هل لاتزال الثورة مستمرة :قراءة في النموذج الانتفاضي العربي
نشر في العربي الجديد يناير ٢٠٢١
في عام ١٩٨٩ أهدي إلي أستاذنا د. عبدالوهاب المسيري -رحمة الله عليه- كتابه الذي حمل عنوان :”الانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونية:دراسة في الإدراك والكرامة“.
لعب الكتاب دورا هاما في تكويني المعرفي لأسباب عديدة ؛أهمها أنه يقدم نموذجا معرفيا مختلفا في تحليل الاحداث والوقائع ،ويلتقط منها ما يهمله كثير من المتابعين فتكتسب معنا تحليليا مختلفا ،ويصبح السؤال الاساسي هل النظريات والمفاهيم المستخدمة أكثر تفسيرية للظواهر الانسانية المركبة والمعقدة أم لا؟
وفق هذا الاقتراب كتبت في فبراير ٢٠١٢ مقالا حمل عنوان :”الثورة المصرية والإعلام الجديد:قراءة في النماذج المعرفية“
،استفتحه بالقول:”يتحدث الكثيرون عن أن ثورات الربيع العربى هى بامتياز ثورات الميديا الجديدة [كان هذا هو المصطلح الشائع وقتها لكنه تحول الآن من الجديد ليكون الاعلام الاساسي ],ومع اتفاقنا أن هذه الثورات قد استفادت مما أتاحته الميديا الجديدة من إمكانيات، ولكن مشكل هذا التصور أنه يتعامل مع الميديا الجديدة باعتبارها أدوات للحشد والتعبئة وخلق الوعى وبناء الشبكات، ولم يلتفت إليها باعتبارها تعبيرا عن نموذج معرفى جديد سيكون له تداعياته على مجمل الحراك الثوري”.
المدخل الذي أطرحه في هذه الورقة وتدور حو له جل مقالاتي التي كتبتها من أبريل الماضي حتي الآن؛ ومن المتوقع صدورها في كتاب قريبا هو :ضرورة الانطلاق من فهم أعمق لحقبة الربيع العربي وما خلفته من تداعيات وما أثارته من قضايا، وأنه دون الوصول إلى هذا الفهم مع السعي للتعبير عنه وصياغته في مشاريع لإعادة بناء الدولة العربية المأزومة؛ فسيظل ما يحكم نظرة الفواعل الدولية للمنطقة هو: “الحد من الآثار السلبية لمشاكل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على مناطق أخرى من العالم”،وهذا بالمناسبة مما يختلف معه موقف المواطن العربي الذي تري أكثريته-وفق استطلاعات الرأي أن الربيع العربي ايجابي وإن عاني من تعثرات، فقد اظهرت نتائج المؤشر العربي ٢٠٢٠/٢٠١٩ أن أكثرية الرأي العام العربي ٥٨٪ لاتزال تعد هذه الثورات ظاهرة ايجابية ،في مقابل ٢٨٪ عدتها سلبية.
يجادل كاتب هذه السطور-إذن- أن هناك سردية جديدة لانتفاضات الربيع العربي تعلن نهاية صيغ القرن العشرين ، وفي القلب منها:دولة ما بعد الاستقلال والحركات السياسية الإسلامية والعلمانية التي استندت إلي أيديولجيات شمولية، وأننا بصدد صيغ جديدة لم تتمأسس بعد؛ فقد غلب عليها الاحتجاج و افتقدت إلى بلورة قاعدتها الاجتماعية الحاضنة والدافعة لها،وإن اتخذت مظاهر قيمية وثقافية عميقة؛فما ظهر بشكل ملموس هو عجز الحركات الاجتماعية أو اللاحركات الاجتماعية – مهما كان اتساعها ومهما بلغت مثابرتها، وحتى حين ترفع مطالب محددة – عجزها عن تحقيق ما تصبو اليه.
يحاول البعض إلصاق عدم الاستقرار وتصاعد الصراعات بحقبة الربيع العربي؛ ففي رأيهم أنه قوض الاستقرار السياسي والاقتصادي في عدد من الدول، وأشعل حتى الآن ثلاثة حروب أهلية، وترك ١٠ملايين لاجئ معظمهم في سوريا ولبنان والأردن وتركيا. هذا الحديث يغفل اعتبارين هامين :
١-ضرورة التمييز بين جوهر الربيع العربي وبين عدم القدرة على إدارة مقتضيات الفترات الانتقالية.
الربيع العربي- في موجتيه -تطلع الشعوب العربية وخاصة الفئات الشابة منها للحرية والعدالة الاجتماعية والحكم الرشيد، واحتجاج على الفساد وسوء توزيع الدخل. [انظر تدليلا واقعيا علي ذلك نتائج المؤشر العربي ٢٠٢٠/٢٠١٩ في المرجع السابق]. الربيع العربي هو تعبير -من وجهة نظري – عن تحول تاريخي في المنطقة يعلن نهاية الصيغ القديمة في السياسة والثقافة والاجتماع، وبحث عن جديد لم يتبلور بعد. هو إعلان عن نهاية حقبة وبداية حقبة جديدة، فالمنطقة تعيش في طور انتقالي بين الحقبتين :القديم مرتحل والجديد لم يتمأسس بعد. ومن ثم فنحن نعيش مرحلة خلو العرش بتعبير زيجموند باومان في كتابه: “الحداثة والهولوكوست.”
أما الفشل في إدارة الفترات الانتقالية فحدث ولا حرج ؛ومن كل الأطراف: قوى التغيير لم تدرك طبيعة الزمن الانتقالي فلم تسع إلي بناء التوافقات وتعض عليها بالنواجذ؛ فنجاح مسار بعد الثورات لا يعد دائما أمرًا مؤكدًا،وأحد محددات تحقيق
الثورات أهدافها هو كيف تتصرف نخب التغيير.
وقوي الثورة المضادة- داخليا وإقليميا- حركتها ولا تزال مصالحها الضيقة الآنية فأشعلت الصراعات في كل ركن.
القراءة التاريخية لانتفاضات الربيع العربي هي أننا أمام إعادة تشكل للتاريخ كله في المنطقة، نحن أمام محطة تاريخية فاصلة: فالقديم قاد إلي الانفجار، ولم يعد قادرا على تقديم استجابات لتحديات المجتمع والدولة؛ لكن الجديد لم يتبلور بعد، وهذه هي مهمتنا التاريخية كما أعتقد، واللحظة تمتلء بالكثير والكثير مما يصب في المستقبل، وبمقدار قدرة الفواعل الاجتماعية علي التقاط مقومات هذه اللحظة بمقدار ما سنكون على أول طريق الاستقرار.
أنا أدرك أن مشاريع الماضي المرتحل لم تكن مجرد صياغات وعبارات عابرة تحملها قوة السلطة بالمعنى الذي يقدمه فوكو، إنها شكل ومقترح للحياة، ولطبيعة المجتمع بشبكة علاقاته وهي خطاب وممارسة لتصورات وخيال سياسي واجتماعي واقتصادي، وتصور معرفي للحياة والدولة، تنبثق عنهما أعراف وتقاليد ومؤسسات ولغة وتصور للمجتمع ولأفراده، تصور للذات والآخر يعبر عن نفسه في قوانين وتشريعات ودستور وعلاقات إنتاج.
٢-عدم ادراك طبيعة الفترات الانتقالية؛التي عادة ما تسودها الهواجس والمخاوف لا الحقائق والوقائع؛ ومن ثم فلا قدرة على بناء التوافقات المرحلية أو القطع مع الممارسات السياسية التي سبقت التغيير.
ما يميز الفترات الانتقالية هو انبعاث التناقضات المسكوت عنها ؛حين يتصاعد الجهوي /المحلي، والاثني، واللغوي، والطائفي، والمذهبي والديني، بالإضافة إلى المطالب الاقتصادية والاجتماعية، ومن دون تطوير مقاربات واقتراحات جديدة للتعامل مع هذه التناقضات فسيكون تحقيق الاستقرار أمرًا مستحيلًا.
كما تتسم الفترات الانتقالية بطرح سؤال الهوية الوطنية، وقد أجمعت الدراسات أنه لا نجاح لتحول ديموقراطي دون التوافق علي هوية وطنية جامعة. ومع قناعتي أن الانتفاضات الديموقراطية العربية سوف تساهم في بلورة الهوية الوطنية كما يجري في لبنان والعراق، إلا إنه يجب أن نكون متنبهين لاستخدام معارك الهوية لتبرير الصراع السياسي وكذا محاولة بعض الهويات الفرعية الهيمنة على المشهد السياسي؛ ساعين لتحقيق بعض المكاسب الجزئية علي حساب بناء الهوية الوطنية الجامعة. وفاقم الأمر؛ انبعاث الوعي بمشاريع متناقضة تثير حماسة جهات معينة وهواجس فئات اخرى مثل الحديث عن المشروع الإسلامي أو العثمانية الجديدة أو الهلال الشيعي.
في الفترات الانتقالية تهيمن الهواجس علي الجميع ؛لذا فلا حكم إلا بالتراضي. ويجب أن تكون هناك دائما سياسات وخطابات الطمأنة لمواجهة الشعور بعدم الأمان على المصالح؛ مصالح الدول والفئات الاجتماعية، والهوية، والقوى السياسية والحزبية الأضعف.
يتسم الطور الانتقالي العربي بأن الدولة باتت محل تساؤل بحيث يصير المطلوب بناؤها بإعادة التفكير فيها؛ فالتحدي الاساسي الذي تواجهه الجماعة الوطنية في كل قطر عربي هو إحداث تحول ديموقراطي ذا جوهر اجتماعي؛ أحد شروط نجاحه إعادة بناء الدولة ولكن من خلال طرح صيغ جديدة لإعادة البناء، فقد انتهت صيغة دولة ما بعد الاستقلال، ويجري ذلك في ظل تحلل لمفهوم الدولة في مخيال المواطن العربي وتبديد للرأسمال التاريخي الذي أنجز على مدار القرن الأخير في بعض الأقطار ؛الذي سمح بإنشاء عدد من المؤسسات ذات التقاليد الراسخة التي أدت لقيام الدولة بأداء وظائفها باستقلال عن توجهات النظام السياسي، بحيث بتنا الآن أمام معضلة تصيب كل الدول العربية هي أن : استمرار الدولة مرهون باستمرار النظام السياسي الحاكم، خاصة في ظل تحلل الدولة الوطنية إلى عناصرها الأولية من طائفية وقبلية وإثنية وجهوية ومذهبية.
سمات النموذج الانتفاضي
أولا :الانسان/السر الذي يتبدي في ثلاث ظواهر متكاملة: عدم القدرة علي توقع سلوكه وتصرفاته،وتعقيد الدوافع والاسباب المحركة التي لا يمكن تفسيرها بشكل مادي فقط وفي نفس الوقت لا يمكن اغفال الجوانب المادية منها ،وأخيرا الاهتمام بخصوصية الانسان كانسان بأبعاده الفريدة المركبة ،وبخصوصية السياق الذي يعيش فيه.
١-أثبتت الانتفاضات العربية -في موجتيها -عدم القدرة علي التنبؤ سواء من خبراء المنطقة أو محترفي المنظمات الدولية أو الفواعل الدولية والاقليمية أو حتي حكام الدول العربية وزعماء المعارضة فيها ،وأزعم أن الحراك العربي قد تحدي النماذج المعرفية التي بني عليها كل طرف من هؤلاء نظرته للشعوب العربية ،ويمكن أن أسوق العديد من الادلة والامثلة علي ذلك ،ولكني أكتفي بنماذج ثلاثة :فقد رأي مبارك والقذافي بعد ثورة الياسمين في تونس أن بلدانهما وشعوبهما علي خلاف تونس ،أما البنك الدولي وصندوق النقد فقد كانا يبشران بالنمو الاقتصادي الذي حققه نموذجي بن علي ومبارك ومثلت الاحتجاجات العربية صدمة لهما دفعتهما لاحقا لاعادة النظر في المفاهيم المستخدمة في تحليل الواقع العربي وتطوير إقترابات جديدة وإضافة مؤشرات مختلفة للنظر إليه[انظر مثالا لذلك تقرير البنك الدولي عن اقتصادات الربيع العربي وتوابعه ]
، أما الولايات المتحدة وأوروبا فقد فوجئا بما حدث بما أربك متخذ القرار فيهما فلم يستطع أن يحسم موقفه إلا بعد زمن.[انظر مذكرات أوباما عن ثورة يناير المصرية].
٢-شدة التعقيد؛ من الخصائص المميزة للقرن الواحد والعشرين بما يؤدي إلي تفاعل عوامل متعددة -مادية وقيمية-مع بعضها البعض ،وزيادة التواصل بين ملايين البشر حيث يتأثر الكل بأفعال الآخرين في سياق عملية ديناميكية دائمة فيتواصل التغيير والتعديل.
في النظم المعقدة يمكن لفعل بسيط أو فرد واحد (بوعزيزي مثالا) أن يغير النظام ككل،أو بعبارة أخري فإن تحرك فرد واحد أو جماعة صغيرة في نظام معقد متزايد الترابط من شأنه أن يؤثر في مجمل النظام بسرعة فائقة.
وهنا نقطة يحسن مناقشتها ؛فقد قدمت تفسيرات متعددة للحراك العربي أرجعها البعض لتطورات المشروع النيوليبرالي وتداعياته علي بعض الفئات الاجتماعية خاصة من جهة تغير العقد الاجتماعي ،في حين اهتم بعض الباحثين بتطورات العمران في المدينة العربية وزيادة قاطني العشوائيات بها من جهة تأثيره علي علي طبيعة الاحتجاج ونوعيته التي اتسمت بالعنف ،وقدم آخرون اقتراب الدولة العربية المأزومة مفسرا لهذه الاحتجاجات ..إلخ ما هناك من تفسيرات ،إلا إني أري ضرورة النظر إلي هذه العوامل جميعا من جهة ما يحدث بينها من تناسق وتناغم Synergy نتيجة لشبكية التفاعلات ؛ويصبح التحدي هو كيفية ادراك العوامل المتعددة في تفاعلها مع بعضها البعض وتراكم تأثيراتها،ومن هنا يصير قدرة تحرك واحد علي اطلاق حركة تغييرية شاملة للنظام ككل ،بالاضافة إلي صعوبة التنبؤ به؛ فالظواهر دائمة التغير.أي حدث مهما كان كبيرا أو صغيرا ؛لابد أن يتكشف عن خليط بالغ التعقيد من التأثيرات والأسباب والنتائج؛ جميعها مشروطة بالاخري ومتأثرة بها ومتوقفة عليها.
٣-خصوصية الانسان واختلاف سياقاته تعطي للظواهر -وإن تشابهت في الدوافع والاشكال-تمايزا واختلافا في الخبرات والمسارات ،وتصبح التشكلات التاريخية ومسار بناء الدولة وتكوينات المجتمع وضرورات الجغرافيا السياسية محدد من محددات عديدة ترسم مسارات الانتفاضات وتمايزها من قطر لآخر ،ولا يعني ذلك بأي حال عدم وجود المشتركات والدروس التي يمكن تبادلها مع الإقليم أو العالم من حولنا.
ثانيا: من ايديولوجيا الهوية إلي خطابات المعاش :في هذه النقطة هناك ملمحان:الأول أن المطالب المتعلقة بمعاش الناس الكريم صارت الأولوية الأولي لهم متقدمة علي ايديولوجيا الهوية ،أنا أدرك أنه جري ولا يزال استخدام مسائل الهوية للحشد والتعبئة من أطراف عدة في موجتي الربيع العربي ،ولكنها كانت سبيلا لزيادة النفوذ السياسي وتحقيق مكاسب انتخابية، أو استخدمت للتغطية علي قضايا أخري ،أو لتحقيق التماسك للقاعدة الاجتماعية المساندة. الطريف أن الاحتجاجات تقدم أمثلة متعددة لتجاوز القاعدتين الاجتماعية والتنظيمية للحركات السياسية لموقف قادتهم؛ حين سارعوا بالانضمام للحراك فما كان من قادتهم إلا أن لحقوا بهم بعد أن رفضوا المشاركة فيها أول الأمر ؛جري ذلك في لبنان والجزائر والعراق في ٢٠١٩،كما جري في مصر واليمن والمغرب في ٢٠١١.
الملمح الثاني في هذه النقطة ؛أن المطلوب الآن ليس حديث في المرجعيات الايديولوجية والاطر الفكرية العامة ولكن تقديم سياسات عامة وبرامج تفصيلية من شأنها أن تعالج مشاكل الناس الواقعية وتجيب علي أسئلتهم الصغري ،فالسياسة الآن باتت تدور حول معاش الناس وجوهرها انتقال بالخاص إلي العام.
ويبقي نقطة أخيرة يحسن مناقشتها هنا هل التعددية في المكونات الاديولجية الأربعة(قومي وليبرالي وإسلامي ويساري)التي باتت حقيقة واقعة في المجالات كافة؛ وفي المجال السياسي خاصة تدور حول سياسات عامة متنوعة لها انحيازاتها الاجتماعية الواضحة ،أم أن هناك عجز في بعض التجارب عن تقديم هذه السياسات العامة بدليل استمرار معاناة الناس وتراجع الاحزاب السياسية في أي استحقاق انتخابي.
ألخص فأقول: إن أولوية المواطن العربي الآن هو الملف الاقتصادي الاجتماعي وليس جدالات الهوية ،وأن دور المرجعيات الفكرية المتعددة هي تقديم حلول من خلال السياسات العامة لمشكلات الواقع وليس الوقوف عند منطلقاتها النظرية ،وهذه الحلول تقدم في المجال السياسي عبر السلطة العامة وليس عبر آليات المجتمع المدني أو التبشير الثقافي فقط.
ثالثا:الحرية وهو اسم جامع لظواهر وقيم كثيرة ،وهنا يساعدنا النموذج المعرفي للميديا الاجتماعية علي ادراك جوانبها المتعددة :المعلومات والبيانات صارت ديموقراطية نتيجة القدرة علي انتاج المحتوي وتجهيزه وتدويره وتوزيعه والتحكم فيه من عدد غير محدود من الأفراد والمجموعات بما يتجاوز أية سلطة مركزية أو مؤسسية بما فيها سلطة الدولة. نحن هنا بإزاء غياب للمركز/السلطة بمعناها الواسع،والمرجعية والمطلق ،ويعني هذا انقضاء فكرة الخطاب السديد، والقول النهائى، والتحول إلى فكرة القول المناسب الذى يعنى مناسبته أو ملائمته فى ظل ظرف زمنى ومكانى ومجتمعى محدد، وأصبحت النسبية الشديدة فى القول والفعل هى الحاكمة لمجمل النموذج المعلوماتى المقدم فى الإعلام الاجتماعي. فهناك سيولة شديدة فى المحتوى المقدم وقد أدت هذه الظاهرة إلى عدم العمق الثقافى والمعرفى، فتدفق المعلومات لا ينشئ بالضرورة معرفة.
غياب المركزية، وتأكيد اللاسلطوية، أدت إلي “ثورات بلا قيادات” علي حد تعبير كارين روس،أو قيادة غير عضوية/فضفاضة ــ بتعبير المسيرى فى توصيفه للانتفاضة الفلسطينية الأولى ١٩٨٧.
وهنا يحسن الإشارة إلى أن السلطة الأبوية قد سقطت فى نفوس شباب وشابات الانتفاضات ؛ وهو ما لم تستطع نخب الحكم باعتبارها آخر معاقل السلطة الأبوية فى المجتمع- أن تدركه حتى الآن(كلن يعني كلن).
لقد سقطت سلطة الأب فى الأسرة نتاج عوامل اجتماعية واقتصادية لا داعى للتفصيل فيها الآن، وسقطت سلطة المدرس/المؤسسة التعليمية، وسقطت سلطة الشيخ/القس والمؤسسة الدينية، وسقطت سلطة أجهزة الدولة العربية باعتبار أن جيلنا ــ جيل الثمانينيات من القرن الماضي ــ آخر من شهد سلطة هذه الأجهزة حين تعلم فى مدارسها وتخرج فى جامعاتها وعمل فى بعض مؤسساتها، ولكن الأجيال التالية تهاوت فى نفوسها هذه السلطات جميعا، ثم كان إسقاطها لرأس النظام إسقاطا لآخر رموز السلطة الأبوية فى المجتمع، وهذا يفسر لماذا لم يفلح مع هؤلاء الشباب والشابات الخطاب الأبوى الذى حاولت الأنظمة أن تستميلهم به.
الملمح الاساسي الذي يجب التركيز عليه هنا هو أننا بصدد إعادة صياغة لعلاقة المواطن العربي بالتيمات الكبري في حياته ؛في علاقته بالوطن والاسرة والدين والذكر والانثي إلي آخر ما هنالك من تيمات أو ما ظن أنه محرمات ،ويتواكب مع ذلك الاستهلاك الشره والسريع للمحتوى والرموز والمؤسسات التى تتفاعل في المجال العام ؛فهناك تجاوز سريع ومتسع لها.
في جوهر هذه الظواهر تأتي قيمة التعددية كقيمة مركزية؛ فشبكية التفاعلات تزيد من تصاعد حضور المحلي/الجهوي والاثني والديني ..إلخ ،وهذا يمثل تحديا مهما للدولة القومية-التي تأثرت بصيغتها دولة ما بعد الاستقلال في المنطقة -التي تفترض التجانس في مقابل النزعة الشبكية التي تفترض التنوع والتعدد.
يرتبط بنزعتي الحرية والتعددية أيضا نزعة فردية شديدة ؛الفرد-في الاعلام الاجتماعي- تعاظم دوره فى إنتاج المحتوى وتدويره والتفاعل معه وذلك فى مقابل المؤسسة المحترفة التى كانت تستقل بإنتاج المحتوى، كما ازدادت مسحة تعبير الفرد عن ذاته ،وهنا فقدت الوكالة في المجال السياسي أهميتها ،واستعاد الناس سلطة حسم الأمور لأنفسهم ،وكلما اقتربنا أكثر من ادارة شئوننا بأنفسنا ؛نحصل علي نوع من الاشباع والانجاز ،وربما علي نوع من المعني ،لذا يغدو المعني الذي جسدته شعارات الانتفاضات العربية الأهم من كل شيئ ،وهنا كان ابداع النموذج الانتفاضي العربي حين رأي أن استعادة المعني (الكرامة والوطن والعدالة والحرية) يمتزج ولا ينفصم عن الحاجات الاساسية من خبز ومأوي وصحة.
وأخيرا؛فإن تحدي الانتفاضات العربية هو قدرتها علي أن تنبع السلطة من أسفل وتتسع لقاعدة شعبية أوسع ،وهو ما عجزت عنه حتي الآن.بعبارة أخري الانتفاضات العربية تعيد تعريف السياسة التي جوهرها هو حق الناس بادارة مختلف شئون حياتهم كما يتمنون.
رابعا: حضور نسائي طاغ :تقدمت النساء في هذه الانتفاضات الصفوف متجاوزة ثنائية الذكر /الأنثي التي حكمت التفكير النسوي التقليدي والخطابات الإسلامية التي تقوم علي الفصل بينهما مستندة إلي تأويلات محافظة للنص الديني ؛تجاوزت هذه الممارسات نحو أفق المواطنة ؛فلم تعد تدرك ذاتها في المجال العام من منظور ثنائية ذكر/أنثي ولكن من مدخل المواطنة.لم تعد المرأة داعمة وإنما فاعلة ومحركة ومشاركة ،لقد تحولت إلي مواطنة كاملة المواطنة.
هذا الاقتراب الجديد الذي دشنته انتفاضات الربيع العربي سيكون له تداعيات علي حضور النساء في المجال العام خاصة أن هذا المنظور يدعمه تطور آخر وهو أن قضاياهم باتت تطرح ليس من منظور نسوي ضيق ؛ولكن في علاقتها بالقضايا العامة الأخري وهذا من شأنه أن يوسع القاعدة الاجتماعية الداعمة لها.
Leave a Comment