نشر في مدى مصر بتاريخ فبراير 2021

أنتج الربيع العربي في موجتيه ظاهرتين بالغتي الأهمية؛ إحداهما تخص الحركات السياسية الإسلامية، والثانية هي وضعية الإسلام في صراع المحاور الإقليمية الثلاثة (الإيراني، والتركي القطري، والإماراتي السعودي التي باتت مصر جزءًا منه)، والتي زادها الربيع العربي بروزًا. أطراف هذه المحاور من دول وجماعات منخرطون في صراع ديني عميق على القوة الناعمة من أجل التأثير والهيمنة الجيوسياسية: قطر، بنسختها الأقل صرامة من الوهابية وميلها للإسلام السياسي. سعودية ابن سلمان المرتبكة التي تحاول خلع عباءة الوهابية نحو مفهوم غامض للإسلام المعتدل، تحافظ فيه على المكون الوهابي في الطاعة المطلقة لولي الأمر. والإمارات التي تستعير من الوهابية نفس المكون مع معالجة حوافها الخشنة، لكن جوهر مشروعها ضد الثورة مع معاداة صارمة للإسلام السياسي باعتباره قوة تغيير للأنظمة السياسية العربية، وإيران التي وظّفت التشيع واستخدمت الوكلاء لتقرن القوة الصلبة بالناعمة لفرض هيمنتها الإقليمية.

الإسلاميون وسردية الربيع العربي

الانطباع الرئيسي الذي تخرج به بعد الإنتهاء من متابعة أداء الإسلاميين في الموجة الثانية من الربيع العربي، وقد بات بعض أطرافه في الحكم أو مساندين له، هو تطبيع هذه الحركات مع الواقع العربي بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات سلبية وإيجابية. بما يمكن معه القول بإنتهاء «الاستثنائية الإسلامية» التي حاول أن يصمها بها تابعيها ومعارضيها على حد سواء، وإن اختلفت الدوافع بينهما. فالأتباع يريدون أن يضفوا عليها نوعًا من القداسة، في خلط واضح بين النص المُنزل والتعبير عنه، خطابًا وممارسة، أما المعارضون فقد أرادوا التشكيك في قدرتها على الاندماج في النظام السياسي سبيلًا لحرمانها من الوجود. أما المحللون والباحثون فقد رأوا في علاقتها بالديمقراطية ضرورة توفر عددًا من الاشتراطات لضمان نجاح اندماجها في النظام السياسي القائم، وكأن هذا مما لا تتطلبه القوي السياسية الأخري.

الإسلاميون في السلطة -كما في المعارضة- يتصرفون مثل الفواعل السياسية الأخرى حين يحركهم إدراكهم لمصالحهم الذاتية التي يبغون تحقيقها، ويبنون تحالفاتهم ليس وفق أسس أيديولوجية، بل كان التنافس في ما بينهم أشد من تنافسهم مع الآخرين. والأهم أن الربيع العربي بموجتيه أثبت بما لا يدع مجالًا للشك أنهم لا يملكون مشروعًا فارقًا للسلطة، بل يتصرفون كأي حاكم عربي: الانتهازية السياسية التي طبعت تجربة وممارسة كثير منهم، في الحكم وخارجه، وتقلبات مواقفهم وتحالفاتهم، وتعدد انتقالاتهم من خندق إلى آخر، وتفشي مظاهر الفساد في بعض أوساطهم، سقط عنها لباس «التقوى»، وأزيح من فوق رؤوس قادتها «هالة القداسة»… إذ أثبتت السنوات الأخيرة، أن المشروع في بنيته السياسية متهافت لدرجة لا تؤهله ليكون مشروعًا للحكم يقدم البديل للدولة العربية المأزومة، على العكس أظهرت تجربة الإسلاميين أن المشروع الذي حملته حركات الإسلام السياسي، يزيد الواقع مأساة، إذ هو منفصل بقدر كبير عن متطلبات الواقع وما يمليه، ويميل في معظمه للشعاراتية دون برامج ومشاريع واضحة للحكم. والأهم أن سردية هذه الحركات التي أسست عليها شرعيتها قد انتهت أو على أقل تقدير باتت محل تساؤل، من اتباعها ومناصريها قبل منافسيها ومنتقديها.

استندت سردية الحركات الإسلامية في القرن العشرين إلى مرتكزات ثلاثة: شمولية الإسلام، أي تعلق المرجعية الإسلامية بشؤون الحياة جميعًا، ومحورية السلطة كأداة أساسية لتطبيق الشريعة، ورفض الدولة الوطنية والسمو فوقها، بل محاولة إعادة بناء الأمة نفسها على أساس هوية وشرعية جديدة باستخدام التنظيم المقدس (قدسيته تأتي من مهمته).

لن نناقش مكونات هذه السردية وإلى ماذا انتهت وما هي عناصر فشلها ونجاحها، فالكاتب يجادل بأن هناك سردية جديدة لانتفاضات الربيع العربي تعلن نهاية صيغ القرن العشرين وفي القلب منها دولة ما بعد الاستقلال والحركات السياسية الإسلامية والعلمانية التي استندت إلى ايديولوجيات شمولية، وأننا بصدد صيغ جديدة لم تتمأسس بعد؛ فقد غلب عليها الاحتجاج وافتقدت إلى بلورة قاعدتها الاجتماعية الحاضنة والدافعة لها.

القراءة التاريخية لانتفاضات الربيع العربي هي أننا أمام إعادة تشكل للتاريخ كله في المنطقة، نحن أمام محطة تاريخية فاصلة: فالقديم قاد إلى الانفجار، ولم يعد قادرًا على تقديم استجابات لتحديات المجتمع والدولة. ولكن الجديد لم يتبلور بعد وهذه هي مهمتنا التاريخية كما اعتقد، واللحظة ليست خواء، بل تمتلئ بالكثير والكثير مما يصب في المستقبل، وبمقدار قدرة الإسلاميين أو غيرهم على التقاط مقومات هذه اللحظة بمقدار ما سيستردون حضورهم وزخمهم الذي تراجع إلى حد كبير، والأهم أنه سيتم خلق ثقة الجماهير في السياسة.

أنا أدرك أن مشاريع الماضي المرتحل لم تكن مجرد صياغات وعبارات عابرة تحملها قوة السلطة بالمعنى المتسع للسلطة والسيطرة، إنها شكل أو مقترح للحياة، ولطبيعة المجتمع بشبكة علاقاته، وهي خطاب وممارسة لتصورات وخيال سياسي واجتماعي واقتصادي، وتصور معرفي للحياة والدولة، تنبثق عنهما أعراف وتقاليد ومؤسسات ولغة وتصور للمجتمع ولأفراده، تصور للذات والآخر يُعبّر عن نفسه في قوانين وتشريعات ودستور وعلاقات إنتاج.

سردية الانتفاضات العربية هي بحث عن عقد اجتماعي جديد يتم به إعادة بناء الدولة الوطنية بنخب جديدة، ويستند هذا العقد إلى مقومات ثلاثة: الحرية/الديموقراطية، والعدالة الاجتماعية/التوزيع العادل للموارد، وتحرير الإرادة الوطنية من الهيمنة الإقليمية والدولية. هذا الحلم يكاد يكون عليه توافق من الطبقة الوسطى والطبقات الدنيا وبعض شرائح من الطبقة الوسطى العليا، لكن قوته المحركة أجيال جديدة من الشباب مع حضور نسائي طاغ.

وهكذا تحمل انتفاضات الربيع العربي بغض النظر عن نجاحها السياسي من عدمه تحديًا وجوديًا للحركات السياسية الإسلامية، لأنها تقدم سردية جديدة مختلفة جذريًا عن السردية التي هيمنت على هذه الحركات على مدار القرن العشرين. وأجادل بأنه بمقدار ما تتفاعل هذه الحركات مع سردية الانتفاضات بمقدار ما ستستعيد حضورها السياسي والانتخابي، وبغير ذلك فإنها ستتصرف كأية سلطة مستبدة لا تحوز التأييد الشعبي كما جرى في السودان ويجري في العراق، أو نكون بإزاء حالة فراغ نتاج التشظي وعدم القدرة على توليد استجابات جديدة، كما هو الحال في بلدان عدة من المنطقة.

بل أزعم أن هذا التفاعل مع سردية الانتفاضات العربية يمكن أن يحل كثير من الثنائيات المتعارضة التي حكمت مسارها على مدار القرن العشرين من قبيل: التربوي/السياسي، الوطني/الأممي، المطلبي/الهوياتي، الحرية/تطبيق الشريعة، الأمة/الدولة، التعددية/التشظي والاختلاف… إلخ.

تحديات خمسة تواجه الإسلاميون في هذه الحقبة وتفرض نفسها عليهم: الحرية وفي القلب منها التعددية كمنظور شامل يعيد صياغة علاقتهم بالدين، وخطاب المُعاش الذي يعطي الأولوية لحياة الناس اليومية لا خطابات الهوية، وتمكين المجتمع في مقابل سيطرة التنظيم، ويأتي رابعًا أهمية الانتقال من الطأفنة إلى أن تكون جزءًا من التيار الوطني العام، بالإضافة إلى الاعتراف بالدولة الوطنية مع تجديد مقوماتها، وخامسًا معالجة وضعية النساء داخلها وفي المجتمع.

وأخيرًا، فإن امتلاك نظرية للدولة وتحديد لموقع السلطة في هيكل المشروع الإسلامي شرط أساسي -من وجهة نظري- للحد من إعادة إنتاج القمع والعنف والهيمنة على المجتمع الذي حكم مسار دولة ما بعد الاستقلال.

الصراع حول من يمثل الإسلام المعتدل

الملمح العام في هذا الصراع الذي تقوده القوى الإقليمية في المنطقة العربية وما يحيط بها، أنه يدور على إسلام منزوع الديمقراطية، مندمج في السوق وذو طبعة نيوليبرالية ، وممتزج بالعنف لأنه يقرن القوة الناعمة بالصلبة، بالرغم من أنه يقدم نفسه للعالم باعتباره منفتحًا متسامحًا، ويلعب دورًا في مناهضة التطرف العنيف، لكنه في نفس الوقت لا ينظر لحال شعوبه.

هذا الصراع الأكثر تعقيدًا، ليس فقط لوصول لاعبين جدد إلى الساحة، ولكن أيضًا لأنه ينطوي على تنافس داخل كل فصيل. فدخول اللاعبون الجدد -الإمارات وتركيا وقطر وإندونيسيا- والصراع بينهم أدي إلى زيادة طمس الخطوط الفاصلة بين القوة الناعمة الدينية والثقافية البحتة، والقومية، والصراع داخل المجتمعات الإسلامية على القيم، بما في ذلك الحريات والحقوق والأنظمة السياسية المفضلة. `نه دين ليس ضد الحكام وتحالفاتهم الاجتماعية الطبقية وشبكات الامتياز الدولية.

ستة ملامح مشتركة لهذا الإسلام الذي تقدمه القوى الإقليمية، وإن ساد الصراع بينها، وهم:

1- عنيف: لأنه يقرن القوة الناعمة بالصلبة سواء مورست هذه القوة بشكل مباشر كما تركيا شمالي سوريا والعراق، أو عن طريق استخدام الوكلاء كما تفعل إيران في اليمن وفي بلدان عربية عدة، أو الإمارات في اليمن وليبيا، وقطر في سوريا من قبل وفي ليبيا الآن، أو السعودية في اليمن الآن وسوريا من قبل.

2- إسلام منزوع الديمقراطية، مع نزوع متصاعد لمصادرة الحريات في نظمها الداخلية مقترن بحديث عنها مع الخارج، حتى تجربة تركيا الوحيدة التي اتسمت بنزوع ديمقراطي شهدت تراجعًا مستمرًا عن هذا المنزع منذ عام 2012، وزاد مع المحاولة الانقلابية 2016.

ويشهد النموذج السعودي والإماراتي دعمًا لنموذج يحض على الطاعة المطلقة لولاة الأمر بغض النظر عن ممارساتهم.

3- طبعة نيوليبرالية خالية من أي بعد اجتماعي. فالنموذج الاقتصادي الذي تتبناه هذه الدول جميعًا يقوم على الاندماج في السوق العالمي مع اتباع سياسات نيوليبرالية لا تعالج التفاوتات في الثروة والدخل والفرص بين المواطنين.

4- ينطوي التنافس ضمنيًا على نقاش أوسع عبر العالم الإسلامي يتطرق إلى قلب العلاقة بين الدولة والدين، ويركز هذا النقاش على الدور الذي يجب أن تلعبه الدولة، إن وجد، في تطبيق الأخلاق الدينية ومكانة الدين في التعليم والأنظمة القضائية والسياسة، فمع اشتداد معركة القوة الناعمة الدينية بين الدول المتنافسة، أصبحت الخطوط الفاصلة بين الدولة والدين أكثر ضبابية من أي وقت مضى، لا سيما في البلدان الأكثر استبدادًا.

5- عينهم على العالم ولا يلقون اعتبارًا لشعوبهم. فالأهم أن تكون صورتهم متسامحة ومسالمة وفيها القبول للآخر الديني والآخر العدو (التطبيع مع الكيان الصهيوني)، حتى وإن لم يقبل المختلف معه في الإطار الوطني والإقليمي. ويعمق من ذلك اشتراكهم جميعًا في الحرب على الإرهاب -الذي يختلف تعريفه من دولة لأخرى- لكنه بمثابة باب الشرعية الدولية، ومدخل للقضاء على المعارضة كما الحالة المصرية.

6- توظيف كثيف للمؤسسات الدينية وعلمائها، بما يطيح باستقلالها ويلقي بظلاله على شرعيتهم ومصداقيتهم. فالثمن المدفوع من الرعاية الحكومية مرتفع بالنسبة لهؤلاء العلماء بشكل عام، لأن عليهم أن يدعموا علانية أو يلتزموا الصمت بشأن الاستبداد في الداخل وعلاقة هذه الأنظمة بالهيمنة الخارجية، بينما يتحدثون عن الديمقراطية والتعددية وحقوق الأقليات للجمهور الغربي.

في الخلاصة: المعركة الرئيسية للقوة الناعمة الإسلامية الدينية، التي تضع المملكة العربية السعودية وإيران والإمارات العربية المتحدة وقطر وتركيا ضد بعضها البعض، تدور إلى حد كبير حول تعزيز النفوذ العالمي والإقليمي للدول (ومصر للأسف غائبة وقدراتها موظفة لصالح بعض قوى الصراع). هذه المعركة لا علاقة لها بتطبيق مفاهيم «الإسلام المعتدل» من الناحية النظرية أو العملية على رغم ادعاءات المنافسين المختلفين، ومعظمهم دول استبدادية قليلة الاهتمام بحقوق الإنسان والأقليات أو الحريات الأساسية.

هذه الخصائص الست إذا أضيف إليها المكون القومي، كما في تجربتي إيران وتركيا، والمكون المعادي للثورة /التغيير كما في النموذج الإماراتي والسعودي والمصري، والمكون الطائفي/المذهبي كما ظهر في الصراع السعودي الإيراني؛ نكون بإزاء خضوع الديني لسلطة الدولة مع انتفاء لأي مجال ديني تعددي حر على المستوى الوطني، ومستقل عن التحالفات الإقليمية، مع دمجه في شبكات المحسوبية الاستبدادية والزبائنية، والأهم أنه سيظل يتسم بالعنف لعجز هذه المحاور جميعًا عن بناء نظام للأمن الجماعي يحكم المنطقة وقادر على إدارة الصراعات فيما بينهم بشكل سلمي.

ويبقى التساؤل مطروحًا: هل يمكن لروح الإسلام أن تكون مكونًا لتحرر شعوب المنطقة، ودافعًا لنضالاتها واحتجاجاتها المتنوعة التي أخذت طابع الموجات التي تتصاعد تارة وتخبو أحيانًا أخري؛ يعرب المتظاهرون فيها عن غضبهم من: وحشية الشرطة، والفساد، ورأسمالية المحاسيب، وغطرسة من هم في السلطة، والتلاعب بالسياسة، وضعف المؤسسات السياسية عن تمثيل الناس، وتهميشهم الجماعي، وتفاقم التفاوتات في الثروة والدخل والفرص… تطول القائمة ولكن ما يجمعها طلب على الكرامة والعدالة والحرية، فالحركات الاحتجاجية على مدار العقدين الماضيين في جوهرها مطالبات بأن يحكمنا سلطة معيارية أفضل وأكثر وعدًا بالكرامة والعدالة والتحرر الإنساني.

فهل يمكن لروح الإسلام أن يكون جزءًا من هذه الحركة التي ستستمر وتتصاعد ما دامت أسبابها قائمة، أم كُتب عليه الاختطاف من قبل قوى رسمية وغير رسمية، دولية وإقليمية ووطنية تسعى لتحقيق الهيمنة دون اعتبار للبشر والمواطنين العاديين؟

Share: