نُشر في الجزيرة.نت – ديسمبر 2021

“واشنطن والربيع العربي القادم”؛ تحت هذا العنوان كتب ديفيد شينكر -مساعد وزير الخارجية للشرق الأدنى في إدارة ترامب- بمعهد واشنطن في أكتوبر/تشرين الأول الماضي واحدا من المقالات التي تعكس اهتمام مراكز التفكير عبر الأطلسي بمسائل حقوق الإنسان في منطقتنا.

وعلى ما يبدو فإن زيادة الاهتمام في الآونة الأخيرة يأتي في ظل إدارة بايدن التي تجعل تحالف الديمقراطيات أحد أسس سياستها الخارجية خاصة في مواجهة الصين وروسيا، كما تمثل هذه المقالات أحد المداخل المهمة -على ما يبدو- لقمة بايدن عن الديمقراطية  المتوقع انعقادها في ديسمبر/كانون الأول الجاري. والأهم من وجهة نظري أن مسائل الديمقراطية وحقوق الإنسان باتت ومنذ عقد من السنين -عمر الربيع العربي- من أولويات تطلعات الشعوب العربية وإن تعددت مداخلها واقتراباتها، وأخيرا فقد لفت نظرَ الجميع التدخلُ الأميركي القوي بعد انقلاب السودان في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بالإضافة إلى الضغوط على الرئيس التونسي قيس سعيّد -وإن لم يكن بنفس الدرجة- لاستعادة المسار الديمقراطي.

يعرض مدخل الديمقراطية وحقوق الإنسان معضلة القيم والمصالح أو الأمن والقيم، فإما التهديد المستمر بحدوث الانتفاضات وبالتالي تتغير طبيعة المعضلة التي تواجه صانع السياسة الأميركي، أو على أقل تقدير إضافة معضلة جديدة إلى المعضلة الأصلية وتجعلها أكثر تعقيدا، “وبالنسبة لواشنطن، فقد كانت عالقة بين مطرقة التحرك وسندان التفرج، وذلك على صعيد خيارات السياسة المتاحة أمامها عندما اندلعت الاحتجاجات”.

وبرغم من أن المقال يأتي في سياق الاهتمام الغربي بالديمقراطية في منطقتنا؛ فإنه باعتماد مدخل “الربيع العربي القادم” أو الدائم -كما أحب أن أسميه- يُدفع النقاش إلى مساحات مختلفة من حيث طبيعة المعضلة التي تواجه صانع السياسة الغربي، وأولويات أجندة الاهتمام، واختلاف الفواعل السياسية التي تتعامل معها السياسة الغربية في المنطقة، وما يترتب على ذلك كله من سياسات وبرامج.

و”بعد مرور 10 سنوات على الربيع العربي، لا تزال الظروف التي أشعلت فتيل الاحتجاجات قائمة في معظم الدول التي شھدتها، وفي كثير من الحالات، ساءت تلك الظروف. ونتيجة لذلك، شهدت المنطقة خلال العقد الماضي مظاھرات مستمرة، مما یشير إلى أنه حتى الأشكال الأكثر اعتدالا من الاضطرابات أصبحت “الوضع الطبيعي الجديد” في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”. بهذه الكلمات يبدأ شينكر مقاله ليجعل من انتفاضات الشعوب العربية وليس اضطرابات -كما وصفها- هي الوضع الطبيعي الذي يجب على صانع أية سياسة أن يتعامل معه، وذلك بحكم أن المسببات التي أنتجت هذه الانتفاضات لا تزال مستمرة ولم يتم التعامل مع جذورها العميقة من فساد وبطالة بين الشباب المتعلم وغياب للحرية والحوكمة الرشيدة.

السياسة الأميركية بين الإحجام والتدخل

يعرض مدخل الديمقراطية وحقوق الإنسان معضلة القيم والمصالح أو الأمن والقيم، فإما التهديد المستمر بحدوث الانتفاضات وبالتالي تتغير طبيعة المعضلة التي تواجه صانع السياسة الأميركي، أو على أقل تقدير إضافة معضلة جديدة إلى المعضلة الأصلية وتجعلها أكثر تعقيدا، “وبالنسبة لواشنطن، فقد كانت عالقة بين مطرقة التحرك وسندان التفرج، وذلك على صعيد خيارات السياسة المتاحة أمامها عندما اندلعت الاحتجاجات”.

ولكل من التحرك والتقاعس كانت هناك مخاطر وتداعيات مصاحبة؛ فالتحرك كما جرى في ليبيا -من خلال التدخل العسكري- أدى إلى حروب أهلية متوالية وجماعات إرهابية قامت بقتل السفير الأميركي، بالإضافة إلى تهديدات الحليف الأوروبي من هجرة وإرهاب، وكذلك التقاعس جعل نظام بشار الأسد مستمرا حتى الآن، وأدى إلى عودة النفوذ الروسي للمنطقة وزيادة وجودها العسكري بسوريا والمنطقة عموما.

