نُشر في الجزيرة.نت – يوليو 2021

طالع أيضا – (الإسلاميون وأزمة السلطة بعد عقد من الربيع العربي 1)

في السجن -عندما كان متاحا- كنت أقدم برنامجا على نظارة الزنزانة الانفرادية بعنوان “تخاريف”، أحاول أن أطرح فيه بعض الأفكار الجديدة التي تهز القناعات المستقرة عند قطاع من المسجونين الذين تنوعوا من محبس لآخر.

وفي إحدى المرات تحدثت عن إعادة تفكير الحركات والأحزاب الإسلامية في السياسة من خلال خبرة الربيع العربي، ومما قلته وقتها إن هناك محددات خمسة لإعادة التفكير، هي التصالح مع الدولة الوطنية مع إعادة تعريفها، والانتقال بسياسات الهوية إلى الانحيازات الاجتماعية/ الاقتصادية التي تعبر عن مصالح فئات اجتماعية محددة، والفصل بين الدعوي والحزبي، واستخدمت الحزبي وليس السياسي، وامتلاك مشروع لإدارة الدولة مع تجاوز البعد الطائفي/ التنظيمي نحو أفق وطني أرحب.

في الجزء الأول من المقال تناولنا المحاور الثلاثة الأولى: سردية الحركات السياسية الإسلامية في القرن الـ20، وسردية الانتفاضات العربية، ونهاية استثنائية الحركات السياسية الإسلامية، في هذا المقال نستكمل المحاور: الإسلاميون في الزمن الانتقالي، وحديث عن المستقبل.

الخطاب الدعوي يتحرر من الأرضية الاجتماعية ومن العلاقات المادية القائمة، ويجعل من السياسة ذات طبيعة ثقافية لا تتحرك على أرضية اجتماعية، بمعنى أنها اختزلت في معارك ثقافية وفكرية

رابعا: الإسلاميون في الزمن الانتقالي

دخل الإسلاميون حقبة الربيع العربي بسرديتهم التي سبق الإشارة إليها، وما اتسمت به من خصائص خمس، فأنتجت عددا من الإشكاليات التي لم يستطيعوا أن يتجاوزوها حتى الآن، وهي إشكاليات عامة بين الحالات الثلاث وإن اكتسبت خصوصيتها وفق كل سياق:

  • بين الهوياتي والبرامجي:

تجمع الحالات الثلاث على هذا المشكل الذي اتخذ مظاهر متعددة، فلم تكن هناك علاقة واضحة بين الاثنين، ولم يتحدد كيف يمكن أن تحكم المرجعية الإسلامية البرامج والسياسات في الممارسة العملية، كما تقدمت في أحيان مطالب الهوية دون مراعاة لموازين القوى أو تذبذبت بين الأيديولوجي والبرامج الانتخابية كما في حالة تونس، أو لجوء إليها على أرضية من يمثل الإسلام سياسيا كما جرى بين الإخوان وسلفيي الإسكندرية، أو للحشد والتعبئة كما جرى في الصراع مع جبهة الإنقاذ في مصر.

وأخيرا، فإن المكون الهوياتي في الحالات الثلاث قد أبرز الخلاف بين المثالية الإسلامية والممارسة السياسية، أو ما عبر عنه أبو اللوز من “صعوبة بناء معادلة متوازنة بين خطاب سياسي مرجعي مرتكز على الهوية الإسلامية وخطاب سياسي يتأسس على حجة التنمية” التي أدت بالإسلاميين جميعا في السياسة لاتخاذ مواقف تبدو بعيدة عن الخطاب الإسلامي كما كانوا يطرحونه من قبل.

  • بين الدعوي/ الأخلاقي والسياسي:

خصائص الخطاب الدعوي أنه مفارق للطبقات، بمعنى أنه لا يدرك التناقضات الطبقية ولا تحتل وزنا في أولوياته، فمن طبيعته أنه يخترق الطبقات جميعا رغبة في التعبير عن المجتمع كله، وكما يرى وائل جمال في ورقته “الرأسمال الضائع” فإن “هذه الحركات تزعم أنها تمثل كل المجتمع، وتجنبت كل المقاربات التي قد تبرز الخلافات الطبقية أو الصراعات الاجتماعية”.

هذا الحجب النسبي سمح تاريخيا لجماعة الإخوان وما انبثق عن أطروحتها أن تكون قوة جذب لجماعات ذات مصالح متنافرة، الأمر الذي مكن الحركة من جذب أفراد متنوعين”، إلا أنه في نفس الوقت جعلها تفشل في التعبير عن قاعدتها الانتخابية التي تركزت أساسا في الطبقتين الوسطى والدنيا، مما أفقدها شعبيتها.

الخطاب الدعوي يتحرر من الأرضية الاجتماعية ومن العلاقات المادية القائمة، ويجعل من السياسة ذات طبيعة ثقافية لا تتحرك على أرضية اجتماعية، بمعنى أنها اختزلت في معارك ثقافية وفكرية، وليس تغيير موازين القوى السياسية والاقتصادية وتفكيك بنية الاستبداد والاستغلال والفساد، كما أدى إلى وضع مهام شمولية وكونية على الحركات الإسلامية أكبر من حجمها التنظيمي، وفق أبو اللوز الذي يضيف أنه أنتج سياسة تجري أو يحكمها المطلق وليس التراضي والتوافق بين المجموعات والأفراد المختلفين.

وإذا امتزج بذلك خطاب أخلاقي يهدر معه الحديث عن البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل والثقافية التي تنتج الاستبداد والفقر والتمايز والتناقضات الطبقية في المجتمع، وما يرتبط بها من شبكات امتياز محلية وإقليمية ودولية، وبالتالي فلا حديث عن السياسات العامة لتفكيك هذه البنى، خاصة إذا تواكب أو امتزج ذلك بالحديث عن الإحسان والصدقات والزكاة.

ويفاقم مشكل الممارسة السياسية التي لا تقوم على اختيارات محددة تحكمها رؤية كلية أن أيديولوجية الحركات السياسية الإسلامية غامضة ممتزجة بالبراغماتية، فهي وإن انطلقت من مرجعية الإسلام كدين إلا أن الإطار الديني دائما وأبدا حمال أوجه متعددة من التفسيرات والتأويلات التي تصل في أحيان كثيرة إلى التناقض والتنافس بين أتباعها، بل أزعم أن أحد الصراعات الأساسية التي جرت ولا تزال في المنطقة الآن تدور حول أنماط التدين المتعددة في المجتمع، خاصة أن وراءها قوة دفع من مؤسسات ومصالح وارتباطات داخلية وخارجية.

  • طبيعة الأيديولوجية الصادرة عن الأديان:

إنها منفتحة على مختلف التفسيرات والتأويلات وتتفاعل بشكل متعدد مع السياقات التي تتحرك فيها، كما تستخدم المقولات الدينية لتسويغ الاختيارات والانحيازات الاقتصادية/ الاجتماعية، وفي أحيان كثيرة تتجاور الانحيازات دون شعور بالتناقضات بينها، فإشارات للعدالة الاجتماعية مع إيمان بالسوق الحرة في نفس الوقت.

وقد حرصت هذه الحركات قبل الربيع العربي وطوال تاريخها الممتد على عدم الاختيار لسياسات اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية محددة إلا مضطرة، فقد وعت نفسها كطرف مستقل خارج المجتمع والدولة يحمل أفكارا مجردة بلا مضامين اجتماعية/ اقتصادية، والمضامين السياسية اضطرت لاتخاذها اضطرارا.

يمتزج بهذه الخاصية أن الممارسة العملية هي التي ترسم ملامح الأيديولوجية، لذا فمن الأخطاء المنهاجية أن يتوفر الباحثون على تحليل النصوص دون تتبع الممارسة العملية، فالممارسة عند الإسلاميين -في أحيان كثيرة- تسبق الرؤية النظرية، وهذا يجعل من الفكرة الإسلامية عندهم وعاء فارغا غامضا بلا مضمون محدد، ويؤدي إلى تأثرهم بالسياقات التي يعملون فيها، وقد أدى ذلك إلى قدرتهم على ضبط مواقفهم الأيديولوجية لمواكبة التغيرات التي تحدث، وفي نفس الوقت أدى بهم إلى الظهور بمظهر البراغماتية.

غياب الرؤية الحاكمة ينتج تناقضات متعددة وتبدلا في المواقف رصدها الأستاذ الدكتور أبو اللوز بالتفصيل في بحثه تطبيقا على العدالة والتنمية المغربي.

دخلت حركات الإسلام السياسي في البلدان الثلاثة حقبة الربيع العربي وهي تعاني من تداعيات الخلط بين الدعوي والسياسي، وأدركت قيادتها عواقب هذا المأزق فسعت للتعامل معه، ففي الخبرة المغربية -على حد قول أبو اللوز- قد انتقلت عبر مراحل ثلاث من الخلط بينهما، ثم الفصل بينهما وعيا بتفاوت المهمة السياسية عن الدعوية مع إقرار التخصص، وأخيرا تأتي المرحلة الثالثة التي يطلق عليها الانخراط في البراغماتية أو غلبتها.

يقيم الجورشي محاولة النهضة ترتيب العلاقة بين المجالين، وينتهي إلى أنها لم تذهب كثيرا في الفصل بين الدعوي والسياسي، مما جعلها في مرمى خصومها رغم الجهود التي بذلتها لتكون حزبا مدنيا بمرجعية إسلامية، ويرى أن ما طرحه بعض كوادر الحزب من انتقاله إلى أن يكون حزبا محافظا بالمعنى الغربي يتطلب تنظيرا مع تنسيجها بقواعد نظرية وعملية، وهنا يبرز الفرق بين ورقتي أبو اللوز والجورشي، فالأول يبرز إشكال العلاقة بين المجال الديني الإسلامي والحداثة في المجال السياسي ومن ثم يطالب حزب العدالة والتنمية بحل هذا المشكل، ولا أدري إن كان هذا من مقتضيات وظيفته كحزب أم من بقايا دوره الدعوي، في حين يري الجورشي تحول النهضة إلى حزب بالمعنى الحديث، وهنا يصبح السؤال عما سيتبقى من الإسلامية في حزب النهضة حينئذ.

  • بين الاحتجاجي وإدارة الدولة:

هذه الخصيصة لا تخص الإسلاميين وحدهم، بل تمتد إلى قوى المعارضة العربية كافة، فقد حرمتهم الأنظمة السياسية قبل هذا العقد من مجرد الخيال بأن يصلوا إلى مقاعد الحكم، وقد فاجأتهم الانتفاضات العربية كما فاجأت الجميع، وفاقم الأمر عند الإسلاميين حرمانهم من تبوؤ أي مناصب ذات شأن في جهاز الدولة، لذا فلم يدركوا معنى الدولة وكيفية عمل جهازها وتصرفوا أحيانا كثيرة وهم في الحكم بمنطق الحزب المعارض أو وفق آليات المجتمع المدني.

ونتج عن ذلك أنه لم تكن لدى هذه الحركات حين وصلت للحكم حلول لكيفية التعامل مع مشاكل الواقع المزمنة، وافتقرت إلى إستراتيجية اقتصادية اجتماعية متماسكة أو خطة للتعامل مع الطور الانتقالي.

تبرز التجربة المصرية القصيرة كيف تم الخلط بين طريقة تدخل التنظيم باعتباره أحد تجليات العمل الأهلي وبين سياسات السلطة التي تملك الإكراه المادي للتنفيذ، وتوضح التجربة المغربية عواقب الانتقال من الاحتجاجي إلى دور الوسيط في الحياة السياسية بما أفقده المصداقية وأصابه بالهامشية والعزلة وأودى به إلى الانقسام الداخلي، وفي تونس فإن الحركة -وفق الجورشي- وإن رفعت شعار العدالة إلا أنها لم تملك مضامين واضحة لتحقيق هذا الشعار، كما لم تكن لديها الخبرات اللازمة والكوادر البشرية القادرة على تنفيذ هذا الاختيار.

  • تجاوز الشرعية التاريخية مع غموض الشرعية الجديدة:

قامت شرعية الإسلاميين تاريخيا على عدد من الأسس، منها أسلمة المجتمع وإقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة، وقد انتقلوا -كما في التجربة التونسية والمغربية- إلى تبني مفهوم الدولة الوطنية رغم مأزوميتها وغياب مشروع لإعادة تجديد أسسها في مرحلة إعادة التفكير في دولة ما بعد الاستقلال.

أما ملامح المجتمع المأمول فحدث ولا حرج، فمن صدام مع الحركات النسوية كما في تونس، وميل نحو “التسلف” والمحافظة الدينية تحت ضغط الجماعات السلفية في مصر، وأخيرا قبول لفرنسة التعليم في المغرب.

ويثير أبو اللوز مشكلا على جانب كبير من الأهمية سبق أن أشرت إليه، وهو موقف الإسلاميين من الحداثة في المجال السياسي، والتي تطرح مشكل إعادة التفكير في السياسة والدولة، فقد كتبت محذرا من أواخر الثمانينيات من خطورة تضخم المكون السياسي الصراعي/ التنافسي في العمل الإسلامي، وكانت حجتي وقتها أن السياسة بحكم الطبيعة والتعريف تعيد صياغة بقية مكونات العمل كله ليكون على مثالها وصورتها، ويتعمق ذلك في ظل عدم امتلاك نظرية للدولة وفهم لطبيعتها المعاصرة، ويزداد الوضع تفاقما إذا فهمنا أن الإسلام السياسي في جزء منه هو تمرد على الدولة الحديثة برمتها: تمرد على حاكمية هذه الدولة وإطلاقيتها، تمرد على تطبيقاتها القسرية للحداثة الغربية، ولكن في نفس الوقت يقع في حبائلها، وقد عبر وائل حلاق عن هذا المأزق في كتابه “الدولة المستحيلة” خير تعبير.

تدلنا خبرة الربيع العربي في موجته الثانية -وقد كان الإسلاميون في السلطة وليس في المعارضة كما الموجة الأولى- أنهم تصرفوا في مواجهة الاحتجاجات كما تصرف غيرهم، بل تشابهت الخطابات مع مقولات أي مستبد يحكم رغم أن هذه الاحتجاجات لا تعترض على سياسي أو سياسة محددة فحسب، ولكن على المعنى الحقيقي “للسلطة” التي تمارسها هذه الأحزاب.

تبرز التجارب الثلاث -وإن كان من سياقات مختلفة- حدود السلطة التي يتمتع بها الإسلاميون في الحكم، وهنا يمكن الإشارة إلى مفهوم الدولة العميقة في مصر، والمخزن في المغرب، وموازين القوى المحلية والجيوسياسية في تونس، ويصبح التساؤل عن حدود أسلمة المجتمع باستخدام السلطة، وموقع السلطة من مشروع الإسلاميين في تطبيق الشريعة -كما في الحالة المصرية- مشروعا، لكنه في الحالتين التونسية والمغربية قد تم التخلي عن هذا الهدف ليصبح السؤال نحو ماذا؟

تقدم لنا ورقتا أبو اللوز والجورشي بداية إجابة، فالجورشي يرى ضرورة دعم المسار الديمقراطي، في حين يرى أبو اللوز أهمية بناء معادلة متوازنة بين خطاب سياسي مرجعي مرتكز على الهوية الإسلامية وخطاب سياسي يتأسس على حجة التنمية، ويضيف مهمة أخرى أصعب -على حزب تحكمه إستراتيجية الاندماج في المجال السياسي المغربي وفق قواعده- وهي التعامل مع الحداثة في المجال السياسي باعتبارها مؤطرة لهذا المجال من خلال تدبير التناقضات التي تظهر بينها وبين الثقافة الإسلامية.

وهنا ليسمح لي المشاركون في المؤتمر أن أقدم سردية الربيع العربي كما شرحتها من قبل سبيلا لإعادة إنتاج الإسلامية في المجال السياسي، وقد تناولته بالتفصيل في مقال سابق.

يناقش الباحثون الثلاثة في ضوء ما سبق الهدف الواقعي لكل حزب، فالعدالة والتنمية والنهضة بات مقصدهما التكيف مع مقتضيات السياسة القائمة كما يرسم ملامحها المخزن بشبكة مصالحه وامتيازاته، أو البقاء في السلطة -رغم الخسارة المستمرة وتراجع الشعبية- للحفاظ على الذات كما في تونس، أما مصر -كما يرى زغلول- فقد كان الهدف هيمنة التنظيم على الدولة مع استشعاره البقاء في الحكم لفترة طويلة.

  • بين الإصلاحي والثوري: يطرح شلاطة في ورقته هذا الإشكال الذي واجه جماعة الإخوان بعد الانقلاب العسكري في مصر عام 2013، لكن المعضلة في هذه الثنائية جاءت من زاويتين: الأولى أن المناقشة تمت من مدخل استخدام العنف السياسي أو ما أطلق عليه العمل النوعي وقتها، والثاني أن النقاش جرى على أرضية الفقهي بالمعنى التقليدي دون التقاط للنقاشات الحديثة في هذا الموضوع، والأهم من وجهة نظري ما طرحته الانتفاضات العربية من ضرورة تغيير صيغة الثروة والسلطة القائمة بما يعنيه من تغيير جذري ولكن في إطار تدرجي، أي ثورية المطالب وإصلاحية العمل.

فهل هذا مما يتناسب مع حركة كانت طبيعتها تاريخيا إصلاحية وإن حملت تغييرا جذريا في أسس بناء الأمة.

خامسا: حديث في المستقبل

عانت الأوراق الثلاث من ضعف في مناقشة السياقات التي جرت وتجري وستجري فيها تجربة الإسلاميين، واقتصرت في جلها على السياقات الوطنية فقط وفي المجال السياسي دون التفاتة لتغيرات المجتمع وقواه الفاعلة من الشباب، تحولات الظاهرة الدينية -خاصة وسط الشباب والشابات- مما يستحق المتابعة، فهي ظاهرة ديناميكية متحركة لا تتسم بالثبات وتحمل الجديد دائما، وبات الصراع حول أنماط التدين أو ما أطلق عليه روح الإسلام.

في الإقليم أحد محاور الاستقطابات، وأخيرا فلا يزال الإسلام لديه القدرة على اجتذاب المنطقة اليوم، كما أن الطريقة التي تتعامل بها الميول الفكرية الإسلامية المختلفة مع الأزمات المتعددة التي تواجه المنطقة في السنوات القادمة ستؤثر على الدور المتطور للدين فيها على المدى الطويل.

محددات أربعة تحكم مستقبل الإسلام في منطقتنا، ولا أقصد الإسلام كدين ولكن الخطابات الإسلامية المتنوعة وتحدياتها المختلفة: المحدد الأول هو قدرتها على التجديد في مواجهة تحولات الشباب في علاقتهم بالدين، والمأزق الذي انتهت إليه جميعا بعد عقد من الربيع العربي، ويرتبط ذلك بالمحدد الثاني وهو نتائج الصراع الإقليمي الدائر بين المحاور المتشاكسة والذي يتسم بالسيولة وعدم اليقين وإعادة التموضع بين أطرافه الرئيسية، وثالثا: تأتي التطورات العالمية من جهة علاقتها بالمنطقة وما تطرحه من تدفقات تغير طبيعة العالم، خاصة في مرحلة ما بعد كورونا التي يعد من وجهة نظري المحدد الرابع والأخير.

  • 6 سمات للتدين الشبابي 

هناك العديد من السمات للتدين الشبابي، فتدين الجامعيين من شباب وشابات ما بعد الانتفاضات ذو طبيعة فردية، نواته الصلبة لا تتكون بالتنظيمات وإنما بشبكية التفاعلات وكثرة المبادرات التي يجمعها علم شرعي وتصوف عاطفي، وتتشكل ملامحه على وسائل التواصل الاجتماعي وبالممارسة العملية لا الخطاب الأيديولوجي، ويتميز بحضور نسائي طاغ، وموقفه من السياسة لم يتحدد بعد وإنما ترسمه السياقات وتطورها.

هذه السمات تجد تفسيرها في نموذج وسائل التواصل الاجتماعي باعتباره نموذجا معرفيا، فوسائل التواصل الاجتماعي ليست مجرد أدوات تستخدم وإنما تعبير عن قيم وممارسات ونموذج معرفي.

  • الصراع على روح الإسلام: ملامح خمسة مشتركة لهذا الإسلام الذي تقدمه القوى والمحاور الإقليمية وإن ساد الصراع بينها، فهو يدور على إسلام منزوع الديمقراطية، مندمج في السوق، أي ذو طبعة نيوليبرالية، وممتزج بالعنف لأنه يقرن القوة الناعمة بالصلبة رغم أنه يقدم نفسه للعالم باعتباره منفتحا متسامحا، ويلعب دورا في مناهضة التطرف العنيف، لكنه في نفس الوقت لا ينظر لحال شعوبه.
  • من صدام الحضارات إلى صراع الهويات 

بالحديث عن صراع الهويات هناك في تقرير الاتجاهات الإستراتيجية 2040 -الذي صدر في مارس/آذار الماضي عن مجتمع الاستخبارات الأميركية- توقع للعقدين المقبلين أن يحدث تنشيط للهويات ما دون الوطنية بما يتحدى الانتماء القومي الذي قامت عليه الدولة القومية، بالإضافة إلى بروز الهويات ما فوق الوطنية بحكم العولمة، خاصة بعد تدفق المعلومات.

ووفق تصور التقرير، ينجذب كثير من الناس نحو مجموعات مألوفة ومتشابهة التفكير من أجل المجتمع والأمن، بما في ذلك الهويات العرقية والدينية والثقافية، وكذلك التجمعات حول المصالح والأسباب، هذه المجموعات أكثر بروزا، وفي نزاع، مما يخلق تنافرا بين الرؤى والأهداف والمعتقدات المتنافسة.

كما يتم إنشاء مزيج من الهويات العابرة للحدود البارزة حديثا، وانبعاث الولاءات الراسخة، وبيئة المعلومات المنعزلة، وتباين خطوط الصدع داخل الدول، وتقويض القومية المدنية، وزيادة التقلبات.

ورغم أن التقرير لا يقدم لقارئه من صانع ومقرر السياسات الأميركية ماذا يمكن أن يفعل لمواجهة أو الاستفادة مما يمكن أن نطلق عليه “صراع الهويات” فإن الأطروحة الأساسية التي استند إليها التحليل من شأنها أن تغذي جوانب هذا الصراع، فهي لم تستطع أن تميز بين المظالم التي تتحرك عليها هذه الهويات وبين مكونات الهوية، بمعنى آخر: هل الصراع يدور حول الهويات أم تستخدم وتوظف الهويات للتعبئة حول المظالم المشتركة التي هي بحكم الواقع عابرة الهويات بل باتت معولمة أيضا؟

فالتفاوتات الاقتصادية والاجتماعية نجدها في أميركا كما نجدها في أي دولة نامية، وهكذا الفساد، إلى آخر ما هنالك من ظواهر، وهنا نكون أمام التساؤل الأساسي: هل نحن إزاء صراع للهويات أم صراع حول المصالح والموارد، في ظل امتزاج شديد للمشاعر الدينية والثقافية والعرقية بالمظالم والتفاوتات في توزيع الموارد؟!

ويغدو السؤال مطروحا حول تأثير صراع الهويات على الحركات السياسية الإسلامية.

هذا غيض من فيض المستقبل مما يمكن أن تكون له تداعيات على أين سيصل قطار الإسلاميين في تضاريس السياسة العربية؟

Share: