
نشر في مدى مصر بتاريخ أغسطس 2020
أحاول في هذا المقال مجادلة المقاربة المصرية للتعامل مع المأزق الليبي، وأحاول الوصول، بحكم تخصصي في مجال حل النزاعات، إلى مقاربة مختلفة، دونها سيبقى الوضع الليبي يمثل تهديدًا مستمرًا للأمن القومي المصري.
المقاربة الجديدة يجب أن تدرك ثلاث حقائق، وتتحرر من ثلاثة منطلقات، وتستند إلى ثلاثة مرتكزات أخرى.
حقائق أساسية
أولًا: تغير معالم المنافسة الدولية في المنطقة. انسحبت الولايات المتحدة، وتعاظم الدور الروسي، وانقسم وضعف الدور الأوروبي في ظل تصاعد نفوذ الصين الاقتصادي دون الأمني والسياسي.
لن أناقش بالتفصيل علامات تفكك النظام الدولي كما عرفناه منذ انتهاء الحرب الباردة في تأثيره على الإصلاح في المنطقة، فقد تناولناه بالتفصيل في مقالات عدة، ولكن ما أحب أن أؤكد عليه هنا أن القوى العظمى والكبرى فيه باتت تتعامل مع عصر «الاضطرابات العربية» بأنه حقيقية ستدوم لبعض الوقت، وأن المطلوب هو: «الحد من الآثار السلبية لمشاكل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على مناطق أخرى من العالم».
تضاعفت في الآونة الأخيرة علامات تفكك النظام الدولي، فقد ساهم شعور بالانسحاب العالمي للولايات المتحدة في إضعاف النظام الدولي الذي تم إنشاؤه في نهاية الحرب الثانية، وتم توطيده بشكل نهائي في نهاية الحرب الباردة.
وعلاوة على ذلك، يبدو أن القوة المتنامية للصين وتجدد تأكيد حضور روسيا، مثلًا مقدمة لمرحلة جديدة من انخفاض التأثير الغربي على بقية العالم، إن لم يكن فتح منافسة كبيرة على إعادة توزيع السلطة والنفوذ في الوضع الدولي.
أشارت الولايات المتحدة إلى خيارها لإعادة التوازن بين الموارد والالتزامات في الخارج، وبعيدًا عن المنطقة. غيّر هذا الخيار ميزان القوى الإقليمي وتحدى في نهاية المطاف فعالية الولايات المتحدة كمزود خارجي للأمن في المنطقة، مما أدى إلى فراغ في النفوذ والقوة سعى لاعبون آخرون لملئه.
امتدت المنافسة على المنطقة العربية تدريجيًا -ولكن بشكل مطرد- لتشمل مجموعة أوسع بكثير من اللاعبين مما كانت عليه في الماضي.
إن الخيار الأمريكي بتقليص الانخراط في المنطقة قد مهّد الطريق لعودة روسيا، لدرجة أن موسكو تعتبر اليوم لاعبًا رئيسيًا فيها، وتسعى لتحل محل الولايات المتحدة كقوة مهيمنة. وبناءً على هذا التصور والتحضير لهذا المستقبل، فإن حكام المنطقة يبنون قدراتهم الأحادية بشكل متزايد، ويبدأون في استخدام تلك القدرات لزيادة مواقفهم المتعلقة بإقامة علاقات جديدة داخل المنطقة ومجالات نفوذ في الخارج القريب، والتحوط لشراكاتهم مع الولايات المتحدة من خلال توسيع العلاقات مع القوى العالمية مثل الصين وروسيا.
ستجعل هذه الديناميكيات المنطقة أقل أمانًا.
ويُنظر إلى روسيا على أنها وسيط قوى ملتزم بالاستقرار في المنطقة، في حين أن قدرتها الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية قد تحد من قدرتها على الوفاء بهذا الدور. وينظر إلى الولايات المتحدة على أنها تقلص من التزاماتها في المنطقة برغم من استمرار المصالح والاستثمارات والقدرة الفائقة لضمان الأمن الإقليمي.
إن التحدي الذي يواجهه الكرملين في المنطقة سيكون كيفية تحويل نجاحاته العسكرية في سوريا وزيادة هذا الوجود في ليبيا إلى تأثير سياسي أكثر استقرارًا من خلال بناء نظام للأمن الجماعي تسيطر عليه روسيا أو تلعب فيه الدور الأساسي.
كذلك لـم يتمكَّن الاتحاد الأوروبي من صياغة سياسة شاملة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تتجاوز ما يرد في الاستراتيجية العالمية للاتحاد وسياسة الجوار الأوروبية. فمن تونس إلى الكيان الصهيوني وفلسطين، لـم يتمكَّن الاتحـاد الأوروبي من ترجمة إمكانيات سياسة الجوار الأوروبية إلى وزنٍ سياسي حقيقي أو دفع التغيير الذي يسعى إليه.
هناك تفاصيل كثيرة في المشهد الدولي لكن الخلاصة التي أريد أن أقدمها هنا: «لقد خلق العنف والاضطرابات والتدخلات الأجنبية غير المرغوب فيها فراغًا مؤسسيًا في الدول الأضعف ليتم ملء هذا الفراغ لاحقـًا من قِبل جهات فاعلة أجنبية ومحلية وعابرة للحـدود، نتيجة لذلك زادت التوترات العرقية والطائفية والدينية، وتقلصت المساحة المتاحة للحوار والتعاون».
ثانيًا: فشل صيغة المحاور الإقليمية الثلاثة
كتبت من فترة قصيرة: بغض النظر عن أي محور إقليمي تنتمي إليه أو تشجعه أو تصطف خلفه؛ من المحاور الإقليمية الثلاثة التي توزعت عليها دول وقوى وحركات تحت الدولة: المحور الإيراني، المحور التركي القطري، المحور السعودي الإماراتي الذي باتت مصر جزءًا منه، بغض النظر عن انحيازاتك، فقد ثبت أن صيغة المحاور الإقليمية التي استمرت لعقد حتى الآن قد ثبت فشلها، ومن ثم يجب تجاوزها.
ثبت فشلها لأنها:
- أنتجت حتى الآن ثلاث حروب أهلية على الأقل، وأفرزت استقطابات مدنية داخل عديد من البلدان.
- لم يستطع أحدها أن يحسم الصراع لصالحه في أي مكان، ولن يستطيع، لأن توازنات القوى الدولية تحول دون ذلك، وليبيا وسوريا واليمن أمثلة لذلك.
- أضعفت قوى المنطقة وإمكانياتها لصالح المشروع الصهيوني.
- هذه المحاور الثلاثة ليست بعيدة عن صراعات القوى العظمى والكبرى، فقد تحولت المنطقة، وستتحول بعد كورونا، إلي رهينة للصراعات بين واشنطن وموسكو، وبين واشنطن وبكين.
- تتعامل بعض هذه القوى مع المحاور الإقليمية بمنطق: «أمطري حيث شئتي فسيأتيني خراجك»- انظر مثالًا لما تفعله الولايات المتحدة مع أزمة الحصار القطري، أو ما تفعله مع تركيا في ليبيا لتوازن الوجود الروسي.
- الشعوب مَن تدفع ثمن ذلك كله من قتلى وجرحى ولاجئين وفقر وعدم تنمية.
- المستفيد الأول من ذلك كله هو الاستبداد؛ وانظر كيف زاد المنزع الاستبدادي وتصاعد في دول المنطقة جميعًا، بما فيها دولة كتركيا كان نظامها واعدًا من حيث المسار الديمقراطي.
وأضيف: تعتبر التناحرات بين دول المنطقة في الوقت الحالي لعبة ذات محصلة صفرية بين الجهات الفاعلة الرئيسية. كما يبدو أن إنشاء نظام للأمن الجماعي أمرًا بعيـد المنال، حيث يشارك الخصوم بنشاط فـي جهـود تغيير الأنظمة والتدمير المتبادل. علاوة على ذلك، بمجرد أن يواجه أحد الأنظمة تحديًا ما فإنه يعمل بشكل تلقائي على إثارة النعرات الطائفية لتعزيز قواعد دعمه، مما يؤدي إلى خلق دائرة من العنف. وبالتالي مع تصاعد التنافس السياسي إلى مواجهات عسكرية وصراعات أهلية فإن العنف غير المقيد سيدمر كل احتمالات التسوية.
وتنتهي تقارير دولية كثيرة إلى حقيقة أساسية: «الأمن الجماعي أو الموت الجماعي»، إلا أن صياغة نظام للأمن الجماعي بعيد المنال في هذه اللحظة لأسباب عدة ليس مجال التفصيل فيها الآن، مما يزيد من تفاقم النزاع في ليبيا.
ثالثًا: طبيعة نزاعات المنطقة الآن
تتقاطع صراعات المنطقة مع تعقد الوضع حيث تتعدد أنواع الصراع بين الجهوي والوطني والإقليمي، بل والدولي، وتتعدد مجالاته بين السياسي والاجتماعي- اقتصادي والثقافي. وتتشابك العوامل الدافعة له ويكثر اللاعبون المنخرطون فيه.
ويمكن الحديث عن عدد من السمات لصراعات المنطقة:
1- القابلية للانفجار بسرعة، ففي الوقت التي أظهرت فيه أحداث التصعيد الأخير بين مصر وتركيا مخاطر اندلاع صراع غير مقصود أو مقصود، فليس هناك رغبة عند أي من اللاعبين الأساسيين في أن يبدأ حوارًا مع خصومه، لذا فإن الصراعات تكون أكثر حدة.
2- تعدد اللاعبين وتشظيهم السياسي، فالمنخرطون في الصراعات دول في الإقليم ومن خارجه، وقوى إقليمية وأخرى عظمى وكبرى، أما القوى دون الدولة فهي كثيرة ومنقسمة على نفسها وتتقاطع تحالفاتها وتتباين فيما بينها، وبعضها قوي يتصرف كأنه دول حين اتخذت مظاهر سيادية.
إن إضعاف الدولة العربية وتنامي عدد اللاعبين دون الدولة يعطل أي جهود لتحقيق الاستقرار؛ فما من جهة واحدة تحتكر العنف داخل حدود جغرافية محددة، كما أن تدخلات العواصم الإقليمية في الصراعات قد غيرت في بنيتها.
3- الصراعات تبدو كأنها حزمة واحدة، فالتداخل بين صراعات مختلفة سواء على الأرض أو في تصورات الأطراف المختلفة يزيد من صعوبة معالجتها منفردة.
4- غياب وسيط قوي يتمتع بنفوذ حقيقي يمكنه من لعب دور المُحَكِم بين الأطراف المتنازعة، ويتواكب مع ذلك محدودية الأدوات المستخدمة في احتواء الصراعات، ومن ثم منع تصعيدها.
ثلاثة أمور يتوجب التحرر منها
الأول: غياب التقاليد التاريخية في التعامل مع كيانات دون الدولة. فالدولة المصرية بحكم خبرتها التاريخية الممتدة التي تكونت بالأساس من تعاملها مع مجتمعها المتجانس عبر سلطة مركزية قوية، لا تتصور وجود كيانات خارج هيمنة وسيطرة السلطة المركزية التي تمثلها الدولة، وهذا ربما يفسر، مع عوامل أخرى، نكسة اليمن في الستينيات.
بعبارة أخرى، قامت دول المنطقة بعد تحقيق استقلالها على ثلاث ركائز رئيسية: السلطة التنفيذية القوية، والأنظمة شديدة المركزية، والمؤسسات القسرية القوية (الشرطة والاستخبارات والجيش). وهذا يثير التساؤل حول ما إذا كانت المنطقة بحاجة إلى تجاوز الفهم التقليدي للسيادة الوطنية. بمعنى آخر يمكن أن تؤدي استعادة «بقايا الدول»، دون إعادة التفكير فيها بتجديد أصولها وإصلاح هياكلها وإعادة بناء مؤسساتها من أجل منع «التفكك» على حساب الاحتياجات الحقيقية للشعوب، إلى تفاقم الاضطرابات الحالية في المنطقة.
الثاني: معاداة سردية الربيع العربي. ارتكزت أحد جوانب شرعية نظام «3 يوليو» إلى الحفاظ على الدولة المصرية من غوائل ثورة يناير، مع ضرورة استعادة الاستقرار بمعالجة تداعيات الحراك الشعبي الذي دشنته انتفاضات الربيع العربي. صحيح أن دستور 2014 كان محاولة للتصالح مع ثورة يناير، لكنه سرعان ما تم النكوص عنها سريعًا على مستوى الخطاب والممارسة، وأخيرًا على المستوى الدستوري عبر تعديلات 2019.
سردية الانتفاضات العربية بحثت عن عقد اجتماعي جديد يتم به إعادة بناء الدولة الوطنية بنخب جديدة. ويستند هذا العقد إلى مقومات ثلاثة: الحرية/ الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية/ التوزيع العادل للموارد، وتحرير الإرادة الوطنية من الهيمنة الإقليمية والدولية.
هذا الحلم يكاد يكون عليه توافق من الطبقة الوسطى والطبقات الدنيا وبعض شرائح من الطبقة الوسطى العليا، لكن قوته المحركة أجيالًا جديدة من الشباب مع حضور نسائي طاغٍ. جـاء الربيع العربي -إذن- تتويجًا لإخفاقات النخبة الحاكمة في بناء الدولة وبناء التوافق. لقد أعلنت المظاهرات واسعة النطاق التي قادها الشباب المحبط عن موت المبادئ التي قامت عليها دول المنطقة، وأظهرت كذلك حدود الإكراه والمركزية والمحسوبية في هيكل الحكم في المنطقة، وعلاوة على ذلك، كشفت أيضًا عن انخفاض مستويات الالتزام بهياكل الدولة والعقود الاجتماعية القائمة.
التحدي في ليبيا ليس استعادة دولة القذافي -كما يتصور حفتر- التي لن تعود أبدًا، ولكن في إعادة بنائها عبر الديمقراطية التوافقية التي تضمن تمثيل شرائح المجتمع ومكوناته كافة، ومن خلال عقد اجتماعي جديد. الموقف المصري الآن يتمتع بميزة الانطلاق من ضرورة استعادة الدولة الوطنية التي تفككت في المنطقة، ولكنه لا يملك تصورًا لكيفية بناء هذه الدولة على أسس جديدة. ومن وجهة نظري، لا يمكن تحقيق الاستقرار في المنطقة من دون تجديد سياسي في أصول الدولة الوطنية، لأن القديم قاد إلى الانفجارات ولا يمكن استعادته مرة أخرى حتى لو أردنا، إذ أن الشروط التاريخية التي أنتجته لم تعد قائمة.
الثالث: التحرر من الحرب على الإسلام السياسي. من الملاحظ أن الدولة المصرية في ظل نظام «3 يوليو» تبنت سردية الإمارات والسعودية وإسرائيل في الحرب على جميع الحركات السياسية الإسلامية تحت دعاوى «الحرب على الإرهاب» الذي بات مفهومًا فضفاضًا يتم تعريفه وفقًا لمصلحة كل دولة. قامت سردية الدولة المصرية منذ سبعينيات القرن الماضي على التمييز بين الاعتدال وبين التطرف في التعامل مع هذه الحركات، ولكن الجديد في سردية القوى الإقليمية، ومنها مصر، هو معاداة هذه الحركات، لأنها ساهمت مع آخرين في إحداث التغيير الذي دشنته الانتفاضات العربية. معادلة التغيير/الاستقرار تقتضي أن يتم التعامل مع الإسلاميين باعتبارهم طرفًا واحدًا. ومن الملاحظ أن الدولة المصرية لم تستطع -برغم تقاليدها التاريخية كما في الخبرة الناصرية- أن تميز بين ضرورات الداخل وبين سياسات الخارج. بمعنى، أنها يمكن أن تدخل -على المستوى الداخلى- في حرب شاملة مع الإسلام السياسي، إلا أنها يمكن على المستوى الخارجي أن ترجع إلى معادلة الاعتدال/ التطرف وتعريف المصالح القومية، وعندنا «حماس» على حدودنا الشرقية مثالًا، لكن على ما يبدو فإن التماهي مع السردية الإقليمية للحرب علي الإسلام السياسي قد فرض حدودًا على التعامل المصري مع المأزق الليبي.
وتبقى نقطة أخيرة، وهي أنه من الضروري أن ننتبه أيضًا إلى أن كل التجارب السابقة في مصر (الجماعة الإسلامية في التسعينيات من القرن الماضي مثالًا) وحولها، وفي العالم كله، تؤكد أن العمل المسلح ضد الظاهرة «الإرهابية» لا بد أن تصحبه عملية سياسية، وأنه لا يمكن أن تظل في حرب دائمة على الإرهاب، لأن هذا الخطاب من كثرة الحديث فيه يستنفد غرضه -بعد فترة- عند قطاع عريض من المواطنين بما يأكل من شرعية أي نظام.
.. وثلاثة مرتكزات
الأول: إشراك الفواعل من غير الدول في بناء الدولة الليبية الجديدة: الأمر المهم هو إدراك أن الدول لم تعد الفاعل الوحيد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
أثبت النموذج السائد المرتكز على الدولة في التعامل مع الفواعل من غير الدول أنه ضار، وغير قادر على تحقيق استقرار دائم وترتيبات أمنية مستدامة. كما تشير تجارب العقود القليلة الماضية إلى أنه لا يمكن القضاء نهائيًا على الفواعل من غير الدول، من الممكن احتواؤها، ويمكن أن تتناقص قدراتهم إلا أنهم بطبيعتهم يتكيفون مع القيود الجديدة ويستغلون الفرص ويعيدون تشكيل أنفسهم للتكيف مـع البيئات الجديدة. هـذه المنظمات تتبنى خصائص الدول بشكل متزايد؛ فهي تسيطر على الأراضي وتشارك في الدبلوماسية وتبني دوائر شعبية وتمارس السياسة. علاوة على ذلك، فإنها عادة ما تمثل مصالح حقيقية، وتكون مدمجة داخل المجتمعات، لكنها عادة ما تكون مسؤولة عن التصعيد العنيف والخرق القانوني الإنساني الدولي، وإنشاء حكم واقتصاد موازيين.
وهناك العديد مـن الأسباب الكامنة وراء صعود وانتشار الفاعلين من غير الدول، إلا أنها تتبع نفس الاتجاه بشكل عام، حيث تصعد عند ضعف الدول أو حين تخفق هذه الأخيرة في توفير الأمن والخدمات، ثم يندفعون لملء الفراغ الذي تتركه الدول خلفها. كما يمكن ملاحظة اتجاه مستجد في أعقاب الربيع العربي، حين أصبح الفاعلون من غير الدول مؤثرين بشكل متزايد في تشكيل سياسات المنطقة.
إن الدول العربية في الوقت الحالي تعيش وضعًا تواجه فيه مؤسساتها الضعيفة عددًا لا يُعد ولا يُحصى من الفاعلين من غير الدول الذين يغطون أنشطة متنوعة تمتد من الحركات السياسية والاجتماعية إلى الحركات المتطرفة العنيفة.
الفاعلون من غير الدول هم فاعلون اجتماعيون سياسيون يعملون خارج الأنظمة القائمة. في بعض الحالات يعمل الفاعلون من غير الدول بالنيابة عن الدول الأجنبية، لكن هناك أنواعًا مختلفة منها تعمل بشكل مستقل أو تختار تحقيق أهدافها بالإضافة إلى أهداف الجهات الراعية لها.
بشكل عام يختلف الفاعلون من غير الدول فيما بينهم في أربع سمات مميزة: الأراضي التي يسيطرون عليها، والأيديولوجيا، والموارد المتاحة لهم، والعلاقة بالمجتمعات المحلية والدولة. ومع ذلك فإن الفواعل من غير الدول يمثلون ظاهرة معقدة ومركبة، فهم يتطورون ويحملون هويات متعددة.
تمتلئ دراسات حل النزاعات باقترابات كثيرة للتعامل مع الفواعل من غير الدول، تحتاج الدولة المصرية أن تطور نهجًا شاملًا لكيفية التعامل مـع هـذه الظاهرة لا ينطلق من مكافحة الإرهاب ولا مواجهة التطرف العنيف ولا تقاليد الدولة المركزية والمجتمع المتجانس -كما قدمنا- وغيرها من الأساليب القمعية، وبـدلًا من ذلك، يتبنى إطارًا أوليًا يبدأ بالتهدئة ثم التسوية ثم الدمج والانتقال المنطقي للسلطة، وشرطه الضروري إحداث تحول بعيدًا عن العنف من جميع الأطراف، وأظن أننا في ظرف يسمح بذلك، فقد امتثل الجميع للتوقف عن التصعيد عندما طالب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بذلك.
والخلاصة: إن الفاعلين المسلحين من غير الدول هم جزء من المشكلة في نزاعات اليوم بقدر ما يجب أن يكونوا أحيانًا جزءًا من الحل.
الثاني: عزل الملف الليبي عن نزاعات المنطقة الأخرى متعددة المستويات والأبعاد. فمن المنظور المصري سيكون من غير المجدي البحث عن أي حل شامل للمشكلات الإقليمية، ومن غير المرجح أن ينجح نهج «مقاس واحد يناسب الجميع»، ويبدو أكثر إنتاجية أن يتخذ نهجًا في البحث عن حلول محددة لكل حالة نزاع على حدة.
نقطة الارتكاز في هذا النهج هي تحقيق توافق استراتيجي بين الدول المحيطة بليبيا تمهيدًا للتقدم به للحوار مع الأطراف الفاعلة الأخرى من خارج المنطقة، وشرطه فك الارتباط على الأقل في هذا الملف عن الموقف الإماراتي، فهي وقطر شأن البلدان الصغيرة تدفعان المنطقة للفوضى.
الثالث: زيادة الطلب المحلي على السلم الأهلي، وليس مزيد من عسكرته، فمن الملاحظات الجديرة بالاعتبار أن المجتمع الأهلي في بلداننا يدفع الفاتورة الكبرى في صراعاتها، وعادة ما تصمم عمليات الحوار والمصالحة دون إشراك جدي له، بل تتم عادة بعيدًا عنه، والمثل البارز هو مؤتمر برلين الذي حضرت فيه كل الفواعل الإقليمية والدولية في ظل غياب كامل للمجتمع الأهلي الليبي. أنا أُدرك بحكم الخبرة والمساعدة في تقديم برامج وتدريب لبعض الفواعل المحلية أن المجتمع الليبي في عمومه قد مل هذه الحرب بين الفريقين ويحتاج أن يرجع إلي حياته الطبيعية ويعالج مشكلاتها، كما أن هذا المجتمع يملك آلياته الذاتية مثل لجان المصالحات العرفية التي يمكن أن تتعامل مع بعض مستويات النزاع وتوقف تصاعد العنف.
المشكلة في هذه النقطة أن أطراف النزاع يظل من صالحها إضعاف قوى المجتمع الأهلي جميعًا أو اختطافها لصالحه أو استقطابها لمشروعه، بما يحول دون وجود مجال عام مستقل عن أطراف النزاع.
نقطة البدء هو تقوية هذا المجال العام المستقل بما يمثل ضغطًا على أطراف النزاع للدخول في عملية حوار جادة كما يضمن لها التحرر -ولو جزئيًا- من الارتهان للقوى الدولية أو الإقليمية.
أختم فأقول: إن نهجًا مصريًا جديدًا للتعامل مع المأزق الليبي بات ضرورة وطنية في ظل ديناميات جديدة تغير طبيعته بما يفاقم مهددات الأمن القومي المصري، فهل نشهد ذلك في قابل الأيام؟
Leave a Comment