكون هناك تساؤلات كثيرة من المنظورالمصري من قبيل :كيف سنتعامل في ظل صعود نفوذ الصين علي حساب الولايات المتحدة التي من المتوقع انكفائها علي ذاتها؟- وماذا سنفعل في ظل ضعف الاتحاد الأوربي – الشريك التجاري الاول لمصر – أو تحلله واختفاؤه؟-هل سيظل اقتصادنا يقوم علي الاندماج في السوق العالمي وفي ظل توقع بتغير طبيعة هذا السوق ؟تشير لقطة من المنطقة العربية أن الفيروس من المحتمل أن يعطل مسيرة حتي الدول التي كانت تتمتع باستقرار نسبي قبل الجائحة-فكيف سنتعامل مع ذلك؟
هذه مجرد أمثلة من قضايا يحسن ان نفتح الحوار بشأنها.
رابعًا:كيف نفكر في الأزمة٠٠ إستراتجية العيش مع كورونا
وإذا كانت المحددات الثلاثة السابقة تطرح اجندة تتعلق بالمستقبل؛ فإن هذا المحدد يرتبط بموضوعات قصيرة المدي وحالة
أخشي ما اخشاه اننا كمجتمع ودولة مصرية يجب أن نبني إستراتيجيتنا علي العيش مع الفيروس لحين الوصول الي مصل يمكن التعامل معه وكل المؤشرات تدل علي أن أمامنا شهور لحين تحقق ذلك.
في ظل هذا المحدد يجب ان يكون هدفنا الاستراتيجي هو :توفير المقتضيات التي تسمح بالتعافي السريع في مجالات اربع:صحي واقتصادي ومجتمعي وسياسي ؛فالأزمة -من وجهة نظري لها تداعيات علي المجالات الأربعة السابقة ولا يمكن الخروج منها الا بتحقيق مزيج استراتيجي يجمع بين الأهداف التي يجب تحقيقها في كل مجال علي حدة ،وبهذا المزيج الاستراتيجي يمكن ان نتجاوز الجدالات الاستقطابية الحادة المثارة في المجال العام (من أمثلتها ما اثاره تصريحات بعض رجال الاعمال المستفزة).
ان هذا المزيج الاستراتيجي ينطلق من تحليل الوضع القائم وفي الأسابيع القادمة علي محاور أربع :١-صحي يرصد معدل وجغرافية الانتشار ،الزيادة المتوقعة ،وقدرات نظامنا الصحي ٠٠٠الخ وهذا يتطلب بناء نظام معلوماتي يتمتع بالموثوقية والقدرة علي التنبؤ.
٢-اقتصادي يرصد التأثيرات الاقتصادية في قطاعات محددة ،والبطالة والعمالة الموسمية ، والعجز والديون والفقر ،وأولويات الإنفاق العام ٠٠٠الخ
٣-مجتمعي وفيه يجب مناقشة مسائل من قبيل خوف المجتمع ، وقلقه من الأوضاع الاقتصادية ،وتأثر العملية التعليمية بالإضافة الي خطورته علي بعض الفئات الاجتماعية مثل كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة.
٤-سياسي هو عادة ما يتم إغفاله -كما قدمنا- في التعامل مع الأزمة ،ولكن كما يقول الاقتصاديون انه لا يمكن تحقيق نمو اقتصادي مستدام يستفيد منه عموم الناس الا بتوفير الشروط السياسية المناسبة ،وهنا فإنه لا يمكن تحقيق نجاح في معالجة جائحة كورونا إلا بشراكة مجتمعية حقيقية سواء بالالتزام عن قناعة بالإجراءات التي تتخذها الحكومة ،أو بدوره في معالجة تداعيات الأزمة ،او بالثقة في النظام وشرعيته ،وفي مصر يضاف الي هذا امران :معالجة الأزمة السياسية العميقة التي يعد قمة جبل الجليد فيها مسالة المسجونين ،وتهديدات الامن القومي وفي مقدمتها موضوع سد النهضة.
يجب الانتقال من سياسة مضطربة تعطي في احيان اولوية للصحة العامة ،وفي احيان اخري تعطي اولوية للاقتصاد ،وتغفل في نفس الوقت أهداف المجتمع في استعادة نشاطه ،او توفير الشروط السياسية الضرورية لنجاح اية استراتيجية.
يجب الانتقال إلي سياسة تقوم علي التوازن بين الاعتبارات الصحية ،وإعادة تشغيل الاقتصاد ،وتخفيف الإغلاق بطريقة تسمح للمجتمع بالعودة الي حيوية أفضل اثناء الوجود المستمر للفيروس ،مع توفير الشروط السياسية اللازمة للثقة في استراتيجية التعامل والتي تضمن شراكة حقيقية من المجتمع.
بعبارة اخري؛يجب التصدي للفيروس مع تحريك عجلة الاقتصاد بما يتطلبه ذلك من ادارة :النظام الصحي وتقويته،والاقتصاد ،والمجتمع ،وتحديات الأمن القومي ،مع توفير الشروط الضرورية لمعالجة الأزمة السياسية.
هل يمكن للجائحة أن تكون سبيلًا لتفكير جديد أم كتب علينا اعادة إنتاج وتعميق أزماتنا؟
Leave a Comment