نُشر في الجزيرة.نت نوفمبر 2024

لأنّني نشأت بين الريف والمدينة في دلتا مصر؛ فإنني أحتفي كثيرًا بالزرع حين لا يزال ممتزجًا بطين الأرض. النضارة الخضراء تشعرني بشغف التعلم والقدرة على التجدد المستمرّ، ويذكرني طين الأرض بضرورة البحث في الجذور، وإدراك المآلات.

أعادتني مادة طوفان الأقصى والتدين: يقظة إسلامية التي قدمها الصحفي النابه عبدالقدوس الهاشمي إلى هذه الروح. استغرق منه العمل 8 أشهر، التقى فيها بعشرات الشباب والشابات العرب حول العالم من الفئة العمرية ما بين 20 إلى 40 عامًا؛ لرصد تحولات كثير منهم بعد الطوفان – طوفان الأقصى – من “اللامبالاة” إلى حالة التدين الجارف، بل وأحيانًا التأهب للانخراط في الحالة الإسلاميّة الواسعة، ومناصرة المقاومة في فلسطين.

قدّم لنا مادةً خامًا، أو زرعة لا تزال بطينتها، يمكن العمل عليها لتقديم إطار تحليلي وتفسيري لظاهرة التدين الجديد لدى الشباب والشابات العرب بعد الطوفان، وهو موضوع يأسرني بالكتابة والبحث.

بالطبع، ليس الهدف هو التعميم حول تأثير ما جرى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 حتى هذه اللحظة على تحول الشباب العرب نحو الممارسة الدينية. أنا أدرك حدود العينة ومدى تمثيلها لمجتمع يبلغ حجمه الثلث تقريبًا (32.2٪؜) من السكان العرب، لكن المادة أثارت عندي شغف التساؤل عن:

  1. معنى الدين كما يظهر في المقابلات؟
  2. وما علاقته بالمفاهيم الإسلامية الصلبة من إيمان وكفر وشريعة وولاء وبراء وجهاد؟
  3. وهل أضاف تدين الطوفان سمات جديدة أو أحدث تحولات في ظاهرة التدين الشبابي الجديد الذي كتبت عنه من قبل؟
  4. وما علاقة ذلك بتدين التنظيمات والجماعات في ظل مأزقها التاريخي؟ وهل استطاع هؤلاء الشباب والشابات أن يتجاوزوا تنظيميًا وأيديولوجيًا المنظمات الإسلامية الكبرى أم لا يزالون عالقين في أفكارهم وتنظيماتهم وممارساتهم؟
  5. وأخيرًا، وليس آخرًا؛ ما هي تأثيرات هذه الظاهرة ومآلاتها في السياسة والمجتمع، وعلى علاقات السلطة والثروة وطنيًا ودوليًا؟

تحولات الظاهرة الدينية – خاصة وسط الشباب والشابات – مما يستحق المتابعة؛ فهي ظاهرة ديناميكية متحركة لا تتسم بالثبات وتحمل الجديد دائمًا، وبات الصراع حول أنماط التدين في الإقليم – أو ما أطلقت عليه في كتابي الصادر عن دار مدارات أوائل هذا العام “روح الإسلام” – والربيع العربي والصراع على روح الإسلام، أحدَ محاور الاستقطابات.

لا يزال الإسلام لديه القدرة على اجتذاب المنطقة اليوم، كما أن الطريقة التي تتعامل بها الميول الفكرية الإسلامية المختلفة مع الأزمات المتعددة التي تواجه المنطقة في السنوات القادمة، ستؤثر على الدور المتطور للدين فيها على المدى الطويل.

كانت القضية الفلسطينية تاريخيًا ولا تزال عاملًا أساسيًا في تشكيل علاقة الإسلام بالمجال العام، كما أنها عنصر مركزي في تحديد المشهد العام في بلدان الطوق كمصر، وسوريا ولبنان، والأردن.

كانت الحروب مع الكيان الصهيوني في 48، و67، و73، والانتفاضات الفلسطينية المتعاقبة منذ مطلع الألفية الجديدة وقبلها لحظات حاسمة لإعطاء قوة دفع لعلاقة الإسلام بالسياسة؛ وهي لحظات كما تتضمن صراعًا مع إسرائيل، تشتمل على مواجهات مع الغرب محملة برموز ثقافية ودينية كثيرة.

أولًا: استعادة التدين: اتجاه متصاعد

يستكمل الطوفان اتجاهًا متزايدًا من علاقة الشباب والشابات دون الـ30 عامًا بالدين وممارسة الشعائر الدينية في العالم العربي.

يتزايد عدد من يقبلون على التدين قياسًا بعددهم في عام 2018، حسب استطلاع نشرت نتائجه شبكة “البارومتر العربي” 2022 لماذا تشهد علاقة الشباب العربي بالدين تغيرًا؟

بحسب الاستطلاع؛ شهدت تونس وليبيا والمغرب والسودان ومصر والأردن والأراضي الفلسطينية تراجعًا في عدد من وصفوا أنفسهم بغير المتدينين من كل الفئات العمرية. فيما كشف الاستطلاع أن مزيدًا من مواطني هذه البلدان باتوا يصفون أنفسهم بالمتدينين.

شهد المغرب – وفق الاستطلاع – انخفاضًا بـ7 في المئة في عدد من وصفوا أنفسهم بأنهم غير متدينين بين كل الفئات العمرية، تليه مصر بانخفاض بنحو 6 في المئة، ثم تونس وفلسطين والأردن والسودان بانخفاض بنسبة 4 في المئة.

أما في فئة الشباب الذين تقل أعمارهم عن الـ30 عامًا، فشهدت تونس التراجع الأكبر في عدد الشباب الذين وصفوا أنفسهم بأنهم غير متدينين. يصف نحو ثلثي الشباب التونسي المشارك في الاستطلاع أنفسهم بالمتدينين، وهو تراجع كبير مقارنة باستطلاع عام 2018، الذي وصف فيه نحو نصف الشباب التونسيين المشاركين في الاستطلاع أنفسهم بأنهم غير متدينين.

وفق آخر الدراسات المسحية الدراسة الشبابية، فإن التدين في الفترة الحالية ينتشر في الريف والمدن الكبرى أكثر من المدن الصغرى، ووسط الشرائح العليا من الطبقات الوسطى والغنية المتعلمة تعليمًا جامعيًا، إلا أن هذه الخصائص تشهد حراكًا دائمًا وتغيرًا مستمرًا يستدعي المتابعة.

ثانيًا: نمط التدين الشبابي

بينما ترسم البيانات التجريبية صورة لشباب المنطقة على أنهم متدينون؛ فإن الشباب يعتبرون الدين شأنًا خاصًا. لم يعد الدين بالنسبة لشباب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يخدم أغراضًا سياسية أو أيديولوجية، بل يركز بدلًا من ذلك على الرفاهية الشخصية والانضباط الذاتي، مما يجعله يبدو أكثر كقناة للروحانية. وإذ ترصد هذه الاستبانات مستويات عالية من التدين؛ يكون ذلك في المقام الأول على المستوى الفردي؛ إذ لم يعد مرتبطًا باليوتوبيا الاجتماعية الجماعية.

هذه السمات تجد تفسيرها – في تقديري – في نموذج السوشيال ميديا باعتباره نموذجًا معرفيًا للثورة المصرية والإعلام الجديد: قراءة، الذي تضافر مع نقد ممارسات الدعاة والإسلاميين بعد انتفاضات الربيع العربي، وزاده بروزًا سمات جيل زد – الذي ولد أواخر الألفية السابقة وأوائل هذه الألفية – في 2024.. جيل Z يولد من الاحتجاجات وخصائص نموذجه الاتصالي.

وسائل التواصل الاجتماعي ليست مجرد أدوات تُستخدم، وإنما تعبير عن قيم وممارسات تدور على:

  1. الفردية، حيث الفرد الذي تعاظم دوره في إنتاج المحتوى وتدويره والتفاعل معه، وذلك في مقابل المؤسسة المحترفة التي كانت تستقل بإنتاج المحتوى، كما ازدادت مساحة تعبير الفرد عن ذاته وتحديه السرديات المهيمنة.
  2. تعاظم قيمة الحرية القائمة على الإقناع/الدعوة في مقابل الضبط السلطوي.
  3. الاعتراف بالتنوع/التعدد بما يعنيه من انفتاح على الذات المتنوعة، والآخر المختلف.
  4. النفع والعملية: التي تعني تجاوز الأيديولوجي – الذي اختص بالإجابة عن الأسئلة الكبرى – إلى البحث عن إجابات للأسئلة الصغرى. الخطاب الفاعل الآن هو ما أطلق عليه “خطاب المعاش”، الذي يهدف إلى تحسين نوعية حياة الناس بشكل عملي.
  5. التوازن بين الخصوصية والمشترك الإنساني: هناك اتجاهان يتنازعان العالم الآن، والإعلام الاجتماعي هو المنصة التي يتحرك عليها هذان الاتجاهان ويغذيهما. الاتجاه الأول هو الارتداد للخصوصيات المحلية والولاءات دون القومية والهويات المغلقة، والاتجاه الثاني هو توسعة المشترك الإنساني بحكم إدراك أن التحديات التي تواجه البشرية مشتركة.
  6. غياب المركز/المطلق/المرجعية: فهناك سيولة شديدة في المحتوى المقدم. أدت هذه الظاهرة إلى عدم العمق الثقافي والمعرفي؛ فتدفق المعلومات لا ينشئ بالضرورة معرفة. كما أن انقضاء فكرة الخطاب السديد والتحول إلى فكرة القول المناسب الذي يتلاءم مع ظروف محددة أصبح هو السائد. النسبية الشديدة في القول والفعل – التي يمكن أن تتحول إلى سيولة أو نظرية المؤامرة – هي الحاكمة في مجمل النموذج المعلوماتي المقدم عبر السوشيال ميديا.
  7. الاستهلاك الشره والسريع للمحتوى والرموز: هذه الظاهرة أدت إلى تجاوز سريع ومتسع للمؤسسات التي تنتج المحتوى، والخدمات التي تقدم… إلخ.
  8. تعاظم قيمة المعرفة العالمية: المعرفة لم تعد محلية بل عالمية، تقوم على التشاركية في إنتاجها، والذاتية في تحصيلها. ترتكز إلى الخبرات الحياتية العملية لا النظريات الفكرية، والفجوة فيها يمكن تجاوزها. أقصد الفجوة بين المتقدم والمتأخر، كما أصبحت مراكزها متعددة، ويمكن الوصول إليها بسهولة. تحولت المعرفة من الاعتماد على المقروء فقط فيما سبق إلى تكامل وتعدد وسائطها مع وزن نسبي أكبر للمرئي والمسموع والتفاعلية.

ثالثًا: تدين الطوفان: الاستمرار والتغير

على الرغم من أن هذا القسم من المقال مخصص لدراسة عناصر الاستمرار والتغير في تدين الشباب والشابات العرب؛ فإنني أحب أن أؤكد أنني لست ممن يتبنون فكرة التجاوز والانقطاع في فهم الواقع العربي. كاتب هذه السطور ينتمي إلى مدرسة تؤكد على فكرة التحول في الفترات الانتقالية التي تتضمن التجاور والتعايش والتداخل في أحيان بين القديم والجديد وبين الظواهر المختلفة؛ بمعنى أننا بإزاء أنماط تدين متعددة تتفاعل فيما بينها نتيجة اتساع المجال الديني نحو مجال ديني إسلامي تعددي حر ومستقل بالتعدد والتنوع.

وعلى الرغم مما بذل من جهد على مدار العقد الماضي من محاولات للسيطرة والتحكم في المجال الديني من قبل بعض الأنظمة والمؤسسات، فإن هذه الجهود باءت بالفشل لأسباب ليس مجال الخوض فيها في هذا المقال.

تديّن الجامعيين من شباب وشابات ما بعد الربيع العربي ذو طبيعة فردية، نواته الصلبة لا تتكون بالتنظيمات؛ وإنما بشبكية التفاعلات وكثرة المبادرات التي يجمعها – كما رصدت دراسة من يملأ الفراغ – علم شرعي وتصوف عاطفي، وتتشكل ملامحه على السوشيال ميديا وبالممارسة العملية لا الخطاب الأيديولوجي، ويتميز بحضور نسائي طاغٍ، وموقفه من السياسة لم يتحدد بعد؛ وإنما ترسمه السياقات وتطورها.

تساعدنا مقابلات الهاشمي على إعادة فحص مدى الاستمرار والتغير في هذه الخصائص والسمات، وكيف تشكلت في ضوء الطوفان. ومن أبرز هذه الملامح:

1- الفردية في مقابل الجماعية

برغم محاولة خلق هوية جماعية لهؤلاء الشباب لتلعب دورًا كمحضن آمن لهم في ظل ضغوط مجتمعية متعددة، فإن هذه الهوية يرسم ملامحها الفرد من جهة القبول بها، أو الانسحاب منها.

فردية التدين لا تتأتى فقط من اختفاء الإطار التنظيمي الذي يربط الفرد به لسنوات طويلة ويلعب دورًا محوريًا في تشكيل عقليته ووجدانه، ورسم ملامح علاقاته بمجتمعه الخاص والعالم من حوله؛ ولكن الفردية تتمثل في تعدد مصادر التلقي وتنوعها وتجاورها برغم ما بينها من تمايز واختلاف وأحيانًا تضاد.

ترسم العلاقة مع مصادر التلقي باختيار الفرد أولًا واستشعاره بالراحة لها فيستمر، ويغذي ذلك ما أطلق عليه أحد الباحثين ظاهرة “إسلاميي الإنفلونسرز” التي يُعاد تشكيلها بشكل دائم لارتباطها بطبيعة السوشيال ميديا كما قدَّمنا.

زادت مؤخرًا البرامج العلمية الشرعية الافتراضية، وجذبت عددًا كبيرًا من الشباب، وكانت بمثابة خطوة على طريق محو الأمية التعليمية لديهم، وإن لم تكن هذه البرامج محصورة في بلد بعينه.

وبرغم تأكيد عديد الدراسات على فردية التدين الشبابي في المرحلة الراهنة؛ فإن هذه الحقيقة لا تسعفنا في فهم تعقيد الظواهر وتركيبها، ولا تفتحنا على أسئلة متعددة تتطلب جهدًا مكافئًا يستهدف استكشاف مساحات التقاطع بين الديني لدى الشباب والشابات العرب وبين المجال: المعرفي، والاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، والتنظيمي في العقد الأخير.

مساحات التقاطع هذه تطرح علينا أسئلة كثيرة يجب أن نهتم بها، إذا أردنا تحليل وفهم ظاهرة التدين الشبابي الآن ومآلاته المستقبلية.

أبرزت المقابلات تطورًا مهمًا في علاقة الفردي بالجماعي لدى هؤلاء الشباب. ربما يجد هذا تفسيره في الطوفان، الذي هو بحكم طبيعته فعل جماعي يستند إلى فاعلية الفرد الذي يظهر في كثير من أحداثه ووقائعه، وتمتد تأثيراته لتطال قطاعًا عريضًا من الناس.

برز من خلال المقابلات اتجاه واضح لدى هؤلاء الشباب والشابات للتوازن بين الذاتي والجماعي: الذات حاضرة لا يمكن تجاوزها أو القفز عليها، بحكم مراكمة الخبرات الحياتية والفكرية والعملية، والخوض في تجارب متعددة. برغم هذا الحضور للذات وعدم تماهيها في الجماعي؛ فإنه يتم رؤيتها – أيضًا – في إطار فاعليتها الجماعية.

يبرز في المقابلات جميعًا أصوات أصحابها، ويتحدثون بالإحالة إلى ذواتهم، ولا يتبرؤُون من تجاربهم أو حيواتهم السابقة، وإن بدت موغلة في الكفر أو المعصية والذنوب، وهو ما يمثل درجة عالية من التصالح مع الذات، وقدرة على النقد الذاتي، ورغبة في الانتقال لحال أفضل، مع إدراك للعناصر التي يجب الاحتفاظ بها من تجربتهم السابقة.

تتأسس العلاقة الجديدة مع الدين على الحرية والاختيار والقناعة؛ لا سلطة الشيخ أو المذهب أو التنظيم أو التعاليم والتقاليد الاجتماعية.

مثّل التلقي المباشر من القرآن خبرة مشتركة بين الجميع. تتباين الإجابات والمقاربات والطرق التي أخذها كلٌّ منهم في إعادة تصوره للدين والإيمان، وتجمعهم مركزية العودة إلى القرآن في كل تجربة من هذه التجارب، لكنها مقاربة عملية لا نظرية، بما يذكرك بخطاب سيد قطب (1906-1966) لا مفاهيمه عن الحاكمية والجاهلية.

سلمى التي تنتمي لجيل زد، عندما أرادت أن تصلي ولم تعرف كيف؛ لجأت لأدوات التواصل الاجتماعي: “لقد صليت أول صلاة في حياتي، أنا لا أحفظ الفاتحة! لكني صليت.. فتحت اليوتيوب وقلَّدت ما رأيت! لو تمنيت شعورًا يعم الناس ليعيشوا في سلام فسيكون شعوري بعد أول صلاة!”

سمير – الروائي ذو الـ27 عامًا، لا يزعجه وصف المثلية. يقول: “لا يزعجني أن يمارس الناس حريتهم!”، وإذا وصف بالشذوذ؛ يجيب: “دعني أجيبك بصراحة، أنا مؤمن بحرية الناس في تجاربهم الجنسية”.

اتخذت الجماعية أشكالًا عدة لدى الشباب والشابات: نوال مصممة الأزياء ذات الـ38 ربيعًا – التي هاجرت من أميركا وليس إليها – عادت إلى الإيمان، الذي لم ينقذها شيء سواه، على حد قولها، لكنها عاشت حياة تقشف قاسية. لماذا التقشُّف؟ – يسألها الهاشمي، فتجيب: “مشاركة لأهلي وإحساسًا بهم أولًا، ثم لأن أموالي تذهب لاقتصاد يدعم إبادتنا، شعرتُ بالاختناق، أميركا جزء من الحرب علينا، قررنا المغادرة، لا يستحقون دولارًا واحدًا منا”.

هذان مجرد مثالين من أمثلة عديدة تمتلئ بها المقابلات، يبحث فيها أصحابها عن دور مستقبلي لمواجهة تداعيات الطوفان، ولكن مع تأكيد للذات لا إنكار لها.

2- اللاأيديولوجيا

تتبدى اللاأيديولوجيا في جميع المقابلات تقريبًا، سواء بإدراك خطأ مساواة الإسلام بالأيديولوجيا، أو برفض الأيديولوجيات السياسية والفكرية التي لم تستطع أن تقدم إجابة عن تحديات الواقع، في حين نجح الطوفان في التعامل مع أسئلة هذا الجيل وإحباطاته، وكأنه صُمم للإجابة عن أسئلة هذا الجيل، كما ورد في إحدى المقابلات.

جرى إعادة اكتشاف معاني الدين من خلال الممارسة الواقعية لا التجربة النظرية. استعادة التدين جاءت بفعلٍ لا بخطاب ديني جديد أو اكتشاف للقديم، فلا حديث عن أطروحات الدعاة الجدد أو المجتهدين العظام ولا مقولات الإسلام السياسي العامة الفضفاضة، بل عن فعل حماس وصمود المقاومة.

يجري البحث عن خطة عمل، لا تحليل وتنظير لفهم الواقع.

يقول نديم الذي ترك حماس منذ سنوات مخاصمًا: “عاد عليّ سؤال السياسة بالاكتئاب، كل ما يقوله لنا مفكرونا في تفسير الواقع وإيجاد حلول لا أثر له، وكأن خلاصاتهم معطوبة”. يضيف: “إلى أين أنتمي؟ سألتُ نفسي، إلى مشروع فكري لا يستطيع أن يؤثر في الواقع ولا تبدو له جدوى. كنت أرى نفسي جنديًا، ليس هناك مكان لهذا الجندي. المشروع القومي وأدبيات التحول الديمقراطي ليس لهما أفق!”.

ديمة – إقطاعية غزة ذات الـ32 عامًا – تعيد اكتشاف الدين من مداخل عديدة: “رأيت وجهًا آخر من التدين أو الدين في المقاومة، كما رأيته في خُطة العمل كما رأيته في المقاومين أو التربية ومحاضنها التي أنشأت المقاومين أو في ذاتي”.

توقفت العقائد والأطروحات السياسية والأيديولوجية عن العمل، وقدَّم الطوفان – في تقدير هؤلاء الشباب – خطة العمل، ولكن لا أدري إن قدَّم الأطروحة السياسية والفكرية التي استند إليها أم لا؟

تقول سلمى التي تنتمي لعرب الداخل وفلسطينيي 48: “على المستوى النفسي، كل ما كنت مسلحة به فكريًا خذلني، تربية مخيمات التجمع الوطني الديمقراطي، وهو حزب يعرّف نفسه كحزب فلسطيني، ويعرف فلسطين بحدودها التاريخية، ويدعي أن ثمة طريقًا في المواءمة بين المواطنة الفلسطينية والديمقراطية الليبرالية والقومية العربية.

كان من المفروض أن الترسانة الفكرية للحزب تجيبك عن كل ما يحصل. بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول توقفت هذه العقيدة عن العمل، رأينا الديمقراطيات كيف تعمل، والليبراليين كيف يتحدثون وكيف تعالج الليبرالية هذه المسائل”.

ينتفي الإسلام كأيديولوجية، لا تسمع عنه في المقابلات، هو ذو أبعاد غيبية لها تأثير في عالم الشهادة، أو من طبيعة روحانية، أو نموذج عملي يمكن استعادته، أو له حضارته المتميزة عن الحضارة الغربية.

تقول سلمي التي لم تتعلم شيئًا عن الإسلام من قبل: “أكبر خطأ وقعنا فيه، أننا قدمنا الإسلام على السويّة مع الأيديولوجيات الأخرى، الإسلام أكبر! لم ينقذني أي مفهوم للإله سوى الإله بالمفهوم الإسلامي”.