ولكن أين يقع بالضبط الخط الفاصل بين الإحجام عن العمل والتواطؤ؟

هنا يلفت شينكر نظرنا إلى أن  فكرة الحياد بالنسبة لدولة قوية مثل الولايات المتحدة ھي مجرد وهم. فعدم القيام بأي شيء أو “عدم إلحاق الضرر” يعني الحفاظ على الوضع القائم أو العودة إليه، وهو أمر لا يكون حياديا أبدا في المنطقة بسبب علاقات أميركا الطويلة الأمد مع الجهات الفاعلة بها.

وإذا أصبحت الانتفاضات سمة دائمة لمشهد المنطقة ومن غير المرجح أن تتبدد في أي وقت قريب؛ فإن إدارة بايدن تواجه مسألتين أساسيتين على حد قوله؛ الأولى كيفية الاستفادة من أدوات السياسة المتاحة لتقليل الاضطرابات وربما تحسين بعض الظروف الأساسية التي تغذيھا، والثانية كيفية الاستعداد لاحتمال أن تتحول هذه الاحتجاجات إلى أحداث مزعزعة للاستقرار كما حدث في 2011 و2019، وفي تونس والسودان 2021. بعبارة أخرى؛ إذا ما تطورت الاحتجاجات إلى عوامل سياسية تُساهم في تغيير قواعد اللعبة، فكيف يجب أن تستجيب إدارة بايدن؟

هنا يقدم لنا شينكر 4 محددات رئيسية تحكم الرد الأميركي على الاحتجاجات آخذا في الاعتبار الخبرة التاريخية السابقة؛ فلم تكن أميركا وحدها التي أخطأت في تقدير رد الفعل على الانتفاضات والأحداث التي أعقبت عام 2011. وبشكل عام، فاقت الأحداث على الأرض إلى حد كبير قدرة صانعي السياسات على إنتاج ردود متماسكة، ناهيك عن تنسيق الإستراتيجيات.

العوامل الأربعة هي:

  1. طبيعة العلاقة الثنائية بين الولايات المتحدة والدولة التي تجري بها الاحتجاجات، وهنا نعود إلى معضلة التوازن بين الأمن والقيم.
  2. التأثير المحتمل للرد على حركة الاحتجاج، بمعنى هل المساندة العلنية للاحتجاج من شأنها أن تقوي خطاب الأنظمة حول فكرة المؤامرة والتدخل الخارجي وعمالة المحتجين، أم تكتفي الإدارة الأميركية بحديث عام حول حق التظاهر السلمي وعدم استخدام العنف في مواجهته؟
  3. التأثير المحتمل للرد الأميركي على سلوك القيادات والتحالفات في المنطقة بشكل عام، من خلال تأثير التخلي عن القيادات أو دعم قوى جديدة. فبالنسبة لبعض دول الخليج  والولايات المتحدة وأوروبا، فإن قرار السماح بصعود جماعة الإخوان المسلمين في المنطقة كشف أمرين مهمين ومقلقين لهم، أولا أن الغرب مستعد للتخلي عن الترتيبات والضمانات الأمنية القائمة منذ فترة طويلة. ثانيا أن المنطقة في أيدي جماعة الإخوان المسلمين شكلت تهديدا مباشرا لنموذج هذه الدول للإسلام والدولة، وبالنسبة لإسرائيل فإن هذا ينطوي على تهديد لأمنها.
  4. أخيرا التأثير المحتمل للردّ على التدخل الروسي والصيني في الدولة المعنية، وهذا المحدد مستجد عن انتفاضات الموجة الأولى 2010-2011 لأنه يعكس طبيعة الإدراك الأميركي لأولويات الاهتمام الدولي الآن.

    تتمثل إحدى التداعيات العملية للتشرذم في المنطقة وانهيار هيكليات الدولة في افتقار الجهات الفاعلة الخارجية إلى شركاء دبلوماسيين تقليديين، فلا يزال التعاون الكلاسيكي بين الحكومات الخيار الأفضل حيثما كان ذلك ممكنا، ولكنه يصبح أقل أهمية حين تعاني هيكليات الدولة خللا وظيفيا وتتمركز دوافع النمو والوظائف الفعلية في طبقات القطاع الخاص المتشعبة للغاية، بدءا من أمراء الحرب ووصولا إلى رجال الأعمال

أجندة عمل مختلفة

مدخل الربيع العربي القادم أو الدائم من شأنه أن يطرح على الإدارة الأميركية مفاهيم جديدة من قبيل الاستقرار طويل المدى، ويوسع من دائرة القضايا التي يجب أن تتعامل معها، بالإضافة إلى تغير نوعية الفاعلين السياسيين.

وسبق أن عرضتُ مبكرا في مقالات عديدة  ضرورة الاستثمار في الاستقرار طويل المدى الذي يتعامل مع العوامل الهيكلية التي أنتجت هذه الانتفاضات، والتي جوهرها عقد اجتماعي جديد يقوم على الديمقراطية والتوزيع العادل للثروة، وأنه بدون ذلك فنحن أمام استمرار لعدم الاستقرار والذي بدوره أصبح ظاهرة أكثر اتساعا تتضمن حروبا أهلية وجماعات تطرف عنيف وأزمات إنسانية وانهيار للدولة وصراعا إقليميا، وأخيرا وليس آخرا تنافسا دوليا على النفوذ في المنطقة.

فضلا عن ذلك، تتمثل إحدى التداعيات العملية للتشرذم في المنطقة وانهيار ھيكليات الدولة في افتقار الجهات الفاعلة الخارجية إلى شركاء دبلوماسيين تقليديين، فلا يزال التعاون الكلاسيكي بين الحكومات الخيار الأفضل حيثما كان ذلك ممكنا، ولكنه يصبح أقل أهمية حين تعاني هيكليات الدولة خللا وظيفيا وتتمركز دوافع النمو والوظائف الفعلية في طبقات القطاع الخاص المتشعبة للغاية، بدءا من أمراء الحرب ووصولا إلى رجال الأعمال، وفي الوقت نفسه، یسهم غياب الاستثمار التعاوني في هيكليات الدولة في إضعافها بصورة أكثر. كذلك، إن عملية التحقق من الشركاء أو التعامل مع جهات فاعلة غير حكومية على الأرض، ستشكل تحديا أكثر حدة للدبلوماسية الغربية في المرحلة القادمة.

وبرغم التغير الذي تشهده المنطقة فإن هناك حدودا لمعالجة المعضلات الهيكلية أو الاستثمار في الاستقرار طويل المدى بالنسبة للسياسة الأميركية أبرزها:

  1. انسحابها من المنطقة بما يتضمنه من أولويات منطقة المحيطين الهادي والهندي.
  2. حقبة ما بعد أفغانستان والعراق التي لن يكون فيها تدخل عسكري متسع طويل المدى تحت دعاوي بناء الأمة والدولة.
  3. بالإضافة إلى الأولويات المحلية خاصة فيما يتعلق بمعالجة تداعيات كورونا وتصاعد اليمين المتطرف الذي بلغ ذروته في الهجوم على مبنى الكابيتول في يناير/كانون الثاني الماضي.
  4. لا يزال هناك حدود لقدرة السياسة الأميركية للتأثير على السياسة المحلية، أي داخل البلدان.

وبرغم عدم وجود سياسة واحدة تناسب الجميع؛ فإن شينكر يقترح 5 سياسات لمعالجة هذه المعضلات هي:

  1. الاستعداد للجهود طويلة المدى، وهذا يستند إلى إعادة فهم الاحتجاجات من كونها أحداث استثنائية إلى تحولها لسمة أساسية للمنطقة.
  2. التنديد بالعنف، وهنا يجب أن تكون واشنطن واضحة في جميع الحالات بأنه لا يجب مواجهة الاحتجاجات السلمية بالعنف.
  3. تحديد الجماعات الواعدة للمجتمع المدني ودعمها، وهذه السياسة تتضمن بالطبع التدقيق فيمن يجب دعمه بما يتضمنه من إقصاء أو عدم دعم الجماعات المناهضة للسياسة الأميركية في المنطقة والسلام مع إسرائيل.
  4. تجنب الأخطاء التلقائية والردود الواهنة التي أبرزها التدخل طويل المدى خاصة العسكري منها أو اتخاذ قرارات متسرعة قد تضر بعلاقتها بالسلطة القائمة في البلدان التي تجري فيها الاحتجاجات إذا اجهضت لأي سبب أو أخفقت.
  5. التنسيق بين الحلفاء، والمرتكز الأساسي في ذلك هو الاتحاد الأوروبي.

ما الذي يعنيه كل هذا؟

من وجهة نظري يعني 3 أشياء؛ الأول معالجة لعدم التنبؤ بالانتفاضات العربية في موجتيها، والثاني ضرورة الإصلاح التدريجي مع الأنظمة القائمة ومحاولة التعامل مع الجذور العميقة التي تنتج هذه الانتفاضات وأخيرا أهمية الاعتناء بالأجيال الجديدة من جيل الألفية وجيل “Z” (أولئك الذين ولدوا بين عامي 1996 و2009) الذين يذكروننا بشكل متزايد بمدى اختلافهم عن أولئك الذين يحكمونهم، وتتوقع الأمم المتحدة أن هذه المجموعة لديها القدرة على أن تكون “وكلاء التغيير”، وتعمل من أجل مستقبل أكثر “ازدهارا واستقرارا” وتلعب دورها في “جني العائد الديمغرافي” المتمثل في شبابية المنطقة.

Share: