أصاب الفيروس المنطقة وهي تتأرجح بالفعل تحت وطأة الصراعات المسلحة والحروب الأهلية ، والاضطراب الاجتماعي وعدم الاستقرار السياسي ،والمشاكل الاقتصادية. بالإضافة إلي توزع دولها وقوي دون الدولة علي محاور استقطاب متعددة.
نحن ندرك أن الجائحة لحظة كاشفة لمجمل أوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية وليست الصحية فقط ،لكنها في نفس الوقت تؤدي إلي تسريع العوامل والديناميكيات الكامنة والظاهرة وتدفع إلي التفاعل بأشكال وصيغ جديدة ؛فعلي حد قول أحد الباحثين:”فهي تظهر التطرف في كل شيئ ” ، ويتسرب تأثيرها إلي المجالات كافة.
التفكير في تداعيات الفيروس علي المنطقة تحكمه عدد من القواعد أهمها:
١-ليس من الواضح حتي الآن متي وأين سيكون الفيروس أشد وطأة ،وكيف ستتفاعل العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لإثارة الأزمات أو تفاقمها. لكن يظل من محددات النظر مدي التفشي وكيفية إدارته.
٢-الأماكن التي يتقاطع فيها التحدي الصحي مع الحروب أو الأوضاع السياسية مثل المؤسسات الضعيفة والتوترات المجتمعية ،وانعدام الثقة في النظام السياسي ،والدول الضعيفة والهشة ،وتشهد تنافسات القوي العظمي والإقليمية ؛ يمكن أن يؤدي إلي أزمات جديدة أو يفاقم الموجود منها.
٣-ليس من المضمون أن تكون عواقب الوباء سلبية بشكل كامل ،أو موحدة في كل مكان أو صعيد. فقد أدت الكوارث الطبيعية في بعض الأحيان إلي الحد من الصراع ؛بحيث كان علي الاطراف المتصارعة العمل معًا ،أو علي الأقل الحفاظ علي الهدوء للتركيز علي معالجة تداعيات الجائحة.بل يزعم أحد المؤرخين أنه كلما غلب التشاؤم كلما قلت الحروب ، وكلما زاد التفاؤل بالمستقبل زادت الحروب.
وهناك اتجاهات متباينة في هذا الصدد :فبعض الحكومات تعمل علي تخفيف التوترات والصراعات مثل الحالة اليمنية ،والكيان الصهيوني والسلطة الفلسطينية وحماس ،وبعض دول الخليج وإيران ، ومن المحتمل أن يؤدي الوباء إلي تفاقم بعض الصراعات مثل حالة ليبيا ،وقد تستغله بعض الأنظمة في الداخل للفتك بالمعارضة أو زيادة تسلطها أو اثارة الاستقطابات للتغطية علي تداعيات الفيروس.
٤-الشهور القادمة ستكون محفوفة بالمخاطر بشكل كبير لأسباب متعددة ،فقد تداعت العوامل علي المنطقة كما تداعي الأكلة إلي قصعتها؛فقد تزامن مع الجائحة انهيار أسعار النفط ليفاقم من التأثيرات علي منطقة لم تشهد استقرارًا من عقد من السنين.
إلا أن التأثير سيتفاوت من دولة لأخري ؛فبعض الدول التي تمتعت بإستقرار نسبي أو إمكانيات
مالية ضخمة قد تكون مهيأة بشكل أفضل للتعامل مع تفشي المرض ،ولكنه في بعض الحالات قد يكون الاستقرار هشا ،وحتى في الدول الأكثر ثباتًا مثل المغرب فإن اندماجها في السوق العالمي قد تزيد من تداعيات الفيروس عليها.
٥-إن التداعيات ستكون خطيرة بشكل خاص بالنسبة لأولئك الذين يقعون في خضم الصراع ،فهو يعطل المساعدات الانسانية ،ويحد من عمليات السلام ،ويؤخر أو يصرف أطراف النزاع عن الجهود الناشئة أو الجارية ،ويمكن للقادة عديمي الضمير أن يستغلوا الوباء لتعزيز اهدافهم بطرق تؤدي إلي الأزمات المحلية والدولية وزيادة الاستقطاب الداخلي أو تصعيد الصراع مع الدول الاخري لتخفيف الضغوط الداخلية ،أو استغلالها لانشغال المجتمع الدولي.
وإذا قدر لنا الحديث عن المنطقة في زمن الكورونا ؛ فإنه يمكن الإشارة إلي مسارات خمسة من خلالها يمكن فهم تأثير الفيروس علي صراعاتها:
أولًا :عقد من الربيع العربي
يحاول البعض إلصاق عدم الاستقرار وتصاعد الصراعات إلي حقبة الربيع العربي ؛ففي رأيهم أنه قوض الاستقرار السياسي والاقتصادي في عدد من الدول ،وأشعل حتي الآن ثلاث حروب أهلية ، وترك ١٠ملايين لاجئ معظمهم في سوريا ولبنان والأردن وتركيا.
هذا الحديث يغفل عددًا من الاعتبارات :
١-ضرورة التمييز بين جوهر الربيع العربي وبين عدم القدرة علي إدارة مقتضيات الفترات الانتقالية.
الربيع العربي في موجتيه تطلع الشعوب العربية وخاصة الفئات الشابة منها للحرية والعدالة الاجتماعية والحكم الرشيد ،واحتجاج علي الفساد وسوء توزيع الدخل. هو تعبير -من وجهة نظري – عن تحول تاريخي في المنطقة يعلن نهاية الصيغ القديمة في السياسة والثقافة والاجتماع ،وبحث عن جديد لم يتبلور بعد،هو إعلان عن نهاية حقبة وبداية حقبة جديدة ،فالمنطقة تعيش في طور انتقالي بين الحقبتين :القديم مرتحل والجديد لم يتمأسس بعد ،ومن ثم فنحن نعيش مرحلة خلو العرش بتعبير زاجموند باومان في كتابه: “الحداثة والهولوكوست”
أما الفشل في إدارة الفترات الانتقالية فحدث ولا حرج ومن كل الأطراف؛قوي التغيير لم تدرك طبيعة الزمن الانتقالي فلم تسع إلي بناء التوافقات فتعض عليها بالنواجذ ؛فنجاح مسار بعد الثورات لا يعد دائما أمرًا مؤكدًا ،وأحد محددات تحقيق الثورات أهدافها هو كيف تتصرف نخب التغيير.
وقوي الثورة المضادة- وطنيًا وإقليميا- حركتها ولا تزال مصالحها الضيقة الآنية فأشعلت الصراعات في كل ركن.
٢-تأتي الجائحة متفاعلة مع نزاعات الفترات الانتقالية التي عادة ما تسودها الهواجس والمخاوف لا الحقائق والوقائع؛ ومن ثم فلا قدرة علي بناءالتوافقات المرحلية أو القطع مع الممارسات السياسية التي سبقت التغيير.
ما يميز الفترات الانتقالية هو انبعاث التناقضات المسكوت عنها ؛حين يتصاعد الجهوي /المحلي ،والاثني ،واللغوي ،والطائفي ،والمذهبي والديني ،بالإضافة إلي المطالب الاقتصادية والاجتماعية ،ومن دون تطوير اقترابات واقتراحات جديدة للتعامل مع هذه التناقضات فسيكون تحقيق الاستقرار أمرًا مستحيلًا.
كما تتسم الفترات الانتقالية بطرح سؤال الهوية الوطنية ، وقد أجمعت الدراسات أنه لا نجاح لتحول ديموقراطي دون التوافق علي هوية وطنية جامعة ،ومع قناعتي أن الانتفاضات الديموقراطيةالعربية سوف تساهم في بلورة الهوية الوطنية كما يجري في لبنان والعراق ،إلا إنه يجب أن نكون متنبهين لاستخدام معارك الهوية لتبرير الصراع السياسي وكذا محاولة بعض الهويات الفرعية الهيمنة علي المشهد السياسي مثل أكراد العراق أو شيعة لبنان أو مسيحيي مصر أو سنة البحرين ؛ساعين لتحقيق بعض المكاسب الجزئية علي حساب بناءالهوية الوطنية الجامعة. وفاقم الأمر ؛ انبعاث الوعي بمشاريع متناقضة تثير حماسة جهات معينة وهواجس فئات اخري مثل الحديث عن المشروع الإسلامي أو العثمانيةالجديدة أو الهلال الشيعي.
في الفترات الانتقالية التي تتحرك عليها تداعيات الفيروس تهيمن الهواجس علي الجميع لذا فلا حكم إلا بالتراضي ،ويجب أن تكون هناك دائما سياسات وخطابات الطمأنة لمواجهة الشعور بعدم الأمان علي المصالح ؛مصالح الدول والفئات الاجتماعية ،والهوية ،والقوي السياسية والحزبيةالاضعف.
يتسم الطور الانتقالي العربي بأن الدولة باتت محل تساؤل بحيث يصير من المطلوب بنائها بإعادة التفكير فيها ؛فالتحدي الأساسي الذي تواجهه الجماعة الوطنية في كل قطر عربي هو إحداث تحول ديموقراطي ذا جوهر اجتماعي ؛أحد شروط نجاحه إعادة بناء الدولة ولكن من خلال طرح صيغ جديدة لإعادة البناء،فقد إانتهت صيغة دولة ما بعد الاستقلال. ويجري ذلك في ظل تحلل لمفهوم الدولة في مخيال المواطن العربي وتبديد للرأسمال التاريخي الذي إنجز علي مدار القرن الأخير في بعض الأقطار والذي سمح بإنشاء عدد من المؤسسات ذات التقاليد الراسخة التي سمحت بقيام الدولة بأداء وظائفها باستقلال عن توجهات النظام السياسي ؛بحيث بتنا الآن أمام معضلة تصيب كل الدول العربية وهي أن استمرار الدولة مرهون باستمرار النظام السياسي الحاكم، خاصة في ظل تحلل الدولة الوطنية إلي عناصرها الأولية من طائفية وقبلية وإثنية وجهوية ومذهبية.
ثانيا :طبيعة نزاعات المنطقة:
تتقاطع صراعات المنطقة مع تعقد الوضع حيث تتعدد أنواع الصراع بين الجهوي والوطني والإقليمي بل والدولي ،وتتعدد مجالاته بين السياسي والاجتماعي الاقتصادي والثقافي،وتتشابك العوامل الدافعة له ،ويكثر اللاعبون المنخرطون فيه.
ويمكن الحديث عن عدد من السمات لصراعات المنطقة(انظر تفصيلا لذلك في تقرير مجموعة الأزمات حول الأمن الجماعي أبريل ٢٠٢٠):
١-القابلية للانفجار غير المقصود ،ففي الوقت التي أظهرت فيه أحداث ٢٠١٩[ضرب أرامكو والتحرش البحري في الخليج ] مخاطر اندلاع صراع غير مقصود ،فليس هناك رغبة عند أي من اللاعبين الأساسيين في أن يبدأ حوارا مع خصومه ،لذا فإن الصراعات تكون اكثر حدة.
٢-تعدد اللاعبين وتشظيهم السياسي ،فالمنخرطون في الصراعات دول في الإقليم ومن خارجه ،وقوي إقليمية وأخري عظمي ، أما القوي دون الدولة فهي كثيرة ومنقسمة علي نفسها وتتقاطع تحالفاتها وتتباين فيما بينها ،وبعضها أقوياء تصرفوا كأنهم دول حين اتخذوا مظاهر سيادية تشبه الدول.
إن إضعاف الدولة العربية وتنامي عدد من اللاعبين دون الدولة يعطل أية جهود لتحقيق الاستقرار ،كما يصبح ما من جهة واحدة تحتكر العنف داخل حدود جغرافية محددة ،كما إن تدخلات العواصم الإقليمية في الصراعات قد غيرت في بنيتها .
٣-الصراعات حزمة واحدة ،فالتداخل بين صراعات مختلفة سواء علي الأرض أو في تصورات الأطراف المختلفة يزيد من صعوبة معالجة الصراعات منفردة.
٤-غياب وسيط قوي يتمتع بنفوذ حقيقي يمكنه من لعب دور المحكم بين الاطراف المتنازعة ،ويتواكب مع ذلك محدودية الأدوات المستخدمة في احتواء الصراعات ومن ثم منع تصعيدها.
ثالثًا :نقطة تحول في علاقات القوي العظمي في المنطقة
في غياب استراتيجية وسياسة أمريكية واضحة أصبحت المنطقة اكثر خطورة ،ويبدو أن العزم الأمريكي لضمان الأمن والاستقرار آخذ في الانخفاض، وتحاول روسيا أن تملأ الفراغ الذي خلفته أمريكا إلا أن قدراتها تقصر عن ذلك ،أما الصين فتركز علي تراكم النفوذ الاقتصادي فقط ،والأوربيون نفوذهم يتقلص لذا فيبدو أنهم غير مهيئين لعلب دور أساسي في المنطقة.
تتضاءل الإرادة السياسية في واشنطن مع ترامب للانخراط في المنطقة ،وقد بدأ بعض قادة المنطقة في مواجهة ما قد يبدو عليه مستقبلهم
بدون قيادة أمريكية واضحة ،ورغم هذا التوجه الا أن احتمالات المستقبل تظل مفتوحة مع إحتمال مجيئ بايدن إلي البيت الأبيض مطلع العام المقبل ؛فقد نشهد تعاظمًا للدور الأمريكي في المنطقة مرة أخري.
يختلف نهج روسيا بشكل كبير عن طريقة الولايات المتحدة ،فهي تفضل الحفاظ علي علاقات متوازنة مع جميع الاطراف الفاعلة في الإقليم بغض النظر عن مواقفها تجاه بعضها البعض ،وهذا يحفز كل دولة علي مواصلة العلاقات مع روسيا بغض النظر عن علاقات روسيا مع منافسيه. نهج روسيا الحالي في المنطقة هو التعاون بين الحكومات القائمةوالوساطة بينها في نزاعاتها ،ويمتد هذا الدور إلي النزاعات الأهلية أيضا.
وقد نجحت موسكو في جعل من المستحيل اجراء مفاوضات أو اتخاذ أية خطوات لإنهاءالصراع دون مشاركتها؛ وفي بعض الأحيان دون قيادتها. حاولت روسيا تصوير نفسها كوسيط قوي ملتزم بالحفاظ علي استقرار المنطقة ،ونجحت في جعل من المستحيل حل العديد من الأزمات دون تدخلها ،ومع ذلك من غير الواضح ما إذا كان بوسعها أن تفي بوعودها لضمان الاستقرار في المنطقة. وبغض النظر عن سمسرة موسكو في عمليات السلام ؛ فهي لا تمتلك القدرة للقيام بذلك :فهناك حدود علي دورها يتعلق بقدراتها الاقتصادية خاصة بعد انهيار سعر النفط وصعوبات إدارة تفشي الفيروس ،كما أن المخاوف الجيوسياسة الأكبر لها في اوراسيا قد تحول أنظارها عن المنطقة.
وبالتالي ينظر إلي روسيا علي أنها وسيط قوي ،في حين أن قدراتها الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية قد تحد من إمكانياتها علي الوفاء بهذا الدور. وينظر إلي الولايات المتحدة علي أنها تقلص من التزاماتها في المنطقة برغم من استمرار المصالح والقدرة الفائقة لضمان الأمن الإقليمي ،وفي نفس الوقت لا تنوي روسيا التخلي عن مكاسبها التي حققتها حتي الآن ،إلا أن القيود الموجودة في المجال الاقتصادي والدبلوماسي تؤخر أو تعترض مزيد من التقدم.
وهناك ملمح استجد مع الفيروس وهو أنه إذا استمرت الصين والولايات المتحدة في إلقاء الطين علي بعضهما البعض بشأن المسئولية عن تفشيه ؛فسيؤدي ذلك إلي تفاقم التوترات في مناطق أخري أيضا ،كما أن المؤشرات تدل علي زيادة التنافس بين الولايات والصين بما سيكون له تداعيات علي المنطقة التي تمثل الصين لها الشريك التجاري الأول ؛ في حين تمثل الولايات المتحدة الشريك الاستراتيجي والأمني الأول.
ومع الفيروس ستصبح القوي الدولية أقل قدرة علي الوساطة أو فرض ديناميكيات محددة في المنطقة مما يمنح القوي الإقليمية هامشًا أوسع للتصرف.
رابعًا :أمن جماعي أو موت جماعي
حمل التقرير الأخير(٢٧أبريل ٢٠٢٠) لمجموعة الأزمات الدولية عنوان :”الشرق الاوسط بين الأمن الجماعي أو الانهيار الجماعي” ،ويخلص في نهايته إلي :
“مع تنامي المخاطرة بحدوث مواجهة عسكرية في الخليج، من الضروري إيجاد السبل لخفض تصعيد التوترات. إن التهديد الرئيسي الذي تواجهه المنطقة اليوم ليس حرباً تختارها بقدر ما هي حرب غير متعمدة تنتج عن خطأ في الحسابات، أو سوء تفسير أو غياب التواصل في الوقت المناسب. لقد أتقن اللاعبون في الشرق الأوسط لعبة حافة الهاوية إلى حد اللعب مباشرة على الحافة. وقد كانت النتيجة تمزق الخيط الذي يفصل بين الحرب واللا حرب.”
ويختتم التقرير بهذه العبارة الموحية:”قد يكون لحوار إقليمي جماعي شامل يهدف إلى تخفيف حدة التوترات فرصة ضئيلة في النجاح. لكن في الظروف الراهنة، سيكون من قبيل انعدام المسؤولية عدم المحاولة.”
وبرغم أن التقرير يركز اهتمامه علي الأمن في منطقة الخليج أساسًا حين يجعل من إيران المحور الذي تدور عليه التوترات والنزاعات في المنطقة ،إلا أن الكامن الذي يجب إلتقاطه من بين ثنايا التقرير أن المبادرة لحل صراعات المنطقة -التي سبق ووصفنا طبيعتها -هي مبادرة يجب أن تنبع من الإقليم أساسًا ثم تستدعي القوي الدولية لمساندتها ،فمن الملاحظ أنه منذ الربيع العربي وقد تزايد دور دول الإقليم في صنع سياساته وتحديد ملامح نزاعاته في ظل استقطاب تغذيه محاور ثلاث :واحد بقيادة إيران ،والثاني بقيادة تركيا وقطر ،والثالث تقوده السعودية والإمارات ،ويقف الكيان الصهيوني في خلفية المشهد وفي قلبه في أحيان كثيرة. هذه التحالفات لا تقتصر علي الدول بل تمتد إلي قوي دون الدولة مما يعقد الصراع كما أسلفنا،وتستخدم فيه التدخلات العسكرية بكثرة.
ويتوقع البعض أنه مع تضرر الاقتصاد الإيراني بشدة والعقوبات الخانقة وانهيار أسعار النفط ؛فمن المحتمل أن تلجأ ايران إلي زيادة حدةالتوترات في المنطقة معتمدة في المقام الأول علي وكلائها في المنطقة في محاولة لإحراز تقدم علي الأرض لاجبار المجتمع الدولي علي تقديم تنازلات.
المنطقة تعاني من الكثير من الدول والجماعات والقادة الذين هم على استعداد للقتال من أجل مصالح الآخرين، وإذا كانت إيران وتنظيم الدولة الإسلامية والإمارات وقطر قد قلبوا النظام الإقليمي رأسًا علي عقب ، فقد قاموا أيضًا بتضخيم طموحات الآخرين ، وخاصة طموحات تركيا؛ فلدى أردوغان الآن تصاميم على شمال سوريا وشرق البحر الأبيض المتوسط. إن رغبة أردوغان – وهو استبدادي غير عربي – “لتحرير” المجتمعات العربية من إيران – التي هي استبداد غير عربي أيضًا – ،أو الوقوف ضد المحور السعودي الإماراتي ؛ وهو استبدادي يقف وراءه ومن أمامه الكيان الصهيوني ؛ هو وصفة لتفاقم عدم الاستقرار الإقليمي.
خامسا : تداعيات الفيروس:
علي مدار الأسابيع الماضية ناقش المحللون ومراكز التفكير والمؤسسات الدولية تأثير الجائحة علي المنطقة ،وقد أجمعوا علي أن مستقبل المنطقة سيكون أكثر قتامة ، مع تفشي عدم الاستقرار ليطال بلدانًا كانت تتمتع باستقرار. نسبي مثل مصر.
فقد بدأت الجائحة في نهاية عقد من الزمان تميز بالمنافسة المتزايدة بين محاور إقليمية ثلاثة كما قدمنا ،وأزمات سياسية ،وضغوط واضطرابات اقتصادية ،واحتجاجات شعبية ،كما أن تفشي الوباء لديه القدرة علي إحداث الفوضى في الدول الهشة ؛وهي كثيرة في المنطقة ،وإثارة الاضطرابات علي نطاق واسع ،واختبار لقدرات النظام السياسي علي ادارة الأزمات ومدي شرعيته. وتزداد تداعياته خطورة بالنسبة لأولئك الذين يقعون في مناطق الصراع.فالفيروس يضيف أبعادا جديدة لأزمات المنطقة.
حديث التداعيات ينصرف إلي العناصر التالية:
١- الاقتصاد:سترتفع البطالة بمقدار ١.٢ نقطة ويتم خسران ١.٧مليون وظيفة -وفق تقرير الاسكوا ،وسينخفض الطلب المحلي ،وستزيد عودة العمالة من دول الخليج خاصة بعد انهيار سعر النفط ،وسيصير النمو سلبيا (يتوقع خبراء الصندوق والبنك الدوليين نموًا اقتصاديًا سلبيًا بنسبة ٣.٥-٤في المائة في هذا العام )،كما سينضم ملايين أخري الي طابور الفقراء (تقدر الأمم المتحدة أن الجائحة ستصيب ٨.٣مليون شخص جديد بالفقر ،وهذا يعني أننا بإزاء ١٠١مليون شخص علي الأقل فقراء )،وهناك توقع بزيادة أسعار الغذاء وارتفاع للتضخم.
٢-العنف :يمكن أن يضع الفيروس ضغطا كبيرا علي المجتمعات والأنظمة السياسية مما يخلق إمكانية للعنف ،صحيح أنه علي المدي القصير قد يلعب الخوف من الوباء دوره كرادع للاضطرابات الشعبية سواء تعلقا بدور حكوماتهم أو خوفا من التجمعات الكبيرة ،ولكن تدلنا تجربة طرابلس لبنان مارس الماضي أن الهدوء قد يكون ظاهرة مؤقتة ومضللة ،خاصة إذا تفاعل التأثير الاقتصادي الكارثي للفيروس مع أوضاع معيشية كانت بالفعل صعبة لبعض الفئات والمناطق،بالاضافة إلي التفاوتات في الثروة والدخل والفرص.
٣-تكاد تجمع الدراسات علي أن تأثير الفيروس سيكون أكثر حدة وأثره مضاعفا علي الفئات الأكثر ضعفًا وهشاشة في المجتمع مثل النساء والأطفال والفقراء ،بالإضافة إلي مناطق الصراع.
٤-سيزداد عدم الاستقرار في البلدان التي تنخفض فيها الثقة في قيادتها السياسية ،أو تتمتع الحكومات بشرعية مشكوك فيها ،أو لديها تاريخ من التلاعب في الانتخابات ،إلا أن إدارة ناجحة للأزمة وتداعياتها قد تقوي النظام الحاكم وتجدد شرعيته ،وفي المقابل فإن سوء الإدارة قد يؤدي إلي اندلاع احتجاجات شعبية واسعة ،خاصة أن الاحتجاجات التي شهدتها بعض البلدان العربية قبل الوباء كانت تتحرك علي أرضية مظالم اقتصادية واجتماعية وفساد وغياب للحكم الرشيد.
٥-عودة داعش : فقد أكد المتابعون زيادة هجماتها في العراق وسوريا مؤخرا ،وستعمل علي استغلال الضعف والهشاشة والانشغال لزيادة نفوذها ،وكسب مجندين جددا ،وتجميع صفوفها ،والقيام بعمليات جديدة ،وزيادة نفوذها السياسي.
٦-انتهاكات ضد الأقليات :في مناطق أخري من العالم شهدنا مزيدا من الانتهاكات ضد الأقليات كالهند وميانمار ،ولكننا في المنطقة حتي الآن لم نشهد مثل ذلك ،إلا أن ذلك لا ينفي احتماله في المستقبل ، فأزمة COVID-19 والاستجابة لها تؤدي إلى تفاقم الجذور الكامنة للصراع ، لا سيما عدم المساواة.
وما شهدناه هو زيادة في الكراهية ضد اللاجئين وتنمر ضد الأجانب ؛حين تتصاعد المشاعر العنصرية في البلدان التي لديها أنماط استقطاب وتمييز واستبعاد ،كما يتزايد العنف القائم على نوع الجنس ، ويجد الضحايا صعوبة في العثور على المساعدة لأن برامج الدعم غير قادرة على الوصول إلى الاشخاص.
ونختم فنقول :أن هناك إجماع واسع بين الباحثين والمراقبين على أن المنطقة تمر بأزمة عميقة ، وهي في خضم عملية ذات عواقب تاريخية تنطوي على صراع مضطرب على هويتها. يستمر هذا الصراع في مجالين ، ويمتد إلى نقاط خلاف مختلفة:الأول ، التي تدور حول النظام الإقليمي ، تُشن بين معسكرات معادية تتنافس على الأفكار ، والسلطة ، والنفوذ ، والبقاء. والآخر بين الحكام والجمهور داخل الدول نفسها ، حيث عانى الناس من مشاكل متعددة تفاقمت خلال سنوات الاضطراب. لقد فاقمت أزمة الفيروس التاجي المشاكل الأساسية للبطالة ، وعدم المساواة ، وانخفاض الإنتاجية ، والحكم ، والفساد ، والاعتماد على النفط والمساعدات الخارجية ، وأضفت بعدا جديدا من عدم اليقين لهم جميعا.
والخلاصة : إن المسارات الخمسة ستتفاعل مع سمة أساسية من سمات الجائحة وهي عدم اليقين والقدرة علي التحديد للاتجاهات المستقبلية ؛لذا فإن سيناريوهات المستقبل سيرسمها التناسق/التناغم الذي يمكن أن يحدث بين العوامل المكونة للمسارات الخمسة ،وأرجو ألا يكون الحاكم فيها العوامل التي ترسم من خارج المنطقة.
Leave a Comment