تضيف: “بعد الأحداث دخلت في حالة تشبه الاكتئاب؛ وكنت بين خيار الانتحار، أو أن أصبح أسوأ شخص في العالم” [ أي بعدم اكتراثها لما يحصل لأهلها ] “، الإله بالمعنى الإسلامي، هو الذي منحني الراحة!”. تضيف: “لقد تغيرت قناعاتي؛ أصبحت أعالج الأمور “بسوفت وير” مسلم، لا الليبرالية ولا الاشتراكية، دينكم هذا فيه كل شيء، لا تَستشكل شيئًا إلا ووجدتَ له جوابًا”.

أخيرًا؛ فإن المقابلات خلت تمامًا من ذكر الشريعة، وإن احتوت مفاهيم غامضة حول الكفر والإيمان والولاء والبراء والأمة.

“لماذا لهم وزن وليس لدينا وزن؟ ما الذي ينبغي أن نعمله للأمة؟ لقد طفا سؤال الأمة في ذهني، أول شيء فكرت به مسألة الولاء التجاري، لا بد أن يفيد بعضنا بعضًا، هم يدعمون بعضهم، حتى لو كانت سلعته أقل جودة، لا بد من أن نوالي بعضًا تجاريًّا، والجودة ستأتي لاحقًا، ليش “محدّش” عمل لنا حسابًا، لازم نعمل مشاريعنا، برجر، وأحذية، كنا معتمدين عليهم، فاتحين لهم بيوتهم. آن الأوان أن نتحمل مسؤوليتنا كأمة” – هكذا تحدثت نوال التي تعمل في البيزنس وهاجرت من أميركا وأسرتها لتحقيق معنى الولاء والبراء عمليًا.

تعني اللاأيديولوجيا غياب الحديث في الشريعة وسط هؤلاء الشباب والشابات، وبرغم إشارة دراسات سابقة لحضورها بين متديني ما بعد الانتفاضات من الشباب والشابات فإنه غير واضح ما الذي يعنيه حضور الشريعة بينهم: فهل لا تزال مرجعيتهم الأساسية، وكيف يفهمونها؟ وما علاقتها بالواقع الذي يعيشون فيه؟

يظل الانطلاق من مرجعية الشريعة أساس التمييز بين إسلامي وغير إسلامي. فهل لم يستطع هؤلاء الشباب تجاوزها وإلا فقدوا معنى الانتماء للإسلامية، أم أعادوا اكتشافها وتعريفها متحررين من الأيديولوجيا التي يقدمها البعض نحو النفع والعملية فيأخذون ما يفيدهم منها في حياتهم؟ – أسئلة تستحق المتابعة.

3- منزع هُوياتي واضح

برغم غياب الأيديولوجيا فإن المتأمل في المقابلات يلحظ أن “ثمة حالة هُوياتية ظاهرة، وهو يشبه ما رصدته دراسات سابقة واستطلاعات للرأي أكدت أن الدين محدد أساسي من محددات الهُوية عند الشباب العربي”.

تتبلور الهوية بالممارسة الحياتية اليومية وليس بالتلقين الأيديولوجي، لذا كان الطوفان مهمًا باعتباره عملًا واقعيًا من أمة محاصرة.

يبدو أن التشابه في الانتماء أو هذه الحالة الهوياتية بين هؤلاء الشباب والشابات يتمثل بصورة أساسية في أنه يتم بناؤها عبر الممارسات اليومية، وليس نتاج عملية التلقين التي تقوم بها التنظيمات أو بين طلاب العلم الشرعي، بالإضافة إلى السوشيال ميديا، وما توفره من سهولة التواصل اللحظي، وما تتيحه كذلك من تواصل مع المرجعيات أو الرموز المختلفة؛ وكل ذلك ربما يؤدي بدوره إلى تحويل هذه الظاهرة والعشرات من أتباعها إلى ما يمكن اعتباره “تيارًا عامًا”، يمكن تتبع سماته وأشكال الانتماء إليه.

يتم تفسير الإيمان بطريقة عملية لا فكرية، تبرز وظيفته الشخصية الواقعية، والكفاحية في مواجهة الواقع.

سمير، الذي يحمل المصحف بين ذراعين موشومين، وكان ذا ميول مثلية، يرى فائدة الإيمان الذي زاد لديه بعد الطوفان: “يشعرك بدرع رباني عندما تخرج في المظاهرات، يعطيك الإيمان حصانة ويلغي [مِن] أمامك الخوف من النهاية”.

هذا المنزع الهوياتي يؤدي إلى إعادة اكتشاف الذات والآخر الغربي، وتمتد تأثيراته لفهم التجربة التاريخية للمسلمين في مواجهة الخبرة الحضارية الغربية، كما يساعد في تقديم إجابات عن الأسئلة العملية. يملك الدين عند هؤلاء الشباب والشابات قوة تفسيرية لما يعايشونه من واقع وأسئلة وتحديات.

وفاء – التي كانت تنفر من المتدينين وكانت على أعتاب الإلحاد – تكره سورة الأحزاب لما فيها من تقييد للنساء على حد قولها؛ عندما تعرضت لسؤال تربية أبنائها كانت الإجابة: “هزّني سؤال التربية؟ على أي قيم سأربي ابني؟ حينها سافرت إلى إسبانيا للسياحة، ورأيت وجهًا من حضارتنا المشرقة؛ نحن ابن صغير لأب ضخم، هكذا شعرت وأنا أتجول في غرناطة وقرطبة، عرفتُ أني سأربي ابني على قيم هذا الدين، الذي ترك أثرًا خالدًا في القيم والتسامح”.

يجري رسم ملامح الهوية من خلال اكتشاف الذات في مواجهة الآخر الداعم لإسرائيل في عدوانها، لذا فقد قدمت سورة الأحزاب التي باتت تحبها وفاء تفسيرًا لما يجري في غزة من إبادة: “ثم لما جاء الطوفان واتفق العالم على إبادتنا كانت هي أعظم نص لشرح حالتنا مع الأعداء والمنافقين، أصبح القرآن يتحدث إلينا! بعد الطوفان، حفظنا آيات سورة الإسراء، وآيات المنافقين وعلقناها في الدار، هل تصدق إذا قلت لك: صار لبس النقاب على قلبي زي العسل؟”.

تقول فاطمة – التي تزوجت أميركيًا أسلم، وتعيد اكتشاف الإسلام من خلال نظرته، وكانت تعمل كوسيط بين رجال الأعمال الأميركيين، وأغلبهم يهود، وبين نظرائهم من السعوديين: “صقلني الطوفان فكريًّا، صرتُ كافرة بكل شيء غربي، المواطنة العالمية والانفتاح أصنام عبدناها، وهدمها الطوفان، لا يسير العالم بالتفاهم، العالم يسير بالمركز والهامش، هكذا كان وهكذا سيبقى، الفارق بيننا وبينهم أننا حين كنّا مركزًا لم نلغِ الهوامش كما يفعلون هم. السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، قدم نموذجًا على قدرة الهامش على مزاحمة المتن”.

4- التفاعلات تتم بطريقة شبكية لا مركزية

وهي سمة تجلت في المبادرات الكثيرة التي أطلقها الشباب والشابات بعد الانتفاضات العربية، وقد تفرعت لتنشأ من رحمها مبادرات أخرى، وهكذا تعددت الأطر التي يتفاعل من خلالها الشباب والشابات، كما انتقلت الفعاليات إلى خارج المدن الكبرى، لتعم جميع الأنحاء على المستويين: المحلي والجهوي.

صعدت مع الانتفاضات نماذج بديلة دينية وثقافية أصبح لديها سمت خاص مخالف لسمت التنظيمات الإسلامية، وبات لها – مع الوقت – أثر كبير في ممارسة بعض الأدوار التي كانت تقوم بها الجماعات قديمًا، وذلك كله دون التحول إلى تنظيم صلب.

ثمة ملاحظة أخرى بين المنتمين إلى هذا النوع من التدين على اختلافهم، وهي التنوع الواسع بين الشباب داخل هذه الأماكن، فليس جميع المنتمين على درجة فكرية واحدة يمكن تسميتها بـ “الأفكار الإسلامية” الأساسية أو الكبرى؛ وإنما يختلف هذا القدر من شخص لآخر، بل يختلف من كيان إلى آخر.

وهو ما يجعل البعض يميل إلى مكان بعينه وينفر من مكان آخر، بناء على الشخصية التي يحددها هو، ويصبح الانتماء هنا مؤقتًا وليس أبديًا كما في الانتماء للجماعات، ومتحولًا بشكل مستمر.

خلت المقابلات تمامًا من أية إشارة إلى تأثير التنظيمات الإسلامية في استعادة الإيمان أو التحول نحو التدين؛ بل امتلأت بنقد ممارسات هذه التنظيمات، خاصة في شقها الوعظي. قُدم الدين عندها من خلال تقييد سلوك الإنسان وبطريقة تدعو إلى تنفير شباب وشابات تربوا على الحرية والانطلاق.

يلاحظ بوضوح في مقابلات الهاشمي أن المدخل الأساسي لاستعادة التدين هو روحاني أساسًا، وهو ما يفسر انتشار التصوف العاطفي، خاصة وسط الفتيات، كما رصدته زينب البقري في دراستها.

5- المتدينون الجدد وسؤال السياسة

المقصود بالسياسة هنا ما يتعلق منها بالسلطة العليا في الدولة تغييرًا أو تقييمًا أو ضغطًا لتبني قرارات أو سياسات بعينها، وليس السياسات الصغرى المعنية بتغيير المجتمع، وتقديم الخدمات للمهمشين والضعفاء، وإلا فإن السياسة بالمعنى الأخير حاضرة بقوة وسط الشباب والشابات العرب بعد الانتفاضات العربية.

من الملاحظ وفق هذا التعريف: ضعف سؤال السياسة لدى الشباب والشابات المتدينين، خاصة أن هذه الظاهرة تشكلت في موجتها الأولى – أي بعد الانتفاضات العربية كرد فعل على فائض السياسة عند الإسلاميين – وطبيعة ممارساتهم فيها.

تعمق التراجع عن السياسة بعد تعرض الموجة الأولى 2011/2010 من الربيع العربي للانكسار، وزادتها الموجة الثانية 2019/2018 وضوحًا نتيجة اندلاعها ضد الإسلاميين الذين كانوا فيها في الحكم كالسودان، والعراق، ولبنان وإلى حد ما الجزائر.

تدلنا خبرات سابقة أن الحدود الفاصلة بين الانسحاب من السياسة أو العودة إليها ترتبط بتغير السياقات. الطوفان له سياقات متعددة وليس سياقًا واحدًا، لكنه في جوهره فعل سياسي بامتياز. هو يمثل لدى هؤلاء المتدينين الجدد استعادة للسياسة، وتأكيدًا لدورها المستقبلي، وإن تنوعت وتجددت مداخلها.

الطوفان يؤكد قدرة قضية فلسطين على استعادة السياسة الكبرى، وصياغة الاستقطابات الفكرية والسياسية في المنطقة، والمفاصلة حولها.

وبرغم أن الطوفان مثل لحظة مهمة لاستعادة السياسة لدى هؤلاء الشباب والشابات بالمعنى الذي أشرت إليه؛ فإنه يُلاحَظ عددٌ من النقاط:

  • غياب الخطاب الحقوقي من المقابلات جميعًا، على الرغم من أنه أحد الأبعاد الرئيسية للتفاعل مع الطوفان. اكتسب الخطاب الحقوقي قوة دفع كبيرة لمواجهة الإبادة الجماعية لأهلنا في فلسطين، كما ظهر في مظاهرات الطلاب بالجامعات الأميركية، ومحكمة العدل الدولية وكذا المحكمة الجنائية.
  • ولأننا في بدايات التحول للتدين – البدايات تتصف بالاشتعال – ونعيش المأساة في فلسطين ونشاهد صورها على مدار اليوم، فالحسم والوضوح والانفعال في الموقف ظاهر جلي في المقابلات، لذا يصبح التساؤل مشروعًا حول: مآلات هذه الظاهرة وإمكانية تحولها نحو الراديكالية السياسية أو اختطافها بالتطرف الديني المسلح، خاصة أن نهايات الحرب على الفلسطينيين حتى الآن غير واضحة.

قد يساهم في هذا انسداد الأفق السياسي في بلدان المنطقة، ومصادرة المجال العام في كثير من دولها، والربط الذي بات واضحًا بين خذلان الحكام العرب للفلسطينيين، وبين تدهور مستويات المعيشة لكثير من مواطني الدول العربية.

بالطبع، يمكن مناقشة: إدراكهم لمسألة العنف والاستجابة الجهادية، وموقع التغيير الثوري من تفكيرهم بعد ما جرى في الطوفان من خذلان الحكام للفلسطينيين وعجز الشعوب عن نصرتهم.

وأخيرًا وليس آخرًا؛ فقد أثبت هذا الجيل قدرة فائقة على الإبداع في ممارسة السياسة من مداخل جديدة غير ما اعتدنا عليه. تحدى السرديات الإسرائيلية، وقدم المقاطعة كفعل مقاوم ربط فيه بين نمطه الاستهلاكي وبين السياسة، وساعد في جمع التبرعات للفلسطينيين.

هذه الممارسات جزء من ظاهرة أكبر أطلقت عليها في مقالات سابقة “ما بعد السياسة” أو “السياسة الصغرى” كما قدَّمت، لكن تظل قدرتها على التحول نحو تغيير السلطة العليا في الدولة قائمة كما جرى في كينيا، وبنغلاديش، والسنغال مؤخرًا.

Share: