نشر في مدى مصر بتاريخ أكتوبر 2020
لقطات خمس
الأولى: من المرات القليلة التي تحدثت فيها أمام القضاة كانت في مثل هذه الأيام من أكتوبر 2018؛ أي بعد مرور ثلاث سنوات على حبسي خارج إطار القانون (أقصى مدة للحبس الاحتياطي وفق القانون المُعدَّل أيام الرئيس المؤقت عدلي منصور، سنتان، بعد أن كانت ستة أشهر)، وقلت وقتها: إننا جيل لن يكفر بالأوطان، فقد تشكل وعينا في حرب أكتوبر 1973، وقتها -كنت على مشارف العاشرة من عمري- احتفظنا بجرائد هذه الفترة حتي اصفرت، بجوار قطع من الطائرات الإسرائيلية المحطمة التي عرضت وقتها في الميادين، وقد ترسخ إيماننا مع الأيام بضرورة أن نعيش في وطن يوفر الحرية والكرامة والعيش الكريم لمواطنيه.
تفاعل القضاة مع كلامي، وكان تعليقهم أن الشعب غير مهيأ للحرية والديموقراطية باعتبار نسبة الأمية المتفشية في أوساطه.
اللقطة الثانية: لم يخرج كلام مأمور سجن ليمان طره، الذي رُقي بعد ذلك ليكون مساعد مدير أمن أحد محافظات القناة، عن هذا المضمون، وإن استخدم تعبيرًا آخر حين وصف الشعب باعتباره سمك «البساريا» صغير الحجم الذي تتقاذفه مياه الترع في كل اتجاه فلا يعرف طريقًا يسلكه.
اللقطة الثالثة: قطاع من الإسلاميين ممن التقيتهم في السجن، يعتبر الديمقراطية حرامًا؛ باعتبارها -وفق تعريفهم- حكم الشعب بالشعب للشعب.
اللقطة الرابعة: وفيها ارتكزت أحد جوانب شرعية نظام «3 يوليو 2013» إلى الحفاظ على الدولة المصرية من غوائل ثورة يناير، مع ضرورة استعادة الاستقرار بمعالجة تداعيات الحراك الشعبي الذي دشنته انتفاضات الربيع العربي. صحيح أن دستور 2014 كان محاولة للتصالح مع ثورة يناير، سرعان ما تم النكوص عنها، على مستوى الخطاب والممارسة والقوانين والتشريعات، وأخيرًا على المستوى الدستوري عبر تعديلات 2019.
اللقطة الخامسة: غذى نظام ما بعد «3 يوليو» غريزة الخوف عند المصريين، ووجد في الفترة الناصرية عددًا من المقولات السياسية التي يمكن باستدعائها أن يحرك خيال فئات اجتماعية من الطبقات الوسطى والدنيا، فتكون قاعدته الداعمة، يُضاف إليها لحظة الانتفاضات العربية، وما أحدثته من تداعيات على السلم الأهلي، وأخيرًا، كان الضلع الثالث لهذه الأيديولوجية، هو المواجهة مع الإخوان وسياساتهم الخلافية تحت عنوان «الحرب على الإرهاب».
يسعى هذا المقال إلى اختبار هذه المقولات الخمس، التي تشيع في خطابنا السياسي والإعلامي والثقافي/الديني، من خلال قراءة في استطلاعات الرأي العام التي أُجريت على مدار السنوات القليلة الماضية.
وكما يرى جيمس زغبي، أحد أهم من عمل على استطلاعات الرأي في المنطقة «تظهر سنوات من الاستطلاعات … أن الفشل في فهم المشاعر العامة و/أو أخذها في الاعتبار ينتج سياسات مضللة؛ ليس فقط من قبل الحكام في المنطقة، ولكن أيضًا من قبل حكومات مثل تلك التي في الولايات المتحدة».
الاقتصاد أم الإرهاب؟
وفق مؤشرات الباروميتر العربي في دورته الخامسة 2018/2019، احتل الاقتصاد الأولوية الأولى باعتباره أهم تحدٍ يواجه المصريون بنسبة 36%، وضعف النسبة التي احتلها الإرهاب 18%.
وإذا قمنا بتجميع النسب التي ترتبط بحياة المواطن اليومية أو المعيشية؛ وهي الاقتصاد (36%)، والخدمات العامة (15%)، والفساد المالي والإداري (6%)، تكون اهتمامات المواطنين المصريين في هذه المجموعة تقريبًا ضعف المجموعة التي تخص الأمن والاستقرار، والتي تضم محاربة الإرهاب (18%)، والأمن (6%)، والتطرف الديني (6%) برغم أنه ذو بعد فكري وثقافي وليس أمنيًا (مجموع المعيشة 57% مقابل 30%). ومن المتخيل أن يتصاعد الاهتمام بالقضايا المعيشية في السنوات القادمة، خاصة مع زيادة وطأة فيروس كورونا الذي جاء بعد تطبيق برنامج الصندوق لمدة أربع سنوات سبقته.
إلا أن نقاشًا من هذا القبيل لا يمكن معالجته بعيدًا عن موقف المصريين من مؤسسات الدولة المختلفة، ففي الوقت الذي يثق فيه المصريون في المؤسسات التي تعبر عن كينونة واستمرار الدولة المصرية، مثل الحكومة والجيش والقضاء، فإنه لا يولي ثقته في المؤسسات التشريعية أو الحزبية والقطاع الخاص، كما يرى الباروميتر العربي، إلا أن الثقة في الحكومة لا تعني الرضا بأدائها. بشكل عام، ما يقرب من ثلث المصريين (31%) راضون عن أداء الحكومة. وبينما تقل احتمالية رضا الشباب المصري عن أداء الحكومة عن كبار السن المصريين، يبدو أن الرضا عن أداء الحكومة متماثل عبر الحواجز التعليمية والدخل.
لا تزال الثقة في المؤسسات الحكومية في مصر مرتفعة. أفاد حوالي 66% من المصريين في عام 2018 بوجود ثقة كبيرة في الحكومة، يتشارك المصريون في هذا الشعور بشكل موحد عبر حواجز النوع الاجتماعي والتعليم.
ومع ذلك، فإن المصريين الذين يزيد دخلهم عن المتوسط، يزيد احتمال ثقتهم في الحكومة بمقدار 12 نقطة عن المصريين من ذوي الدخول أقل من المتوسط. وبالمثل، يميل كبار السن من المصريين إلى الوثوق بالحكومة أكثر من الشباب المصريين.
وهنا ملاحظة جديرة بالاعتبار التقطها الباروميتر العربي في التقرير القطري عن مصر لعام 2019، وهي أن خطوط الانقسام بين المصريين تتعمق وفق مستويات الدخل والتعليم، «يبدو أن المصريين ذوي مستويات الدخل والتعليم المختلفة لديهم تصورات متباينة بشكل لا يصدق عن الواقع المصري؛ المصريون الأكثر ثراءً وأفضل تعليمًا هم بشكل منهجي أكثر تفاؤلًا بشأن مستقبل الاقتصاد، ويفيدون بارتياح أكبر لأداء الحكومة الحالية، ويظهرون مستويات أعلى من الثقة في القطاع الخاص. ليس من المستغرب أن تعاني مصر من عدم المساواة في الدخل والفرص: تشير الأبحاث إلى أن عدم المساواة في مصر، كما ورد في مؤشر جيني، يتم التقليل من شأنها بشكل عام، ويتفاقم بسبب تشديد الأوضاع المالية. مع استمرار مصر في إجراء تغييرات جوهرية في نماذجها الاقتصادية والسياسية»، ويوصي الباروميتر العربي: «من الضروري تزويد الفئات الأشد فقرًا وضعفًا بالبنية التحتية للدعم».
الديموقراطية عند المصريين
لقد كان أحد أهداف المؤشر العربي التعرف على مفهوم المواطنين العرب للديمقراطية، وذلك من خلال سؤال المستجيبين عن أهم شرط يجب توافره ليعد بلدٌ ما ديموقراطيًا. وقد اعتمد المؤشر أسلوب السؤال المفتوح، أي من دون خيارات مسبقة؛ كي يكون السؤال محايًدا، ويمكن به التعرف علي آراء المواطنين بحسب مفرداتهم ولغتهم الخاصة بهم.
خلصت نتائج الاستطلاع إلى أن الأغلبية الكبرى من مواطني المنطقة العربية قادرة على تقديم تعريف ذي دلالة لمفهوم الديمقراطية؛ إذ قدم 87% من المستجيبين إجابات ذات محتوى ودلالة عند سؤالهم عن أهم شرط يجب توافره في بلدٍ ما ليعد ديموقراطيًا. أما الذين أجابوا بـ «لا أعرف» أو رفضوا الإجابة، فقد كانت نسبتهم 3% فقط من المستجيبين.
المستجيبون المصريون في استطلاع 2017/2018 أدركوا الديمقراطية وفق عناصر خمسة هي: ضمان الحريات السياسية والمدنية والعامة (30%)، والمساواة والعدل بين المواطنين (24%)، وإنشاء نظام حكم ديمقراطي (24%)، والأمن والأمان والاستقرار (10%)، وتحسين الأوضاع الاقتصادية (5%)، أما نسبة من قال لا أعرف فلم تتجاوز (5%).
ويتكامل مع هذا عدد من المؤشرات التي درسها المؤشر العربي بالتفصيل، وأبرزها كما ظهرت في 2017/2018:
1- عدم التناقض بين الشريعة والديمقراطية، فـ 25% من المصريين يعارضون بشدة مقولة إن النظام الديمقراطي يتعارض مع الإسلام، في حين أن 48% يعارضون إلى حد ما هذه المقولة. ويرتبط بذلك أن النظام السياسي الديمقراطي -كما يدركه المصريون- يقوم علي عدم الإقصاء لأيٍ من قواه السياسية، دينية أو غير دينية، فقد رأي 42% من المصريين أن نظامًا سياسيًا تتنافس فيه الأحزاب غير الدينية فقط غير ملائم بشدة، في حين رأي 21% أن نظامًا بهذا الشكل غير ملائم إلى حد ما.
وقد ساد هذا التوجه أيضًا لدى المصريين عند سؤالهم عن موقفهم من نظام سياسي تتنافس فيه الأحزاب الإسلامية فقط، فقد اعتبر 42% أنه غير ملائم بشدة، في حين رأي 36% أنه غير ملائم.
لذا فقد رأي 67% من المصريين أن النظام السياسي الملائم للديمقراطية هو تعددي، تتنافس فيه جميع الأحزاب، مهما كان انتماؤها من خلال الانتخابات الدورية.
2- يلاحظ أن المصريين رفضوا في اتجاه واضح المقولات التي تحاول أن تلصق السلبيات بالنظام الديمقراطي من قبيل الأداء الاقتصادي السيئ، أو أنه غير جيد في الحفاظ علي النظام العام، أو أنه غير حاسم وحافل بالمشاحنات، أو أن مجتمعنا غير مُهيأ لممارسة الديمقراطية.
تعارض 27% من المصريين «بشدة»، وتعارض 49% منهم «إلى حد ما»، مقولة إن «الأداء الاقتصادي يسير بصورة سيئة في النظام الديمقراطي»، كما تعارض 26% من المصريين «بشدة»، وتعارض 50% منهم «إلى حد ما» مقولة إن «النظام الديمقراطي غير جيد في الحفاظ على النظام العام». وتعارض 24% «بشدة»، في حين تعارض 48% منهم «إلى حد ما» مقولة إن «النظام الديمقراطي يتسم بأنه غير حاسم وحافل بالمشاحنات».
ولا يمكن أن نغادر هذه النقطة دون أن نشير إلى أن 85% من المصريين يرفضون تدخل القيادات الدينية في قراراتهم التصويتية في الانتخابات، وتكاد تكون هذه النسبة -وفق الباروميتر العربي- مستقرة منذ 2011.
المصريون والربيع العربي
استهدف المؤشر العربي التعرف على تقييم المواطنين العرب للانتفاضات العربية التي جرت عام 2011 (لم يتسن له حتى الآن معرفة تقييمهم للموجة الثانية منها، فالبيانات المتوفرة هي لدورة 2017/2018)، كما هدف إلى التعرف على آرائهم تجاه الربيع العربي، سواء كانوا يرونه إيجابيًا أم سلبيًا.
ولقد كانت اتجاهات المصريين ملفتة، فبعد سبع سنوات من خلع مبارك، وأربع سنوات على ما جرى في 2013، لايزال المصريون ينظرون إيجابيا لما جرى في 2011، فعندما يتساءل المؤشر العربي «من خلال العودة إلى 2011 التي شهدت فيها عدة بلدان عربية ثورات واحتجاجات شعبية خرج فيها الناس إلى الشوارع في تظاهرات سلمية» ترى 33% من المصريين أنه كان إيجابيًا بشدة في مقابل 8% فقط، رأوه سلبيًا بشدة، في حين رأى 46% أنه إيجابي إلى حد ما في مقابل 10% رأوه سلبيًا إلى حد ما.
وحول تقييمهم لما آل إليه الربيع العربي؛ فقد رأي 64% من المصريين أنه يمر بمرحلة تعثر، إلا إنه سيحقق أهدافه في نهاية المطاف، في حين رأي 19% فقط أن الربيع العربي قد انتهى وعادت الأنظمة السابقة إلى الحكم.
وهكذا؛ تقدم لنا استطلاعات الرأي نظرة مختلفة للمصريين، ورؤى جديدة على أساس تطلعات المواطنين بدلًا مما تود النخب الاستبدادية والفاسدة في كثير من الأحيان أن يؤمن به العالم.
Leave a Comment